يرصّع الغلاف الإحتفالي ل"ملحق تايمز الادبي" اسماء نخبة من الكتّاب الانكليز والاميركيين والايرلنديين ممن قد لا يعنون الكثير الى القارئ العربي، ولكنها من الاسماء اللامعة في الاوساط الثقافية الانغلوفونية. ولئن كان هذا امراً متوقعاً من مطبوعة عريقة تشاء الاحتفال بقرن على صدورها ودوامها - وهي كانت صدرت عام 1902 ملحقة بصحيفة ال"تايمز"، ثم راحت تصدر كمجلة مستقلة عام 1914، فمن الطبيعي ايضاً ان تحرص، في مناسبة كهذه، على ان تضمّ من المساهمين لائحة مختارة تعكس التعددية التي طالما إعتزت المجلة بمراعاتها، وبخاصة التعددية السياسية. وطوال عقود صدورها العشرة، وعلى رغم ما شمل العالم من نزاعات سياسية واعتوره من ولاءات ايديولوجية متضاربة، ولا سيما في زمن الحرب الباردة، حرصت هذه المطبوعة على ان تكون منبراً مستقلاً عن اي خط سياسيّ محدد، وعلى ان تراعي شروط "الضيافة المنتخبة" للاطراف كافة، على حد تعبير محررها الراهن فرديناند مونت. وحقيقة افردت المطبوعة صفحاتها لكتّاب يساريين ويمينيين على السواء، ساعية الى ان تكون منبراً "وطنياً" او حتى دولياً، بالنسبة الى أبناء الثقافة الانغلوفونية، مما يدل على ان هذه المطبوعة افلحت في ان تكون نموذجاً راقياً لأطر التعبير الليبرالية النازعة ابداً الى التعالي عن اي ولاء ايديولوجيّ ما خلا توفير ميدان تعبير لأصحاب الرأي. طبعاً، هناك من المعلقين، ولا سيما اليساريين منهم، من قد ينظر الى هذا الحياد المزعوم بإعتباره محض وسيلة لتطبيع حق السلطة القائمة، وان يرى تالياً، الى استضافة المجلة مؤرخين ماركسيين، بعضهم سوفياتيّ الولاء شأن إ. كار وإريك هوبسباوم، ولاحقاً معارضين ومنشقين شأن هابرماز وغور فيدال ورايموند وليامز وإدوارد سعيد وكريستوفر هتشنز، انما هي محاولة ضمّ وإلحاق ذكية تضمن تكريس صورة سوية للمؤسسة الحاكمة وحيادها المزعوم. ففي النهاية تظل هذه المطبوعة ربيبة صحيفة "تايمز" التي لا يمكن شخصين الاختلاف في شأن سياستها وولائها. ولا يمكن أيضاً تجاهل حقيقة ان فرديناند مونت كان قبل توليه مسؤولية تحرير "ملحق تايمز الادبي" رئيس "وحدة سياسة مارغريت ثاتشر"، عهد كانت البارونة ثاتشر رئيسة وزراء بريطانيا، المحافِظة بإفراط. غير ان مثل هذا الاعتراض غالباً ما يصدر عن اصحاب نظرية في السياسة ترى الى كل ما يصدر أو يحدث خارج دائرة مصادقتها بمثابة مظهر تدبير او حتى مؤامرة، "سلطة يمينيّة". والادهى من ذلك ان مثل هذه النظرية لم تؤدّ ممارستها الاّ الى إفقار الثقافة، وبما يوضح مصدر عجز اصحابها عن إنشاء مطبوعة شامخة شأن هذه المجلة. وتعددية "ملحق التايمز الادبي" لا تقتصر على السياسة في معنى مراعاة حق التعبير عن الرأي والولاء، وانما تتجلى ايضاً في مراعاة المجلة وجوه إهتمامات جمالية وثقافية مختلفة. وفي هذه المطبوعة وجدت الحداثة الادبية صديقاً متعاطفاً. وفيها ساهم إليوت وفرجينيا وولف إضافة الى عدد كبير من كتّاب حداثيين واقل حداثة وتقليديين ايضاً. وعلى رغم ان اسمها يشي بتركيز خاص على الادب، الاّ ان المجلة لم تتوان عن منح إهتمام مكافئ لمدارات متنوعة، شأن الفلسفة والعلوم الانسانية، بل ولمناهج ونظريات ادبية حديثة وتيارات فكرية جديدة ظلت حتى عهد قريب مستبعدة من ميدان الاكاديمية الانغلوفونية. فهذه المطبوعة، وخلافاً لمعظم المطبوعات الانكليزية الاخرى، لم تتقاعس عن الانفتاح على الثقافات الاخرى، وخصوصاً الاوروبية منها. وهي ربما المجلة الأدبية الوحيدة، من المجلات الذائعة التي عمدت في شكل منتظم الى تناول كتب صادرة باللغة الفرنسية او الالمانية او الايطالية. ولعل واحداً من الاهداف التي حرصت المجلة على تحقيقه هو توفير مادة دسمة لجمهور مهتم بالفنون والعلوم إهتماماً لا تلبيه الصحافة الادبية، ولكنه، في الوقت نفسه، ليس اهتمام الاكاديمي والمتخصص. ولهذا عُرف "ملحق تايمز الادبي" بكونه جامعاً لمراجعات كتب في شتى الميادين الفنية والعلمية، ولكنها مراجعات أقرب الى المقالات. فلئن سعت هذه المطبوعة الى توفير ما لا يتوافر في كل من الصحافة الادبية، "الشعبوية" النزعة، والمطبوعات الاكاديمية المتخصصة، فإنها عملت على الدوام على ان تكون ذات مستوى ادبيّ رفيع. والتمسك بمستوى كهذا كفل للمجلة منزلة في الاوساط الثقافية الانغلوفونية، بل الدولية، وسلطة جعلت من يُدعى الى المساهمة فيها يحس بأنه حاز شهادة إمتياز. هكذا نجد ان كتّاباً شأن إليوت واورويل يعتبرون كتابتهم فيها بمثابة بلوغ اعلى درجات السلم الثقافي. اما الاعمال الادبية والفكرية التي حالفها الحظ في ان تنال تقدير المجلة النقدي، فكان ذلك بمثابة شهادة إعتراف بمؤلفيها او تكريس لشهرتهم. غير ان الحفاظ على مستوى رفيع، بما يلبي طموحات جمهور نوعيّ، لم يكن من دون ثمن باهظ. وكان لا بد لمطبوعة ذات هدف مماثل من ان تُغفل احد ابرز شروط السوق الحرة التي تحكم كل مشروع يدخل في مدار القطاع الخاص، بل وفي كثير من الاحيان بعض مشاريع القطاع العام: الكسب كشرط للبقاء والدوام. فلم تكن نسبة التوزيع والانتشار المعيار الذي يحدد طبيعة او سياسة المجلة. ومن ثم فإنها نادراً ما تمتعت بكسب ماديّ، بل وغالباً ما سارت على حافة الخسارة. والمعروف ان مبيعات المجلة في ازهى عصورها لم تزد على خمسين الف نسخة وهذا رقم متدنٍ نسبة الى مجلة غير متخصصة وذات شبكة توزيع واسعة في العالم الناطق بالانكليزية. الى ذلك فإن "ملحق تايمز الادبي" مطبوعة نوعيّة إسبوعية باهظة التكلفة نظراً الى سخاء مكافأتها، وليس الى نوعية طباعتها. فهي تتفاوت بين عشرين وثلاثين صفحة من ورق الصحف العادي وبحجم "التابلويد". وبصفتها مطبوعة مستقلة فإنها لا تتلقى معونة حكومية، او رسمية، فضلاً عن ان صدورها كمجلة مستقلة الادارة والسياسة عن صحيفة "تايمز" خوّلها أن تلتزم الحياد السياسي ومعياراً جمالياً وثقافياً رفيعاً. ولكن كيف امكن مجلة مستقلة ومُكلفة ورفيعة المستوى، وغير مربحة ان تثابر على الصدور قرناً من الزمن؟ كيف امكنها ان تنجو من ابرز شروط السوق الحرة؟ بقليل من الطرافة، او حتى من دون طرافة أبداً، يمكن القول ان الفضل في ذلك، لا يعود الى إنتصار قيم الثقافة على معايير التجارة بقدر ما يعود الى ذلك القران غير النادر بين "اليد الخفية" للسوق الحرة، على حد تعبير آدم سميث، والاحساس بواجب الالتزام بمعايير، ثقافية واخلاقية، ترقى الى مقاييس أو شروط السوق نفسها: ف"اليد الخفية"، تبعاً لما هو متوقع منها، وعلى ما كان زعم سميث وبشّر، إنما تتحرك لكي تسد حاجة او فراغاً ما في السوق، يتمثل والحال هذه في حاجة جمهور قُرّاء نوعيّ، ولكن غير اكاديمي، الى منبر ثقافيّ. ولكن بما ان المنبر الثقافي المطلوب من طبيعة لا تستقيم ومعيار النجاح تشترطه السوق، اي الكسب والكسب المتزايد، فإن القيمة الاخلاقية الناتجة من الاحساس بواجب الحفاظ على مستوى ثقافيّ رفيع تكون بمثابة التعويض الرمزيّ عن غياب الكسب المادي. ولكن ينبغي لنا الاّ نبالغ في امر هذا الإحساس بالواجب، ما دام في النهاية لا يصدر عن دافع الى البِّر، ولا عن ايمان بأن للمشروع المعنيّ مهمة تاريخيّة ما، وإنما عن حاجة إفساح المجال لما هو هناك، ولما يطالب بأن يحظى بمكان وبإعتراف. ولعل هذا سرّ ديمومة المؤسسة الليبرالية وثقافتها. فهي وإن اقرّت بالمنافسة الحرة وقيم السوق، فإنها لم تحرم الكاتب من حق مناشدة جمهوره عوضاً عن طوابير المستهلكين، وهي لا يمكن ان تُتهم بأنها حرمت احداً، جمهوراً او مشروعاً، في ان يوجد، وفي ان يفصح عن وجوده وطموحاته.