في ثمانينات القرن الماضي كشف بعض الإحصاءات السكانية أن الأميركيين البيض المتحدرين من أصول أوروبية والذين يعتزون بانتمائهم إلى ما يطلق عليه أحياناً اسم"السلالات القوقازية"أصبحوا يؤلفون في ولاية كاليفورنيا أقلية عددية بالنسبة إلى بقية السكان الذين ينتمون إلى أصول وأعراق وديانات مختلفة. وتعتبر هذه الحال أول سابقة خطيرة من نوعها. وجاء الإعلان عنها بمثابة صدمة قاسية للكثيرين، وإن كان المسؤولون واجهوها بالصمت الرهيب الذي قد يكون دلالة على شدة وقع الصدمة في النفوس. والواقع أن المؤشرات كلها كانت تنذر منذ أواسط القرن الماضي بأن الولاياتالمتحدة ستواجه حالاً من الخلل الديموغرافي الناجم عن ازدياد حركات الهجرة من البلاد الآسيوية وأميركا الجنوبية، وهي مناطق مشهورة بارتفاع خصوبة شعوبها واعتبار كثرة النسل قيمة اجتماعية ومصدراً للفخر والاعتزاز بعكس الشعوب الأوروبية التي تحافظ على تنظيم النسل أو ضبطه وتميل إلى تكوين عائلات صغيرة الحجم تكتفي بطفل واحد في كثير من الأحيان أو قد تسقط مسألة الإنجاب من اعتبارها تماماً. وعلى رغم أن أميركا قامت على مبدأ قبول تعدد الأعراق والألوان فإنه لم يكن يخطر في بال أحد أن يأتي يوم يتحول فيه الأميركيون البيض المؤسسون للدولة إلى أقلية بالنسبة الى المجموع الكلي للسكان، ولذا أثار الإعلان عن التغيرات الديموغرافية في ولاية كاليفورنيا كثيراً من القلق والانزعاج والسؤال عما ستكون عليه صورة المجتمع الأميركي خلال العقود القليلة التالية وعما سيكون عليه موقف السكان البيض من ذلك الواقع الجديد. ولم يكن المهاجرون المكسيكيون وغيرهم من الوافدين الذين يتحدرون من أصل أسباني والذين يشار إليهم باسم الهيسبانيين، وكذلك المهاجرون من أميركا الجنوبية أو اللاتينية الذين يعرفون باسم اللاتينو يؤلفون نسبة تثير القلق في بداية الأمر حين كانت نسبتهم إلى مجموع السكان لا تزيد على 2 أو 3 في المئة، ولم يكن لهم دور ملحوظ في الحياة السياسية. ففي كاليفورنيا ذاتها التي تستقبل أكبر عدد من المهاجرين من تلك المناطق كان البيض يؤلفون أكثر من 90 في المئة من سكان الولاية حتى عام 1970، ثم تغير ذلك الوضع في شكل جذري في الثمانينات حين استقبلت الولاية أكثر من مليوني مهاجر أي ما يقدر بأكثر من ربع العدد الكلي للمهاجرين إلى أميركا بصفة شرعية خلال ذلك العقد، وذلك بخلاف الوافدين بطرق غير مشروعة عبر الحدود، والذين يقدر عددهم بملايين عدة بحيث تضاعف عدد اللاتينو عام 1990 أكثر من ثلاث مرات، كما تضاعف عدد الآسيويين أكثر من خمس مرات، وهكذا. وهذا الوضع يصدق على عدد من الولايات الأخرى مع بعض الاختلافات والفوارق. ويزيد من خطورة الوضع أن مجتمع البيض - إن صح التعبير - هو مجتمع شائخ بعكس مجتمع أو مجتمعات الملونين، فهي مجتمعات شابة في وجه عام بسبب الفارق الكبير في نسبة المواليد، كما أن نسبة كبيرة من العائلات البيض المقيمة أصلاً في أميركا تجاوزت سن الإنجاب. وتظهر المشكلة في شكل صارخ في المدارس حيث تزيد أعداد التلاميذ الملونين في كثير منها على أعداد التلاميذ البيض الى درجة أن في بعض المدارس كان التلاميذ يتكلمون بأكثر من مئة وأربعين لغة مختلفة تشير بطبيعة الحال إلى عدد الجماعات العرقية التي ينتمون إليها. ومن الطريف كما يذكر رون أونز في ما يتعلق بالوضع في ولاية كاليفورنيا أن الطلبة في جامعة لوس أنجليس كانوا في الثمانينات يسخرون من الوضع في جامعتهم ويصفونها بأنها جامعة البيض الضائعين وسط الملونين أو أحياناً جامعة القوقازيين الضائعين وسط الآسيويين مع أن الوضع لم يكن بلغ تلك الدرجة من السوء والتأزم التي وصل إليها في نهاية القرن. ويشير بعض التوقعات الصادرة عام 1996 عن مكتب الإحصاء الأميركي حول التكوين العرقي للولايات المتحدة خلال العقود القليلة المقبلة إلى أن في عام 2020 سيؤلف الهيسبانيون نحو 25 في المئة من السكان بعد أن كانت نسبتهم تدور حول 10 في المئة في الثمانينات، بينما سترتفع نسبة الآسيويين من 3 في المئة إلى 8 في المئة ونسبة السود من 12 في المئة إلى 14 في المئة، وهذه كلها زيادات على حساب البيض الذين ستخفض نسبتهم من 74 في المئة إلى نحو 50 في المئة، وبذلك سيؤلفون أقلية نسبية تضاف إلى غيرها من الأقليات. والأكثر خطورة من ذلك هو أن في عام 2030 سيؤلف البيض أقل من نصف السكان الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة، وفي الوقت ذاته سيؤلفون 75 في المئة من السكان فوق سن الخامسة والستين. وهذا هو ما كنا نقصده من أن البيض سيؤلفون أقلية شائخة، ما يعني أن التركيبة الديموغرافية ستتغير وتتبدل إلى غير رجعة. ومن الطبيعي أن تؤدي هذه التغيرات في التركيب السكاني إلى حدوث تطورات وتحولات في العلاقات الاجتماعية وأنماط السلوك بل وتعديلات في النظم السائدة في المجتمع الأميركي مثل نظام التعليم وفي بعض المفاهيم الأساسية مثل مفهوم الديموقراطية خصوصاً أن الغالبية العظمى من الوافدين المهاجرين إلى أميركا يأتون من مجتمعات لا تعرف الديموقراطية ولا تعترف بها. ويذهب بعض المتشائمين حول مستقبل أميركا في ضوء ما يعتبرونه خللاً سكانياً إلى أن المجتمع الأميركي في النصف الثاني من القرن الحالي ستغلب عليه أنماط القيم التي تحكم سلوكيات شعوب العالم الثالث. وأن نوعية الحياة التي تعرفها أميركا والأميركيون البيض والتي يفترض أن يتقبلها الوافدون وأن يعملوا على الارتقاء بأنفسهم إلى مستواها ستتراجع لتحل محلها مستويات دنيا من الحياة والتفكير. وأن الأميركيين البيض سيجدون أنفسهم إزاء هذه الأوضاع أمام أحد أمرين يصعب المفاضلة بينهما، فإما أن يتقبلوها على رغم تعارضها كل التعارض مع أسلوب الحياة ومقومات الثقافة البيضاء التي نشأوا عليها، وإما أن يبتعدوا بأنفسهم عن بقية السكان حتى في أماكن السكنى والإقامة لكي يحافظوا على نقائهم العرقي والثقافي، ويحكمون بذلك على أنفسهم بأن يحيوا في معازل اجتماعية وثقافية أشبه بتلك التي فرضوها في وقت من الأوقات على السكان الأصليين الهنود الحمر، ثم بعد ذلك على العبيد السود. ويبدو أن هذا هو ما يحدث الآن فعلاً على نطاق محدود في كثير من المدن الأميركية مثل ميامي وديترويت. وستتسع ظاهرة الانزواء أو ما يسميه بعض الكتاب الأميركيين ظاهرة الهروب الأبيض أي هروب البيض White Flight وفرارهم أمام زحف الهسبانيين والآسيويين والسود والطريف في الأمر هنا هو أن الشرق أوسطيين يندرجون تحت فئة البيض على رغم كل التوترات السياسية الحالية. بل الأكثر من ذلك هو أن بعض هؤلاء الكتاب المتشائمين يرون أن يوماً سيأتي يفكر فيه بعض هؤلاء البيض في الهجرة من أميركا كلية إلى المجتمعات التي لا تزال تحافظ على كيانها وهويتها وثقافتها البيضاء، مثل كندا وأستراليا ونيوزيلنده على ما يقول Jared Taylor في مقال له في عنوان إذا لم نستطع أن نفعل شيئاً نشره في مجلة American Renaissance في حزيران يونيو 1996. فعلى رغم كل ما يقال عن الاندماج والتضامن الاجتماعي والوحدة الوطنية الأميركية ليس هناك من الأميركيين البيض من يحب أن يعيش - بحسب قوله - في منطقة تتحول بسرعة إلى نوع من حياة العشوائيات التي ستفرض نفسها بالضرورة مع ازدياد توغل الأعداد الكبيرة من هؤلاء المهاجرين بثقافاتهم وأساليب حياتهم المختلفة. فثمة إذاً إدراك واسع وعميق لدى الكثيرين لما يعتبرونه تدهوراً متوقعاً في مقومات الحياة الأميركية في المستقبل غير البعيد. كما أن ثمة تخوفاً من أن يؤدي هذا الزحف اللوني إلى امتصاص أهم ملامح ومميزات الثقافة الأميركية البيضاء بحيث لا تترك الأجيال الحالية من الأميركيين البيض لأحفادهم سوى وطن ينتمي إلى العالم الثالث قد يرفضون الحياة فيه. وأنقل هنا ما يقوله تايلور في نهاية مقاله:"إن ما نشاهده الآن هو مأساة من أبشع المآسي في تاريخ البشرية. فثمة قوى ضخمة تتحرك بسرعة رهيبة بحيث إذا تركناها من دون التصدي لها والعمل على إيقافها فستجرف أمامها الإنسان الأوروبي والحضارة الأوروبية ثم ترقص بعد ذلك رقصة النصر فوق قبورهما الجماعية. وإذا نحن لم نفعل شيئاً فسنترك وراءنا لأحفادنا مجتمعاً هو نسخة بائسة من العالم الثالث الفاشل وفيه سيؤلف البيض أقلية محتقرة كما تكون الحضارة الغربية مجرد صدى أجوف، وذلك على فرض إمكان سماعه على الإطلاق. فليس ثمة إذاً مأساة أسوأ من هذه المأساة خصوصاً أنها مأساة غير ضرورية وغير طبيعية". وقد يكون هذا نفسه هو شعور الأوروبيين إزاء المهاجرين العرب والمسلمين. وهو شعور يفسر كثيراً من الأوضاع والمواقف التي تميز العلاقات السياسية الحالية بين العالم الغربي والمجتمعات والدول والشعوب والثقافات اللاغربية. * أنثروبولوجي مصري.