غروب يوم الثالث عشر من نيسان ابريل 1975، كنا، عشرات من طلاب"منظمة العمل الشيوعي"ومناصريها في الجامعة اللبنانية آنذاك عائدين في موكب حافلات في رحلة نظمها القطاع الطالبي الى القرعون، عندما مر الموكب في عين الرمانة، فطارت"السكرة"- بالمعنى الحقيقي للكلمة - اذ شاهدنا مسلحي الكتائب منتشرين على الطريق ويقيمون حواجز أوقفنا واحد منها. لم نكن جميعاً سمعنا بأخبار البوسطة، لا في الذهاب ولا في الاياب، لأننا انشغلنا طيلة النهار بأمور أخرى... الى ان أدركتنا"الفكرة"وجهاً لوجه أمام الشرطة العسكرية الكتائبية. اذكر يومها انني تطوعت للحديث مع الحاجز ليسمح لنا بالعبور ولم أعد أذكر ما الحيلة التي استخدمتها وما اذا كانت هي التي أنقذتنا أو مظهرنا شباباً وشابات وقد كنا"نرى الديك حماراً". هذا المشهد شكّل علاقتي الأولى بالحرب، لأنني وان كنت أتذكر بعض الشيء صوراً من أحداث 1958 وكنت صبياً في الثامنة من عمري حينها، فان صورة الحرب ارتسمت فعلياً في 13 نيسان في ذهني... وكنت معنياً بها، بمعنى انني كنت منتمياً الى تنظيم سياسي ذاهب الى تلك الحرب ومنخرط فيها. وبصراحة متناهية، لم تكن صدمتي مع مشهد شارع عين الرمانة في غروب ذلك اليوم، هي التي قادتني الى وعي ان حرباً تندلع في لبنان، ولا عزوفي عن الذهاب الى منزل أهلي في عين الرمانة أيضاً وذهابي بدلاً من ذلك الى"المركز"هو من أيقظ ادراكي بوقوع الحرب. كانت الحرب"الأهلية"متوقعة في"التنظيم"الذي وان كان يفاخر آنذاك عن يسار"الحزب الشيوعي"بأن الحرب ليست حرب"التغيير الوطني الديموقراطي"كما كان الحزب يقول، فإنه في المقابل كان يرى فيها حرباً بين اليسار واليمين، بين الاصلاح والانعزال. وأياً يكن القول في توصيف هذه الحرب، فالحق ان اليسار بكل منوعاته، وربما بسبب قدرته في فترة ما بين أواخر الستينات ومنتصف السبعينات على تشكيل استقطاب ديموقراطي عابر للطوائف، لم يكن قد ألِف"المسألة الطائفية"وقال قوله فيها"الى ان انفجرت المسألة الطائفية تلك في وجهه. وقد تعرف جيل"نا"من اليساريين الى الموقف اليساري من الطائفية بالتزامن مع اندلاع الحرب، فإذا بها بالنسبة الى"المنظمة"مفهوم مركب"الطائفة - الطبقة"وبالنسبة الى الحزب"عاهة اجتماعية". يمكن كتابة الكثير عن هذه المرحلة. لكنني أوجز بأن علاقتي بالحرب لم"تتأزم"بداية على صعيد فكري، بل على صعيدين انساني وسياسي"انساني عندما سقطت والدتي في أرض المنزل وكنا قد انتقلنا من عين الرمانة"وأصبح منزلنا في رأس النبع. ففي عين الرمانة اقتحم مسلحون من"الشرقية"المنزل وكانت أمي وحيدة فيه ولم تعرف أن تميّز الى أي فصيل ينتمون، فحشروها في زاوية المطبخ وأحرقوا غرفاً في البيت وسرقوا أرشيفي وصوري و"النشرات الداخلية"قبل أن يتدخل الجيران وينقلوها الى الغربية. وفي رأس النبع، وكانت المعارك على أشدها بين"الحركة الوطنية"والقوى الموالية لسورية، فسقطت قذيفة آتية من موقع سوري لتقتلها. أما في السياسي، فقد شكل اغتيال الزعيم كمال جنبلاط محطة"التأزم"الرئيسة. ولا يخفى في هذا المجال أن كمال جنبلاط مثّل بالنسبة الى جيلي مصدر الأمان، فأن يكون كمال جنبلاط في الحرب وهو الاصلاحي - الثوري - الديموقراطي، فمعنى ذلك - آنذاك - ان الحرب لم يكن ممكناً تفاديها. وبصراحة أيضاً، فإنني ابن جيل ذهب الى الحرب"متحمساً"وفي ظنه انه سيأتي منها بتغيير ما، علماً ان الزعيم كمال جنبلاط كان صادقاً في القول انها"مغامرة"ولو انه اضاف ان هذه المغامرة"تستحق أن تخاض"... وقد قّتل في لحظة الذروة من هذه المغامرة. قد يبدو انني هنا"اتغافل"عن العوامل التي كانت أكبر من الجميع في هذه الحرب أو أنني أتناسى المعادلات التي أدت الى ما أدّت اليه، لا سيما قتل كمال جنبلاط، بيد أنني وأنا أكتب نصاً"قصيراً"أكتفي بالقول أن أزمة علاقتي بالحرب بدأت - داخلي - بعد عام من اندلاعها وبعد استشهاد جنبلاط في شكل أوضح. استمرت علاقتي بالحرب سياسياً، لأنني لم اضطلع بأي دور عسكري أو أمني فيها، كمن يجد نفسه على أمل واحد من اثنين: أما أن تنتهي بفعل تسوية ما، وكان سوق التسويات قد بدأ يروج آنذاك، واما بوعي"جماعي"من التنظيم، فلا تلك كانت ولا ذلك حصل في حينه. وتأكيداً على أنني لم أمارس العمل العسكري، فقد طلب مني ذات يوم وأنا مسؤول سياسي في"قيادة بيروت"أن اوافي مقاتلي"المنظمة"في فندق"هوليداي ان"وقد حرره"الرفاق"من الانعزاليين، لألقي عليهم التحية باسم القيادة وأخبرهم عن التطورات السياسية. وصلت بالفعل الى الفندق وأخذني أحد الرفاق الى الطابق تحت الأرض، لكن ما ان بدأت كلامي حتى علم رفاقي ان ثمة هرجاً ومرجاً في الفندق ناجمين عن اطلاق النار من الطوابق العليا. سارعوا لاكتشاف ما يحصل، فإذا ب"الانعزاليين"لا يزالون في النزل وان معارك كبيرة تنتظر. كان عليّ - لأنني"مسؤول"- أن أتماسك أمام المقاتلين، ولم أعد أدري ما اذا كنت نجحت في أن أكون"مقنعاً"، لكنني لم أدرِ كيف عدت الى"المركز"و"استلمني"بعض الأشقياء. ... بعد ذلك، كانت الحرب تسيء من مكان الى مكان، حتى صارت حروباً في كل شارع وكل طائفة وكل مذهب... ولم يقطع تناسلها سوى الاجتياح الاسرائيلي للبنانوبيروت في العام 1982. وربما في هذه الفترة فقط، شعرت بأنني وبأننا أقوياء. العبر كثيرة: الحرب قذرة مهما كان تصنيفها، التغيير يجب أن يكون سلمياً وتراكمياً، التغيير والحرب لا يستويان، الحرب تعني أن نستدعي الخارج الى نصرتنا فنغدو أدوات... لا بديل من التسويات، الطوائف معطى حقيقي، والعمل الحزبي شأن"حديث"اذا كانت الأحزاب راسخة في شعبها... الديموقراطية أساس، والعنف والقتل والتقنيص والاغتيال خارج أي دين أو ثقافة. انتهت الحرب في لبنان، ولا عودة الى الحرب. هذا كلام عميق وليس أنشودة، والذين استخلصوا دروس الحرب كثر جداً في لبنان اليوم. والتهويل بالحرب بضاعة كاسدة، فليس في بلدنا اليوم انقسام طائفي، والصراع السياسي مفهوم، وانتفاضة الحرية والاستقلال وحّدت الجميع من كل الطوائف والمناطق وعندما تنجز أهدافها"الأخيرة"ستعود الديموقراطية لتشكل الفيصل والميزان. نعم، كلام كثير يمكن ان يقال بمناسبة ثلاثينية الحرب. غير ان أصدق كلام يمكن ان يقال برأيي هو أن الحرب تقطع عمر الانسان وتقطع تواصل الزمان. ولأن كل اللبنانيين دفعوا الأثمان باهظة من حياتهم وحياة أحبتهم، ومن استقلال وطنهم وحريته، فإن اتفاق اللبنانيين ضد الحرب هو ما يجب أن يدخل كتاب التاريخ. وليس مبالغة القول ولو بسرعة ان اتفاق الطائف في يد اللبنانيين مرجعية لبنانية شاملة، فليطبقوه هذه المرة من دون رعاية أو وصاية، وليكن تطوره في الوقت المناسب جماعياً.