تُجمع دول العالم على اعتبار الهوية الشخصية إثباتاً لوجود الفرد، وإقراراً به ككيان مستقل في المجتمع. وهو أمر يكرّس أهمية هذه الوثيقة التي تصبح هاجساً لدى المواطن. يرى بعض الشبان العرب أنّ حصولهم على بطاقة الهوية"حدثاً يستحق الفخر"، في حين يراها آخرون فرصة للتمتع ب"حكم ذاتي"، أو على الأقلّ ذكرى"تطبع في الوجدان". فبعض الدول العربية، كالسعودية، تشترط أن يكمل الفرد الخامسة عشرة ليحصل على"شهادة رسمية بمواطنته". وترتفع السن القانونية للحصول على هذه الوثيقة إلى 16 سنة في الأردن. أما في لبنان، فيحق لأي مولود جديد من أب لبناني بصرف النظر عن جنسية الأم، الحصول على بطاقة الهوية، بمجرد تأمين الأوراق اللازمة التي تقتصر على وثيقة ولادة ممهورة بخاتم المستشفى، او القابلة القانونية، وورقة سكن من المختار، واخراج قيد عائلي لوالديه او وثيقة الزواج. بديهي... ولكن أنْ تملك بطاقة الهوية الشخصية في لبنان أمر بديهي. وهناك اطفال في الصفوف الابتدائية يحملون صورة طبق الأصل عن هويتهم الشخصية، ولا يميزها عن بطاقات ذويهم سوى أنها موقّعة من ولي أمرهم. إلاّ ان هذا الأمر لا ينتقص من أهمية ما يحملونه. وفي حين ان قانون الاحوال الشخصية في لبنان لا يُخضع استصدار بطاقة الهوية الشخصية الى اي شروط استثنائية، يتحوّل هذا الأمر البديهي، بسبب إهمال الأهل أحياناً كثيرة، إلى شيء يحلم"مكتومو القيد"بأن يتحقق. يعرّف المحامي جورج خلف مكتوم القيد، بأنه"طفل لم يتم يسجّل في القيود الخاصة في سجلات الأحوال الشخصية، وبالتالي لم يحصل على هوية". ويوضح:"مكتوم القيد ليس بالضرورة مجهول الأهل، او احد الوالدين، لأن مجهول الأب يمكن تسجيله على خانة والدته. وبالتالي يستحصل على هوية ويسجّل على خانته كلمة لقيط، فلا يعود مكتوم القيد". وفي ظل غياب أي احصاءات رسمية عن عدد مكتومي القيد في لبنان، تبرز هذه المشكلة، وتكثر في الأحياء الشعبية والمجتمعات الفقيرة. وتخضع حالة مكتوم القيد الى العديد من العوامل التي تحول دون تصحيح وضعه القانوني ابرزها عدم توافر المال، او تعذر توفير الأوراق اللازمة والشهود. "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون"، قول مأثور، قد يكون الاكثر تعبيراً عن حالات مكتومي القيد في لبنان. محمود 22 عاماً والد لطفلة لم تتعدَ الشهور الأربعة، يعمل ب"الفاعل"اي في الزراعة وينال أجره يومياً... عشرة آلاف ليرة اي ما يعادل سبع دولارات. ويضطر في بعض الأحيان الى صرفها على مدى اسبوع كامل بسبب شحّ العمل. وتساعده زوجته التي تعمل في تنظيف البيوت. محمود منذ ان بدأ يعي وجوده في الحياة لا يملك الا ورقة تنص على"لمن يهمه الأمر، يفيد مختار بلدة الصرفند بأن محمود ابن زينب... - مواليد 1982- هو مجهول الأب مقيم في بلدة الصرفند في منزل ابن خاله... واعترف ان والدته كانت مختلة العقل وقد توفاها الله فتولى تربيته ابن خاله المذكور اعلاه"... هذه الورقة أصبحت بمثابة عُرف يعطيها مختار الحي، أو القرية لتسهيل حياة مكتوم القيد، ومحاولة الحد من المشكلات التي تعترضه في اثبات هويته. "والدي توفي في حرب المخيمات، ووالدتي كانت على نياتها"، يقول محمود عن عدم تسجيله في السجلات الرسمية. ويلقي اللوم على زوجته التي تكبره بعشر سنوات لموافقتها على الزواج منه وهي على علم تامّ بأوضاعه:"كنت في الثامنة عشرة عندما تزوجنا". ويصف محمود إنجابه طفلاً ب"الخطأ الفادح"الذي لا وسيلة لتصحيحه:"وعدنا اخي بأن يسجلها على اسمه وبالتالي يصبح والدها في الدوائر الرسمية. لكنه بعد ولادتها بدّل رأيه خوفاً من أن ترث ما يملك". محمود عرض على اخيه ان يكتب له تنازلاً عن أي حقوق قد يعطيها الشرع للطفلة قبل ان يسجلها على اسمه، الا ان هذا الاخير أصرّ على رفضه علماً أنه متزوج ولم ينجب أطفالاً. قريب لوالدة مروى تولى تغطية تكاليف المستشفى، ويتم التوسّط بين بعض الاقارب على ايجاد المخرج الافضل لهذه المعضلة. وأهم ما يتم الكلام عنه ايجاد شخص يقبل بأن يمنحها اسمه في ظلّ تعذّر حصول والدها على أوراق ثبوتية تمكّنه من تسجيل زواجه في المحكمة وبالتالي تسجيلها هي. من جهته، لا يعارض محمود الحصول على بطاقة هوية تشير الى انه لقيط. ويضيف بصوت يغلبه البكاء:"إذا لم أتمكن من الحصول على هوية، انا مستعد للتخلي عنها أي ابنته مروى نهائياً لأي شخص يمنحها اسمه"... وتتدخل زوجته:"لا لن أقبل بذلك، افضل ألف مرة أن تبقى مكتومة القيد على أن تبعد عن نظري للحظة واحدة". يقول جورج خلف:"التخلّف عن التصريح بالقيد أي تسجيل المولود في دوائر النفوس، يُفقد طالب القيد حقه بالجنسية اللبنانية التي اكتسبها حكماً، ويصبح المتخلف عن القيد ضمن المهلة المحددة في حكم مكتوم القيد وبالتالي عليه اللجوء الى القضاء لاستعادة قيده". ثم يستدرك:"لكن الإهمال في طلب القيد ضمن المهلة المحددة، لا يعرّض الأهل الذين لم يسجلوا ابناءهم في سجلات الأحوال الشخصية لأي عقوبة جزائية". جهل الأهل في أحكام القانون في هذه القضايا يؤدي إلى تفاقم المشكلات، وهو ما حصل مع والدة زهراء 5 سنوات ومحمد 3 سنوات اللذين تركتهما بعدما قررت هجر والدهما والعودة الى سورية وطنها الام. وبعدما اقنعها أقرباء لوالد أطفالها بأن تأتي الى المحكمة لتشهد في مصلحة طفليها كي يتمكنا من الحصول على بطاقات هوية، عادت وفرّت الى مكان مجهول، اذ زعم أحد الاشخاص أمامها أن القاضي سيحكم حتماً بسجنها لأنها لم تصرّح عن ولادة طفليها. زهراء تحب"سلوى ابنة عمتها 19 عاماً وماما هدى والدتها الحقيقية وماما زوجة ابيها". وعند سؤالها لماذا؟ تجيب:"لأن سلوى تأخذني الى المدرسة". أما عن ماما هدى فتلتفت الى سلوى مخبّئة دموعها التي تسارع سلوى الى مسحها بمنديلها... واستطاعت سلوى مع أهل القرية اقناع مدير المدرسة بادخال زهراء اليها ريثما تتم معالجة المعضلة. زهراء، تعلم أنها لا تملك اوراقاً ثبوتية وتقول:"انا احب المدرسة... ولكن لأن ماما هدى اخذت اوراقي معها لم استطع الذهاب من قبل". وعلى رغم تأكيد الجيران أنّ زوجة أبيهما تضر بهما، يؤكد زهراء ومحمد ان ماما الحالية جيدة وتحبهم. وعن انف محمد المكسور والكدمات الأخرى، تقول زهراء:"وقع عن الدرج". ثم تلتفت مجدداً الى سلوى التي لا تجد الا ان تؤكد ما تقوله زهراء لأنها لم تكن موجودة حينذاك. وبين الوالدة المختفية والأب الذي لم يجد حلاً الا بالزواج ثانية، يبقى مستقبل محمد وزهراء مجهولاً، لا سيما أنّ زوجته ترفض رفضاً قاطعاً تسجيل الطفلين على خانتها. مكتوم القيد يفقد جميع حقوقه المدنية كالانتخابات، والوظائف الرسمية والتعلّم والاستشفاء، وحتى الاعتراف بموته - وغالباً ما تبقى هذه اللحظة حسرة في قلب مكتوم القيد. اذ انه لن يتسنىَ له ان يكتب اسمه على لوحة ضريحه - والحقوق الأخرى التي يتمتع بها أفراد المجتمع، فضلاً عن المشكلات التي تنتج عن عدم امتلاكهم اوراقاً ثبوتية كعدم تمكنهم من الزواج الرسمي وبالتالي حرمان أطفالهم من هذه الحقوق ايضاً... زينب 20 عاماً وعلي 17 عاماً هما ال"مكتوما القيد"الوحيدان، بين أشقائهما الثمانية المتبقين. فأم محمد، تزوجت زوج اختها بعد وفاتها،"كي لا يتربى اطفال هذه الاخيرة الخمسة في كنف امرأة غريبة". ورزقت اولاً بزينب ومن ثم علي وبعدهما ثلاثة آخرون جميعهم سجلوا في الأحوال الشخصية. أما بكراها ف"كانت الدنيا حرب، والمشاغل مع الأطفال كثيرة فلم ننتبه إلى انه علينا تسجيل ولادتهما". لم تعطِ أم محمد الأمر أهمية طوال السنوات التي مرّت، الى ان وجدت اكبر أطفالها الذكور مرمياً في السجن،"لأنه لم يكن يحمل اوراقاً ثبوتية". فدخل للمرة الأولى إلى سجن الأحداث في رومية وهو في الرابعة عشرة من عمره. صفعة لم تكد أم محمد ان تستفيق منها لتتلقى الثانية، عندما تقدم احد الشبان لطلب يد ابنتها الكبرى، فتنبهت الى ان زواج ابنتها مستحيل لأنها لا تملك بطاقة هوية شخصية. تصحيح الخطأ الذي ادى الى نشوء زينب ومحمد"أميين"لاستحالة دخولهما الى المدرسة من دون بطاقات شخصية، لم يتم فهو يتطلب أموالاً غير متوافرة. ثم وجد علي نفسه ضيفاً في المخافر ومن بعدها في السجون في كل مرة احب ان يخرج من منطقته، من دون ان تستطيع ورقة التعريف الشخصي الذي مهرها مختار الحي بخاتمه، ان تشكل بديلاً عن الاوراق الثبوتية لا سيما عمّا يعرف"بدفتر خدمة العلم". أما زينب التي أبت ان يقضي عدم امتلاكها بطاقة شخصية على ما تبقى من حياتها، فاستخدمت ورقة المختار للزواج عند شيخ..."زواجاً شرعياً"لا يمكن تسجيله في المحكمة وبالتالي غير معترف به رسمياً. وبذلك تكرر خطأ اهلها بحق طفلها، الذي أنجبته. ووُلد"مهدي"كوالدته مكتوم القيد. ويشاء القدر ان يمرض مهدي ويرحل عن عمر ستة اشهر بعدما تعذّر عليها ادخاله المستشفى وهو الذي لا يملك ما يعرّف عنه... مشيئة القدر حرّرت"مهدي"من إرث ثقيل كان سيحمله على الأقل لفترة غير قصيرة من عمره... ليرحل عن الدنيا قبل أن يدخلها"رسمياً".