عادت قضية الحوار لطرح نفسها على الساحة من جديد، ولكنه هذه المرة حوار اقترحه وزراء خارجية أوروبا على اتحادهم لاتخاذ قرار في شأن فتح حوار مع الحركات الإسلامية المعتدلة في العالم العربي، كنا نتوقع أن يفتح عدد من الأنظمة الحاكمة في الوطن العربي حواراً مع شعوبه، خصوصاً القوى الحيّة منها والتي أبعدته قسراً وظلماً عن الساحة السياسية أو غيّبت في أقبية السجون، وافتعلت حوارات شكلية لارضاء الأطراف الخارجية، فإذا بالحوار المطروح يأتي من خارج الحدود، أيّ حوار؟ وأيّة أجندة مطروحة للحوار؟ وما هي الدوافع الحقيقية لطرح الفكرة؟ وما هي أهداف الأطراف المختلفة؟ ثم إلى أين يفضي مثل ذلك الحوار إن تَمَّ وجرى؟ وما هي العقبات التي تقف في طريق نجاح حوار كهذا؟ أسئلة كثيرة فرضتها فقرة في توصيات وزراء الخارجية الأوروبيين وحوارات صحافية وتلفزيونية وإذاعية متعددة حاولت تناول المسألة، لم تقنع المواطن العربي والمسلم الذي يتفرج على جدال النخب في بلاده، فإذا به يرى جدالاً آخر على وشك الانطلاق من خارج البلاد، وهو صاحب الشأن لا يهتم أحد بتنويره أو شرح الأمور له، وهذه إحدى المحاولات. كانت أميركا أسبق إلى دراسة الحركات الإسلامية والتعامل معها عقب الثورة الإسلامية الإيرانية التي أطاحت عرش الطاووس أحد ركائز السياسيين الأميركيين في الشرق الأوسط، ثم كانت أزمة الرهائن في السفارة في طهران مدعاة أكبر لمحاولة إيجاد قنوات مع الحركات الإسلامية مثل الإخوان المسلمين للتدخل لدى طهران، وأمامي رسالة بخط المرشد الثالث المرحوم عمر التلمساني إلى أحد الإخوان 11-11-1978 يطالبه فيها بأن يتصل بأي مسؤول في الحكومة وكان هذا الأخ قريباً جداً من عثمان أحمد عثمان ليخطره بأن السفارة الأميركية اتصلت مراراً وسيصل سكرتيرها الأول إلى مكتب المرشد اليوم، وكان إصراره"حتى لا تتخذ حجة ضدنا في يوم من الأيام. هذا الهاجس لدى الإخوان في مصر بالذات تضخم مع التاريخ الطويل، وهو أحد أهم الأسباب النفسية التي تعوق أي حوار حقيقي بين الغرب الحكومي أميركا وأوروبا وبين الإخوان، تحديداً في مصر، مارس النظام الناصري حملة تشويه ضخمة وكاذبة ضد الإخوان إبان محاكمتهم عام 1954 بسبب زيارات ومحادثات أجراها المرشد الثاني حسن الهضيبي في منزله مع السيد ايفانز سكرتير السفارة البريطانية حول اتفاق جلاء بلاده عن مصر وشروطه المجحفة التي رفضها الإخوان، وشنوا حملة شعبية لمنع توقيع الاتفاق لأنه كان يتيح للقوات البريطانية العودة إلى ما يشبه الاحتلال واستخدام القواعد السابقة كافة إذا تعرضت تركيا لعدوان، وكان ذلك في أجواء الحرب الباردة التي بدأت بالحرب الكورية فكانت بداية حروب القوى العظمى على أراضٍ جديدة بعيدة، غاب الإخوان في السجون عقدين وخرجوا ليجدوا عالماً آخر لم تعد فيه أميركا هي العدو ولا بريطانيا العظمى هي المحتل السابق فقط، بل خلط السادات الأوراق وعكس الحقائق فاختلطت الأمور، وسمح السادات كما سمح عبدالناصر من قبل للإخوان بالضغط على السفارة البريطانية للحصول على أفضل شروط وفق اتفاق أكده الإخوان مراراً ولم يستطع الطرف الآخر نفيه تماماً ولكن بقي الهاجس الأصلي الذي انضم إليه هاجس آخر سببه السياسات الأميركية الاستعمارية التي ورثتها عن أوروبا الاستعمارية في المنطقة العربية. سمح السادات للمرشد بالتوسط لمصلحة إطلاق المحتجزين في السفارة كرهائن لسبب إنساني، على رغم عداء السادات للثورة الإسلامية الإيرانية، وأجريت الاتصالات لهذا الغرض الإنساني لكنها توقفت سريعاً لأن إيران الخميني والقيادة السياسية رفضت بإصرار طرح المسألة في أي زيارة يقوم بها التلمساني إلى طهران على رغم أنها أبدت تعاطفاً كبيراً مع الإخوان وأطلقت أسمى البنا وقطب وغيرهما على شوارع في طهران وكان بعض المقربين من الخميني تتلمذوا على دعاة الإخوان في أوروبا وأميركا. لم تتوقف الاتصالات الأميركية بالحركات الإسلامية، بل توثقت جداً حتى استقبل ريغان قادة فصائل المقاومة الأفغانية أربعة منهم في البيت الأبيض ووصفهم بالمجاهدين. كان هذا تحالفاً سياسياً عسكرياً اقتصادياً شاركت فيه دول المنطقة الإسلامية العربية وشبه القارة الهندية وحكوماتها، ورعته أميركا لإخراج الاتحاد السوفياتي من أفغانستان لئلا يصل إلى المياه الدافئة. ثم كانت نتيجته فوق ما توقعته أميركا، فانهار الاتحاد السوفياتي وإمبراطوريته وانتهت الحرب الباردة، وهيمنت أميركا كقطب واحد على العالم، فماذا كانت نتيجة التحالف بالنسبة إلى الطرف أو الأطراف الأخرى خصوصاً المجاهدين الأفغان؟ وصل المجاهدون إلى كابول ليدمروها بسبب الخلافات التي عصفت بهم وفشل الإخوان وغيرهم في تذويبها أو إزالتها قبل النصر المبين، ونجحت الاستخبارات الباكستانية في الإطاحة بهم بعد سنوات قليلة لتحكم"طالبان"التي بدأت حواراً آخر وتحالفاً مختلفاً مع أميركا أيضاً قبل أن تنقلب عليها بسبب خطوط إمدادات النفط وزراعات المخدرات ورعاية بن لادن. رفض الإخوان من البداية الدخول في ذلك التحالف لكنهم راقبوه عن قرب عبر مركز للدراسات الاستراتيجية في إسلام آباد قاده باقتدار الدكتور كمال الهلباوي الذي أصدر مجلته الدورية"قضايا دولية"وكتباً عدة لتحليل الموقف بانتظام. النتائج في الطرف الإسلامي كانت مأسوية: انتهت الفصائل إلى لا شيء فلم يتبق إلا بضع رموز مثل رباني وسيّاف وحكمتيار، دورهم ضئيل وأثرهم قليل، لا يملكون تغيير شيء في أفغانستان التي ضحوا بشبابهم وحياتهم وشيبتهم لتحريرها وإقامة جمهورية إسلامية فيها. تمزقت حركة طالبان أيدي سبأ، واختفى الملا عمر قائد الحركة مطادراً مطلوباً من حلفاء الأمس، تحاول لملمة جنودها أو ما تبقى منهم لمجاهدة نظام الحكم الذي فرضته أميركا وأوروبا برعاية دولية. اصبح بن لادن أشهر المطلوبين في العالم بعد رحلة طويلة من السعودية إلى أميركا إلى باكستان إلى أفغانستان إلى السودان ثم إلى أفغانستان مرة أخرى، والآن أين هو؟ سؤال يحيّر العالم كله. هذه النتيجة المأسوية للأطراف الإسلامية أمام الناظرين من المطلوبين اليوم للحوار مع أميركا أو أوروبا، وتشكل قطعاً مخاوف وهواجس عن الدوافع الحقيقية للحوار: ما هي أهدافه، والى أين يصل في النهاية؟ هل الرهان على الغرب نجح مع العلمانيين أو القوميين أو اليساريين؟ أم أدى بنا إلى الفشل المتصاعد على كل الصعد حتى وصلنا إلى حال الثقب الأسود التي وضعها تقرير التنمية الإنسانية الثالث في العالم العربي؟ هل من مصلحة الحركات الإسلامية أن تحاور أطرافاً حكومية وهي ما زالت محظورة قانوناً لا تعترف بها حكومات مثل مصر أو تتربص بها مثل غيرها؟ هل من أخلاق السياسية الإسلامية أن تكون الحركات الإسلامية عصا في يد الغرب لتخويف الحكومات كي تبتزها لمزيد من الخضوع لمطالبها؟ هل يقبل الغرب بنموذج مختلف للتطبيق الديموقراطي في البلاد الإسلامية؟ نموذج يعتمد الإسلام مرجعية، والدين محوراً أساسياً في السياسية، والسلطة للشعب يولي ويراقب ويعزل، ولكن الحاكمية هي للشريعة الإسلامية التي وسعت اجتهاداتها كل الآراء على مدار القرون، نموذج ديموقراطي إسلامي: يحترم التعددية في إطار الدستور والقانون، ويعطي المرأة حقوقاً سياسية ومدنية متساوية مع الرجال، ويساوي بين المواطنين في الحقوق والواجبات من دون نظر إلى جنس أو عرق أو دين، أو مذهب:"لهم ما لنا وعليهم ما علينا. نموذج إسلامي لديموقراطية تعتمد الشورى خلقاً أساسياً في الحياة قبل أن تعتمد آليات الشورى والديموقراطية كالدستور والانتخابات والقانون وغيرها مفرغة من مضمونها الثقافي. نموذج إسلامي يعطي الشعوب الحق في اختيار برلمانات ومجالس شورى وأخرى محلية لتمارس الحق في سن القوانين في إطار المرجعية الإسلامية بحيث لا تحل حراماً ولا تحرّم حلالاً وتختار من الآراء الفقهية المتعددة من مذاهب شتى تصل إلى العشرة تتعدد داخلها الاجتهادات ما يناسب الوقت والظروف والحالات. نموذج إسلامي للديموقراطية يسمح بتداول السلطة سلمياً للمرة الأولى في تاريخ العرب والمسلمين نستفيد فيه من النضج الغربي الذي عانى طويلاً من خلافات مذهبية داخلية وحروب دمرت أوروبا لأسباب دينية واقتصادية واستعمارية فوصل إلى حال النضج الحالية التي تسمح بتداول السلطة سلمياً من دون إضاعة مصالح البلاد العليا ولا تهديد أمنها القومي. نموذج إسلامي للديموقراطية يحقق في النهاية حلم المواطن العربي والمسلم في تنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية حقيقية تحقق في النهاية حلم العرب والمسلمين في حياة مستقرة لا تستنزف طاقات الأمة من عقول وثروات لتهرب إلى الغرب نفسه. نموذج إسلامي لديموقراطية قادرة على تحقيق أحلامنا في وحدة عربية تكون مقدمة لوحدة إسلامية تضع العالم الإسلامي في مصاف الأمم العظمى لتشارك في حضارة إنسانية على قدم المساواة مع أميركا وأوروبا والصين والهند واليابان. وفي النهاية هل يقبل الغرب التحدي الحقيقي في التعامل مع ملف قضية فلسطين، فيتخلى عن مشروعه الصهيوني الاستيطاني ليعيش أفراد اليهود في البلاد العربية كمواطنين لهم حقوق المواطنة وليس لهم حق الاغتصاب لأراضي الغير وثرواتهم خصوصاً الفلسطينيين. هنا إذا قبل الغرب هذه التحديات فإن الحوار يمكن أن يكون مجدياً ونافعاً لمستقبل العالم كله، أما إذا كان الاتحاد الأوروبي ومن قبله أميركا يريدان ابتزاز الحكومات الحالية الديكتاتورية فهذا شأنهما وهذه صنيعتهما وهما رعاتهما وليس لنا شأن بذلك الملف الشائك. وأما إذا كانا يريدان تكرار ما حدث في التاريخ القريب لتشويه صورة الحركات الإسلامية حتى لا تثق الشعوب فيها ليخلو الجو لصنائع جديدة يتم تدريبها حالياً فهذا مآله الفشل أيضاً. على أوروبا وأميركا أن تحسما أمرهما حقًا: هل تريدان الديموقراطية في مستوى العالم وليس في بلادنا فقط؟... هذا هو السؤال. كاتب مصري، عضو سابق في البرلمان عن الاخوان المسلمين.