ليس ما ينقص القاهرة هو قاعات المسرح، ومع ذلك فإن افتتاح"مسرح الجنينة"في حديقة الأزهر، بعد غد الخميس، يعتبر حدثاً ثقافياً مهمّاً يستحق الحفاوة والترحيب. إن العاصمة المصريّة، كما هو معروف، أعرق المدن العربيّة وأقدمها علاقة بفنون الفرجة والاستعراض! وفي مصر عشرات الصالات والفضاءات التابعة للقطاعين الخاص والعام، والقادرة على استيعاب مختلف الأعمال الفنية والمشهديّة. لكن المشكلة التي تواجهها مصر، هي ربّما من نوع آخر. إنّها مشكلة البرمجة، بل السياسات الثقافيّة والخيارات... وآليات اتخاذ القرار الثقافي. فالامكانات المادية موجودة في شكل أساسي لدى مؤسسات الدولة وأجهزتها. وكل احتمالات البرمجة الفنية والثقافيّة كانت حتّى الأمس القريب - اذا استثنينا عمل المراكز الثقافيّة الاجنبيّة وبعض الجامعات الخاصة - خاضعة لتلك المؤسسات ولموظفيها وللاعتبارات السياسية والذاتية والبيروقراطيّة التي نعرف. طبعاً هذا الكلام لا يقصد الاساءة الى المؤسسات الثقافيّة الرسميّة في مصر، وبعضها قدّم ويقدّم انتاجاً لافتاً يستحقّ التقدير والاهتمام. لكنّ هذه الأخيرة تعاني من المشاكل نفسها التي يعاني منها القطاع العام في معظم الدول العربيّة. وهو قطاع بات في أمسّ الحاجة الى التطوير والتحديث، دفاعاً عن حضوره ودوره، ولقطع الطريق أمام القائلين ب"خصخصة الثقافة والفنون"كحلّ وحيد لتجاوز التكلّس والبيروقراطيّة والجمود. فالخصخصة، بلا شك، من شأنها أن تعرّض الثقافة الى منطق السوق وأهوائه، وتحوّلها سلعة بين السلع، خاضعة لقوانين العرض والطلب، وتغلّب بالتالي منطق التسلية والترفيه على قواعد الفنّ والذوق والابداع. من هنا يبدو تجديد السياسات والاجهزة الثقافيّة ضرورة ملحّة في مصر وسائر العالم العربي... ومن هنا أيضاً، بروز مؤسسات ثقافيّة أهليّة، في السنوات الأخيرة، تسعى إلى سدّ الثغرات الموجودة، وتنشيط الحياة الابداعيّة، وانتاج الاعمال الفنية الجادة ونشرها، وفرز جمهور جديد، واسع ومتنوّع من الشباب أساساً، معنيّ بالتواصل مع أشكال الابداع كافة، ومع شتّى العروض الفنيّة، كشكل من أشكال الممارسة اليوميّة والسلوك المترسّخ في حياة المدينة... هكذا انطلق مثلاً في القاهرة، قبل فترة، مركز ثقافي خاص هو"ساقية الصاوي"في الزمالك، بمبادرة من رجل الأعمال محمد عبد المنعم الصاوي، احياء لذكرى والده الكاتب والصحافي الراحل، وبات اليوم يشهد نجاحاً وإقبالاً ملحوظاً على نشاطاته وبرمجته. وفي السياق نفسه تأسست العام 2003، في القاهرة أيضاً، مؤسسة"المورد"الثقافيّة، حاملة طموحات كبيرة، تتجاوز الحدود المحليّة وتحمل تطلعات الاقليميّة. وطبعاً، كالعادة حين تكون الطموحات كبيرة، تكون المخاطرة أكبر، ويكون الخوف على المشروع أكبر أيضاً. يطرح نشاط"المورد"كثيراً من القضايا والتساؤلات التي يضيق المجال عن تناولها هنا، من طريقة التمويل وآلياتها إلى الطموحات التي تحرّك مديرتها ومؤسستها بسمة الحسيني... والتي قد تهدّد وجود مؤسسات ثقافيّة مستقلّة أخرى ناشطة منذ سنوات في هذه المدينة العربية أو تلك، ولا تملك امكانات"المورد"وشبكة علاقاتها مع المؤسسات المانحة في العالم... ولندع هذا النقاش الى مناسبة أخرى، متوقّفين اليوم عند"مسرح الجنينة"الذي راهنت عليه مؤسسة المورد، والذي يتوقّع أن يكون فضاء فنياً وثقافياً مغايراً يساهم في تنشيط الحياة الثقافية والفنية في مصر. يبدأ الرهان من احياء هذا الموقع المهمّ بمحاذاة سور صلاح الدين الأيوبي، فوق هضبة تبلغ مساحتها نحو 80 فداناً، وكان مكباً للنفايات منذ قرون ثلاثة! وها هو يستحيل حديقة جميلة افتتحت قبل أسابيع، والمشروع قامت بتمويله وتنفيذه مؤسسة"آغا خان"المعروفة التي تعنى بالدفاع عن التراث المعماري الاسلامي واحيائه. وعهد إلى"المورد"بحيّز داخل حديقة الازهر كي تقيم مسرحاً يحتضن نشاطاتها. وصمّم الفضاء نصف المكشوف الذي يطل على المدينة شرقاً، ويتسع لزهاء 250 مشاهداً، الفنّان والمعماري طارق أبو الفتوح، مدير"صندوق دعم شباب المسرح العربي"وأحد أعضاء"مسرح الورشة"السابقين، وتدين اليه الفرقة المصريّة المذكورة بسينوغرافيا بعض أهمّ عروضها. ما هي سياسة البرمجة التي يقترحها"مسرح الجنينة"؟ تقول المديرة التنفيذية ل"مؤسسة المورد الثقافي"بسمة الحسيني، في حديث إلى وكالة"رويترز"، إن المسرح الجديد سيقدم"موسيقى عربية تخاطب المستمع العصري، وسيسعى الى اجتذاب جمهور واسع من الشباب عبر برامج موسيقية ومسرحية متنوعة تقدمها على مدار العام فرق ومجموعات فنية مستقلة". طبعاً هذا التوجّه العام يبقى برسم المستقبل، وأشكال تطبيقه، ومدى القدرة على التنسيق مع جمعيات ومؤسسات عربيّة ناشطة في مجالات فنية عدّة، وطبيعة توجّهاته الجماليّة والفكريّة وعلاقته ب"التراث"من جهة، وب"الفنون المعاصرة"من جهة أخرى... وفي انتظار مرور الوقت الكافي للحكم على التجربة، سيكون موعد الجمهور القاهري مع الاحتفالات بتدشين"مسرح الجنينة"، على امتداد ليال أربع ابتداء من مساء الخميس. في حفلة الافتتاح، سيكتشف الجمهور الموسيقي اللبناني وعازف الساكسفون توفيق فروخ الذي يشتغل على العلاقة بين الموسيقى الشرقية وموسيقى الجاز. ويحيي الحفلة الثانية الموسيقي الفلسطيني وعازف العود خالد جبران الذي يقدم تحية الى سيد درويش. وفي الذكرى 75 لولادة صلاح جاهين، يقف علي الحجار يوم السبت المقبل على خشبة"الجنينة"ليقدّم بعض قصائد جاهين التي غنّاها وأبرزها"الرباعيات". أما حفلة الختام فتحييها فرقة"حوار"السورية التي تهدي احدى مقطوعاتها الى ادوارد سعيد.