يصعب على اي عامل في مجال السياسة في لبنان ان يجد اي بصمة لليسار اللبناني، او مجرد اشارة تعبّر عنه، في كل ما وضع للحرب اللبنانية من حلول ومعالجات. والمعالجة الابرز لتلك الحرب تمثلت في "اتفاق الطائف" الموقع من قادة وسياسيين ونواب لبنانيين، وبحضور عربي، في مدينة الطائف. وليس لليسار اللبناني ان يدعي انه كان له دور في نقل صلاحيات وامتيازات من هذه الطائفة الدينية اللبنانية او تلك الى طائفة دينية اخرى، كأن هذا النقل ليس نصراً يمكن الادعاء به والافتخار به من جانب اليسار. هذا كله على رغم ان قوى اليسار اللبناني حُسبت الحرب اللبنانية عليها، او انها هي التي كانت جذوتها وأوارها، لكنه لم يستطع الامساك بأي من نتائجها. اما لماذا حدث ذلك، فالأسباب كثيرة، لكن ابرزها هو تكوّن اليسار نفسه، وخط سيره منذ منتصف خمسينات القرن الماضي، وهو خط كان محكوماً بكل ما كان يحيط باليسار من ظروف وقوى كان لها الاثر الاكبر عليه اكثر من تأثير المعطيات الذاتية لقوى اليسار تلك. ابرز تلك الظروف واقع المجتمع اللبناني العائلي - الطائفي الذي بقي عصياً على طروحات القوى اليسارية فهماً ومعالجة. اما ابرز تلك القوى داخلياً فهو الوجود المتميز لكمال جنبلاط فكراً وواقعاً جماهيرياً وسياسياً. فكمال جنبلاط كان صاحب فكر تقدمي، جسّده في حزبه "التقدمي الاشتراكي"، وزعيم قوى شعبية ضاربة لها وزن كبير في الساحة اللبنانية ثم في الساحة العربية والعالمية. الامر الذي ابقى قوى اليسار تحت سقفه وبقيادته لعقود، اما خارجياً فكان للقائد التاريخي جمال عبدالناصر الاثر البارز على قوى اليسار اللبناني، وبعده ومعه المقاومة الفلسطينية. فعبدالناصر شكّل سقف مرحلة تاريخية ايضاً في مجتمعات عربية واسلامية طوال حقبة امتدت منذ 1952 الى 1970 وهي سنة رحيله، الى ما بعد رحيله وربما حتى الآن. شكّل عبدالناصر نهوضاً قيادياً وطروحات متقدمة في ارض الواقع الشعبي، وانتصارات سياسية تاريخية على القوى الاستعمارية الخارجية والقوى الاقطاعية الداخلية، ذلك كله اضعف قوى اليسار الى درجة كادت لا تجد مبرراً لوجودها مستقلة عن تيار عبدالناصر فانوجدت فيه ولا اقول غرقت. ومع عبدالناصر وبعده جاءت المقاومة الفلسطينية حركة مشرقة، تمثل التحدي المباشر المتميز لاسرائىل كموقع استعماري امامي في المنطقة العربية والاسلامية، والتحدي غير المباشر لقوى الاستعمار التي يناهضها اليسار ويناضل ضدها. واتسع تيار المقاومة، كما تيار عبدالناصر، فانوجدت قوى اليسار اللبناني في تيار المقاومة اذا لم نقل غرقت فيه فعلاً، وبالكاد خرجت منه. هذه حال قوى اليسار الرسمي التقليدي في لبنان في حين كانت هناك قوى تقدمية في لبنان، وكانت تدعي انها يسار بقي متميزاً، على محدوديته، عن جميع القوى المحيطة به بما فيها اليسار الرسمي، وخصوصاً انه ميّز نفسه عن المقاومة الفلسطينية بصعوبة. وهذا الادعاء بالتميز يبرر الكلام عن سياق يسار في لبنان يمكن ان نسميه جديداً، وهو سياق ابعد من التمييز بين الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي واتحاد الشيوعيين اللبنانيين. والواقع ان طروحات اليسار النظرية والواقعية كانت دائماً من الوضوح بمكان كبير عالمياً ومحلياً، وهي من الدقة نظرية وممارسة اذ يبدو غير مقبول اي خلط بين اليسار واليسار الجديد وتحديد خصوصية اليسارين في العالم. فاليسار الرسمي التقليدي قدّم نفسه تيار احزاب تقول بالعمل للتغيير بالطرق الديموقراطية، اي تغيير بالتطور والتطوير الاقتصادي الاجتماعي والسياسي. في حين ان اليسار الجديد اراد ان يكون يسار تغيير من طريق تثوير الاوضاع من دون انتظار نضجها لوحدها او نضجها سلمياً، بل انضاجها بفعل حرق مراحل التطور التقليدي من طريق العمل المسلح ضد السلطات، وتوسيع البؤر الثورية بين الجماهير، وفكفكة القوى التي تعيق التطور، اي هزها وتأزيمها بالقوة. واذا كانت الاحزاب الشيوعية شكلت اليسار التقليدي الرسمي في العالم، وجسّدت طروحاته نظرية وممارسة، فإن الحركات الثورية شكلت اليسار الجديد. وتبلور ذلك في كوبا ومعظم اميركا اللاتينية حيث ارنستو تشي غيفارا وفيديل كاسترو وريجيس دوبريه وغيرهم، وفي افريقيا حيث باتريس لومومبا ومنظّر الثورة الجزائرية فرانز فانون، وصولاً الى ايطاليا حيث "الالوية الحمراء" الى اليابان حيث "الجيش الأحمر" الى مناطق العالم كله، حيث رموز اليسار الجديد وحركاته. هذا التميز بين يسار رسمي ويسار جديد ثوري هو الذي شكل المدخل للتشكيك في ثورة كوبا وفي يساريتها في البداية، وهو الذي كلّف غيفارا الكثير وكاد يعزله عن حركة اليسار في العالم ويشكك بكفاحه المسلح، باعتباره يجسد يساراً طفولياً ويساراً خطراً على اليسار الرسمي وعلى خط سيره الديموقراطي السلمي. لكن انتصار الثورة في كوبا وصمودها لم يترك مجالاً لليسار الرسمي العالمي، المتمثل حينذاك بالاتحاد السوفياتي والاحزاب الشيوعية العالمية، ان يتردد امام دعم الثورة وتزكيتها نظرية وممارسة. كذلك شكّل تحول غيفارا الى رمز للثورة المسلحة في اميركا اللاتينية والعالم ضاغطاً على اليسار الرسمي العالمي للقبول به واحداً من قادة اليسار البارزين على رغم انه مجسّد اليسار الجديد، اي اليسار الثوري، الذي سمته النظرية اليسارية الرسمية باليسار الطفولي والمراهق، يوماً، ثم تراجعت عن ذلك. من هنا، يبدو غير مقبول أي خلط بين اليسارين في لبنان. فالحزب الشيوعي اللبناني يجسد اليسار الرسمي التقليدي في لبنان منذ البداية مع حزب الشعب في الثلاثينات، ثم اصبح حزباً شيوعياً، وجاء انشقاق على الحزب الشيوعي المتمثل ب"اتحاد الشيوعيين اللبنانيين"، ليشكل خروج بعض القياديين من الحزب على الحزب، من دون ان يندفعوا الى تجاوز الحزب وطروحاته، بل ظلوا في دائرة اليسار الرسمي في لبنان على رغم رفضهم فردية القيادة وستالينيتها مع بعض ملاحظات موغلة في لبنانيتها. وتطورت مجموعة متنوعة قومية عربية ووطنية لبنانية في تشكيلات راحت تقترب من اليسار الرسمي اللبناني، فكانت مجموعة "لبنان الاشتراكي" ومجموعة "اللبنانيون الاشتراكيون" ثم منظمة العمل الشيوعي. ورافق تطور هذه المجموعات ضجيج نظري وأحياناً واقعي، لكنه لم يصل الى ان يرسي منظومة حزبية متميزة عن اليسار اللبناني الرسمي. وظل التمايز بين "الحزب" و"المنظمة" لا يتعدى زيادة في قراءة طروحات الماركسية هنا، وزيادة وعي طروحات سياسية هناك، كان لها خصوصيتها وربما ايجابيتها، لكن من دون ان يرقى سياق "المنظمة" الى اليسار الجديد، اليسار الثوري المتعارف عليه عالمياً، بل اوغل بعض "منظمة العمل الشيوعي" في الالحاح على ديموقراطية اليسار، في محاولة للنيل من فرديات اليسار الرسمي في لبنان وسورية، والنيل من قوى كانت بدأت تتشكل يساراً متميزاً. ان هذا هو الفهم الافضل ل"المنظمة" فهمها بمضمونها، لأنه يصعب تأريخ اليسار الجديد بأشخاص، وتمييزه بتميز هؤلاء الاشخاص في حركتهم وتنقلهم بين الجماعات والتشكيلات، لأن اي تمييز ليسار عن يسار هو بالطروحات النظرية والممارسة معاً وليس بالأشخاص. جبهة مكافحة الصهيونية واذا كان من حديث حول اليسار الجديد في لبنان فإنه تمثل في قيام مجموعات لبنانية دعت لمواجهة السلطة اللبنانية بالعنف، وكان ذلك معاصراً لنهوض المقاومة الفلسطينية في لبنان خلال العام 1968، وان كانت هناك بدايات مع منتصف الستينات، وكانت تلك المجموعات في اطار "الجبهة التقدمية لمكافحة الصهيونية" التي كانت تغطي عملياً حركة سرية هي "الحركة الثورية اللبنانية الاشتراكية" حرث التي كانت تبني اذرعها العملية في اطار "لواء طانيوس شاهين" في الداخل و"الحرس الثوري اللبناني" في جنوبلبنان بالتعاون مع المقاومة الفلسطينية. هذه "الجبهة" التي كانت مجموعاتها تتحرك سراً، وفي شكل فاعل مع المقاومة الفلسطينية عندما كانت ما زالت موجودة في اقاصي جنوبلبنان، خلال 1967 و1968، اثبتت وجودها في دعم ميداني مباشر للعمل المسلح ضد اسرائيل عبر المقاومة الفلسطينية ومن دونها في جنوبلبنان. والى جانب عمليات التموين والدعم العملياتي التي كانت تقوم بها تلك المجموعات للمقاومة، غالباً ما تمكنت من اختراق حصار حول وحدات للمقاومة لانجادها ومساعدتها. ومع العام 1969 واندفاع المقاومة الفلسطينية، وبالذات حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح-قوات العاصفة" الى الداخل اللبناني، ابلغت "الجبهة التقدمية لمكافحة الصهيونية" "فتح" رفضها ذاك الاندفاع لأنه لا ينسجم مع منطق المقاومة ضد اسرائىل التي يفترض ان تكون محصورة حتى في اقصى الجنوب وليس في قرى الجنوب، فكيف بهذا الاندفاع الى الداخل اللبناني الى العاصمة بيروت. وتحركت "الجبهة" في انتقادها لتصرف "فتح" ورفضها في اطار صيغة تحالفية معها في البداية. لكن قيادة "فتح" في لبنان، وكان يتولاها احد الجزائريين في شكل رئيسي مع فلسطينيينولبنانيين، رفضت هذا الانتقاد وتجاوزته، بسبب ما كان ل"فتح" والمقاومة الفلسطينية ككل يومذاك من رصيد كبير في لبنان والمنطقة بعد هزيمة 1967، ومن هالة كبيرة يمكنها اغراق اي معارض لها. وأمام هذا الرفض من جانب "فتح"، لجأت "الجبهة التقدمية لمكافحة الصهيونية" الى دعوة الاحزاب اللبنانية جميعها للاستقواء بها لاقناع "فتح" بعدم الاندفاع الى الداخل اللبناني. وكانت هذه الدعوة اول تصرف علني "للجبهة"، بعد ان كانت جميع اعمالها سرية تقوم على تدريب عناصرها في اطار حرث في قواعد المقاومة وغيرها، وعلى دعم ميداني للمقاومة وبالذات لحركة "فتح". ونجحت "الجبهة" في دعوتها الاحزاب، وعقد الاجتماع الكبير في منزل المسؤول الرئىسي لحزب البعث العربي الاشتراكي الذي كان له آنذاك وجود فاعل في لبنان ومعه منظمة "الصاعقة". الاجتماع عقد في العشرين من نيسان ابريل 1969، وحضره نحو عشرين مسؤولاً يمثلون الاحزاب اللبنانية كلها، وأصروا ببيانهم تحت اسم "تجمع الاحزاب والفئات التقدمية في لبنان". وجرى توقيع البيان الصادر في 20/4/1969 من الاحزاب الآتية: الحزب التقدمي الاشتراكي، الشيوعيون اللبنانيون، حزب البعث العربي الاشتراكي، الجبهة التقدمية اللبنانية لمكافحة الصهيونية، القوميون العرب، لبنان الاشتراكي، المستقلون التقدميون. كان هدف الاجتماع الاستقواء بالأحزاب اللبنانية كلها لاقناع "فتح" بالذات، الى غيرها من الجبهات الفلسطينية الفدائية لأن هذه الجبهات كلها كانت ذات التزام حزبي، اقناع "فتح" و"قوات العاصفة" بعدم الاندفاع بسلاحها الى داخل لبنان. وحاول انصار "فتح" في الاجتماع الانحراف بالاجتماع لمصلحة "فتح"، لكن رئيس الجلسة ممثل "الجبهة" تمكن من الابقاء على برنامج الاجتماع واضحاً على رغم عدم وجود جدول اعمال له، ولخص الوضع في نقطتين: الاولى: القول بضرورة التلاقي حول معارك نضالية في لبنان هو الذي دفع لمثل هذا الاجتماع وسهّله. الثانية: ان التناقضات التي تحول دون اجتماع الاحزاب والفئات التقدمية تصغر امام المرحلة والنضال الذي تقتضيه. ودار الجدل حاداً بين اشخاص كانوا في الاجتماع حينذاك، وما زالوا رموزاً حزبية حالياً، تقول بدعم العمل الفدائي اولاً، في نوع من عدم وضوح الرؤية ورغبة في ركوب الموجة. وأكد رئىس الجلسة مسؤول "الجبهة" قائلاً: عندما دعونا لهذا الاجتماع انما كنا نلخّص الموقع النضالي الذي نعمل له في تحديد الصيغة اللبنانية للنضال في لبنان، ومن بنودها دعم العمل الفدائي. وبعد جدل امكن تحديد جدول عمل الاجتماع واقراره على النحو الآتي: 1- شجب واستنكار جميع المشاريع المشبوهة لتصفية قضية فلسطين وخصوصاً شجب المشروع الاردني. 2- الدعم اللبناني للعمل الفدائي من اجل تحرير فلسطين. 3- تحديد الصيغ اللبنانية لتنفيذ البندين السابقين. وعندها طلب مندوب جماعة "لبنان الاشتراكي" تحديداً الاستماع الى رأي ممثل الفدائيين في الاجتماع وتوجه الى مندوب "فتح"، لمعرفة "كيف يجب دعم الفدائيين؟"، فرد رئىس الجلسة بقوله: نحن هنا كمناضلين لبنانيين، جزء من علمنا السياسي يقتضي دعم المقاومة، والقوى اللبنانية تقرر كيفية ذاك الدعم اولاً وليست المقاومة. وجاء في نص محضر الاجتماع بالحرف: "ان هذا الاجتماع هو لجعل المناضلين اللبنانيين يحددون بأنفسهم صيغ الدعم اللبناني للنضال الفلسطيني... ان دعم العمل الفلسطيني المسلح هو احد معارك النضال اللبناني". وأعلن مندوب "فتح" يومذاك موافقته مرغماً على هذه الصيغة ولم يُترك له امر التحدث. كان الهدف من الاجتماع تشكيل جدار من الاحزاب اللبنانية يستطيع الحيلولة دون اندفاع مسلحي "العاصفة - فتح" والمقاومة الفلسطينية ككل الى الداخل اللبناني، وحتى الى داخل القرى اللبنانية في الجنوب. وتحقق هذا الموقف في التظاهرة التي انطلقت في 23 نيسان ابريل 1969 بقرار من الحزبيين الذين تلاقوا في ذاك الاجتماع، وتميزت تلك التظاهرة بأنها كانت لبنانية في غالبيتها المطلقة، وكانت قادرة ان تحول دون رفع اي شعارات ولافتات تظهر سيطرة المقاومة و"فتح" بالذات عليها، ولم ترفع فيها الا لافتة واحدة كبيرة في مقدمها. انتشار السلاح الفلسطيني لكن هذا الموقف "النضالي اللبناني" لم يصمد طويلاً، اذ بعد الاجتماع الاول عقدت القوى نفسها اجتماعات متتالية، وخصوصاً بعد ان قمعت التظاهرة بقوة وسقط شهيد وجرحى لبنانيون فيها. فقد تحركت "فتح"، وتمكنت بسرعة من اجتذاب قيادات الاحزاب اليها، وكان التحول واضحاً الى نوع من تجمع حول المقاومة. وراحت هذه الصيغة تتطور حتى اصبحت "فتح" هي المركز وكل القوى التي التقت في "تجمع الاحزاب" معها وتدور حولها. وهنا حدث الكثير، وكان ذلك في العام نفسه 1969 عندما تمكنت "فتح" من توسيع مدى تأثيرها على الشارع اللبناني وقياداته، الى درجة اتاحت توقيع "اتفاق القاهرة" الذي جعل "فتح" اي "الثورة الفلسطينية" جزءاً فاعلاً في السياسة اللبنانية. فاتفاق القاهرة لم يكن فقط لحصر الوجود الفلسطيني في جنوبلبنان في ما سمي "فتح لاند"، بل اتاح لممثلي المقاومة وجوداً فعلياً في الاطار السياسي اللبناني. والسبب في ذلك ان الاحزاب، وهي اليسار يومذاك، لم تستطع ان تضع حدوداً للمقاومة: اين يجب ان توجد؟ وأين يمكنها ان تتحرك؟ وما مدى تحركها؟ كي لا تتسبب بهز المجتمع اللبناني كله وتهديد بنيته وتحويله الى مدى تتحرك فيه "الثورة"... اليسار الرسمي يومذاك قدم نفسه مع المقاومة، لكنه ايضاً استقوى بها وأراد ان يقاتل بها او تقاتل باسمه. لكنه بقي يساراً أميناً لنضاله الديموقراطي السلمي على رغم دعمه لحركة مسلحة. الى ذلك تمكنت حركة "فتح" تحديداً من الاستفراد ب"الجبهة" التي وجدت نفسها خارج تجمع الاحزاب بعد التظاهرة المشار اليها. فتمكنت "فتح" من شق صفوف "الجبهة"، وهز بنيتها وحتى لاحقت عناصر منها بقوة السلاح. واندفع اليسار الرسمي مع "فتح" ليدين تلك "الفئة الصغيرة"، والمقصود "الجبهة"، التي ارادت ان "تتفلسف" على الساحة الحزبية العريقة في حزبيتها، ويساريتها كما قيل آنذاك. وتحولت تلك الفئة الصغيرة الجبهة الى العمل السري كلياً في اطار بنياتها السرية تحت اسم "الحركة الثورية اللبنانية الاشتراكية". وباتت معزولة كلياً عن المقاومة وعن اليسار الرسمي اللبناني الذي كان معها. وفي حين كان اليسار الرسمي مع المقاومة المسلحة منذ 1969، لكنه كان ضد حمل السلاح والعمل بالسلاح طوال سنوات، الى ان اضطر الى ذلك او وجد مصلحته في ذلك في العام 1976 السنة الثانية من الحرب اللبنانية. وشهد اليسار "حزباً" و"منظمة" انشقاقات بسبب جدل حول حمل السلاح. بينما كانت تلك "الفئة الصغيرة" مارست العمل المسلح منذ 1968، وتابعت ذلك منفردة على رغم تحرك "فتح" ضدها وغيرها، فقامت بعمليات في جنوبلبنان بعيداً عنها، وقامت عام 1973 بعملية كبرى في وسط بيروت اقتحام بنك اوف اميركا في شارع المصارف، في سياق حرب 1973، واستشهد من عناصرها البارزين اثنان واعتقل اثنان حكم عليهما بالاعدام، وخرجا في ما بعد في اطار تعاظم الحرب وافرازاتها. ولقيت هذه العملية معارضة من "فتح" واليسار معاً آنذاك على رغم وضوح تلك العملية سياسياً. هذه الفئة واقعاً كانت "اليسار الجديد" في لبنان. ولا يضيرها انها اصبحت فئة محدودة العدد، وهو ما تتصف به مجموعات اليسار الجديد، لكنها قامت بما يقرب من عشرين عملاً له صفة تثوير الاوضاع بقوة السلاح على علات "نظرية التثوير" تلك في مجتمع كالمجتمع اللبناني. ان التأريخ لتلك المرحلة، ولحركة تلك القوى اليسارية آنذاك ليس للدفاع عن تلك الفئة التي جهدت في اتجاه تثوير الاوضاع في لبنان، باعتبار ان جهدها ذاك كان في غير موقعه، بل اقترب من الخطأ اكثر لأسباب عدة تحتاج لبحث مستقل، وانما لتحديد ادق لما يمكن ان يسمى باليسار الجديد في لبنان. هذا اليسار متعارف عليه عالمياً انه خارج اليسار الرسمي التقليدي، ولم يتبن لا "الحزب" ولا "المنظمة" هذا اليسار. وعلى رغم فروقات في تحليل المضمون والتذاكي في التحليل، من جانب "الحزب" و"المنظمة"، الا انها فروقات لم تمنعهما من ان يوجدا معاً طوال اكثر من عقد من الزمن، من دون ان يتناقضا الى حد يكشف تميز احدهما عن الآخر. والذي يشير الى ان هذا اليسار الرسمي التقليدي ليس باليسار الجديد، اليسار الثوري، هو ان هذا اليسار الرسمي لم يبقَ مع السلاح عندما جرى ترحيل المقاومة وسلاحها معها. وها هو اليسار الرسمي حالياً بعيد من السلاح، حزباً ومنظمة، على رغم ان وضع جنوبلبنان اقتضى قيام مقاومة مسلحة، وكانت "المقاومة الاسلامية - حزب الله" العامل الضاغط لتحريره، ونجحت لأنها كانت من طبيعة المجتمع وهويته الثقافية ومعتقداته. وهذا يشير ايضاً الى طبيعة تكوين اليسار الرسمي، الذي كاد يقع خارج المجتمع وكثرته البشرية، ويشير الى خصوصية هذا اليسار التي ليست عيباً ويفتخر بها، ولا ضرورة لتحميله "الجِدّة اليسارية" تلك. اما اليسار الجديد هذه الايام فهو مختلف كلياً عن كل هذه الطروحات ولم يتبلور بعد كموضوع للمناقشة. * كاتب لبناني.