Frank Furerdi. ?Where have all the intellectuals have Gone إلى أين ذهب المثقفون كلهم؟. Continuum, London. 2004. 167 pages. عنوان هذا الكتاب ينطوي على قدر من الطرافة. ومصدر هذه الطرافة لا يعود إلى التساؤل حول ذهاب، أو بالأحرى اختفاء، المثقفين. لكن الكلام أولاً على المثقفين هو في سياق الكلام على التعليم العالي والثقافة في بريطانيا والعالم الأنغلوفوني عموماً. ومثل هذا الكلام لا بد وأن يثير التساؤل، نصف الجاد ونصف المازح: متى ظهر المثقفون في هذه الأنحاء أصلاً لكي يختفوا الآن؟ والحق أن المرء لا يمكن أن يتحدث عن شخصية شأن"المثقف البريطاني"أو"المثقف الأميركي"من دون إحساس بالمفارقة لا يخفى. وحتى أولئك البريطانيون والأميركيون الذين تنطبق عليهم صفة كهذه فإنهم غالباً ما يظهرون، أو يُصوّرون، على صورة بوهيميين وغريبي أطوار، وفي أفضل الأحوال متمردين على المجرى الثقافي العام تمرداً يجعلهم أدنى من أن ينطقوا بضمير مجتمعهم. بل ان كلمة مثقف بالإنكليزية، أي Intellectual، إنما هي صفة لما هو فكري وذهني بأشد مما هي إسم. فلا غرابة إذا ما استعان مؤلف هذا الكتاب بغير البريطانيين، شأن جوليان باندا وبيار بورديو وإدوار سعيد، في سبيل تعريف للمثقف بوصفه الباحث الدؤوب عن الحقيقة باندا أو ذاك الذي يوظف ثمرات معارفه وخبراته في حقل تخصصه في سبيل الفعل السياسي، على صورة مستقلة عما تمليه سياسة هذا الحقل بورديو، ودائماً بما يتوافق مع القيم الكونية سعيد. هذه الاستعانة، وإن دلت بذاتها على صعوبة تعيين المثقف البريطاني والأميركي النموذجي، تحيلنا مع ذلك الى ضرب أو أداء من البحث الفكري والإنتاج الفني بأكثر مما تحيلنا على كتّاب وأكاديميين وفنانين بعينهم في الثقافة البريطانية. إنه ذلك الأداء الذي ظل شائعاً حتى وقت قريب حيث التعبير عن مواقف مغايرة لمواقف المؤسسة أو تبنّي قضية ما أو قيادة حملة لنصرة جماعة أو حماية إنجاز ما، ودائماً على صورة مستقلة، أو شبه مستقلة، عن القوى السياسية الراسخة ومتطلبات السوق الحرة ومؤثراتها. وبخلاف ما هو الأمر عليه في المجتمعات الأوروبية، لا سيما فرنسا، فإن الأداء الفكري والفني المعني لم يكن مرهوناً بأسماء معينة وما يبرر أن تكون كلمة Intellectual صفة نشاط وليست صفة شخص. وإذ يتحسر المؤلف على حلول الخبير والتكنوقراطي محل المثقف، فإنه في الحقيقة يحذّر من مغبة تغليب النزعة المهنية على الحياة الأكاديمية والفكرية. وحصول مثل هذا الأمر يعني تجريد المعرفة والفن من أية قيمة ما لم يكونا واسطة لبلوغ غاية عملية، تعيّنها على الأرجح السوق الحرة والدولة وما قد يجعل النشاط الفكري الرامي إلى إعمال العقل وطلب الحقيقة محض نشاط فائض عن الحاجة. يجادل المؤلف بأن ما جرى للحياة الأكاديمية والثقافية، أو للمثقف، على ما يؤثر القول، هو من حصيلة التجني على القيم الكونية، خاصة على الصورة التي صيغت عليها منذ عصر الأنوار. وحيث أن الهجوم على قيم هذا العصر تعود إلى لحظة ظهور هذا العصر، فإن الكاتب يبيّن أن الهجوم المعني هو ذاك الذي شرع يشنه بعض المثقفين اليساريين وما بعد الحداثيين، إما بذريعة الدفاع عن السياسة الديموقراطية أو باسم النسبية المعرفية والتعددية الثقافية. وعلى رغم الفارق البيّن ما بين خصوم الأنوار الأوائل، من محافظين رحعيين ودعاة خصوصية ومحلية، وما بين الخصوم الجدد إلا أن الفريقين يتفقان على الزعم بأن كافة الناس متواضعة الذهن محدودته، وإنه لهذا السبب فإن الديموقراطية تحض على التنازل عن القيم الكونية المتسامية والمعايير الموضوعية الصارمة، وبما يمهد سبيل العلم والفن أمام الكافة المسكينة. وفي حين أن المثقفين المحافظين ودعاة النخبوية اتخذوا من هذا الزعم منطلقاً للتنديد بالديموقراطية، لا سيما ديموقراطية التعليم، فإن المثقفين اليساريين وما بعد الحداثيين يتخذون منه مبرراً للهجوم على المتمسكين بالمعايير الموضوعية والقيم الكونية. وإساءة التقدير هذه لكل من الكافة والديموقراطية على السواء هو ما سهّل إمكانية هيمنة البراغماتية المباشرة والفظة على سبل تقويم العلم وتقدير الفن. فلا طائل، والحالة هكذا، من المعايير الجمالية للفن ولا قيمة ضمنية للمعرفة، بل لا قيمة لهذه أو ذاك ما لم يكونا واسطة للتقدم الاقتصادي والهندسة الاجتماعية ومنح المجتمع هوية وتزويد الفرد بضرب من العلاج النفسي. أما أولئك المتمسكون بالقيم الضمنية والمعايير الصارمة، فإنهم غالباً ما يتهمون بالنخبوية، والنخبوية، على ما يذهب المتهمون، لا تعني فقط حصر المعرفة بفئة محدودة وميسورة من الناس، ولا إنتاج ما يفتقر إلى المنفعة العملية وإنما أيضاً الحفاظ على امتيازات النخبة وعلى حساب الكافة، وهذا مضاد للديموقراطية وما تمليه من مساواة وشراكة. فيصير التمسك بالقيم الكونية والموضوعية مكافئاً للتمسك بامتيازات النخبة غير المستحقة. والمفارقة، على ما يبيّن المؤلف، أن من يسوق تهمة النخبوية ضد الحريصين على حياة ثقافية مستقلة عن سلطان السوق والحكومة ليسوا شعبويين، وإنما هم أنفسهم أصحاب النخبة، الاقتصادية والسياسية، بل أيضاً الأكاديمية والثقافية، يتسلحون بسلاح الشعبوية. فالنخبة السياسية هي التي فصّلت وبررت سياسة الضمّ والإقرار والوصول التي ما انفكت الحكومة البريطانية تلتزم بها انسجاماً مع موقعها السياسي الوسطي وما يمليه، أو يدّعيه، من تمثيل لكافة الأطراف السياسية والفئات الاجتماعية. وهذه النخبة نفسها هي التي بررت أيديولوجية الدولة الغربية في ما بعد الحرب الباردة من حيث أنها سلّمت بحصر دورها في الإدارة والرعاية ومؤازرة السوق الحرة في كل ما تتطلبه. وكذلك الأمر بالنسبة للنخبة الاقتصادية التي لا تني تؤكد على أولوية الاستجابة لمتطلبات السوق سبيلاً لتنظيم حياة سياسية ناجحة، ومن ثم فإنها تحرص على إلحاق كافة القيم والمعايير بقيمة الكسب ومعيار الربح والخسارة. على أن التنازل الأكبر هو ذاك الذي قدمته النخبة الأكاديمية والثقافية، وهي التي، وخلافاً للنخبتين السياسية والاقتصادية، تمتعت بقسط من الاستقلال والحرية. وعوضاً عن التمسك بالمعايير التي تضمن القيمة المعنوية أو الضمنية للمعرفة والفن، فإنها بادرت إلى قصّ هذه المعايير على مقاس يتناسب مع متطلبات السوق الحرة وسياسات الحكومة. فأعلت من شأن العلوم التي تستجيب إلى غاية السوق وشجعت المعارف التي تفيد التكنوقراطي والإداري، شأن الحقائق والإحصائيات. وإلى ذلك أفسحت مكاناً واسعاً للعادي من التعبير والنسبي الذاتي ولما من شأنه أن يكون علاجيّ النزعة وبما يتوافق مع سياسة الحكومة الوسطية وبما غلّب النزعة الشعبوية على كل ما هو جمالي ورفيع وموضوعي. وما توسل هذه النخبة للشعبوية إلا محاولة انتهازية منها للتمسك بامتيازاتها، وهي الامتيازات التي أمست بمثابة مكافأة لها ليس على إنجازاتها المستقلة وإنما على إطاعتها الدولة ومجاراتها سياسة السوق. على أن الدافع الأعمق لانحدار النخبة الأكاديمية والثقافية هو شكّها في أهمية البحث الذي تقوم به والدور الذي تؤديه. وقد يكون اتجاهها وجهة الوسائطية في تقييم المعرفة خضوعاً منها لسلطان السوق الحرة، غير أنه أيضاً دليل على فقدان الإحساس بالقيمة الضمنية للمعرفة، كما أن الاستسلام للنسبية المعرفية استجابة لسياسة الضم والإقرار والوصول التي تنتهجها الحكومة في ادعائها تمثيل الجميع. بيد أن هذا الاستسلام لهو إعراب عن شك بالمقاييس والقيم الكونية، لا سيما تلك التي قال بها عصر الأنوار. فاللجوء إلى الشعبوية هو تعبير عن شك في قيمة الفكر التأملي والثقافة النابعة منه، وليس استجابة لما تتطلبه الديموقراطية. وهذا صحيح، غير أن الكاتب المدافع عن استقلال الحياة الفكرية لا يقدم لنا نموذجاً لذلك الاستقلال المفقود أو لكيفية استعادته، وقصارى ما يأتي به صرخة احتجاج في العراء.