في إطار التوجه الذي كان لمّح إليه اثناء معركة الانتخابات النيابية اللبنانية بإعادة النظر في تموضعه السياسي وفي خريطة التحالفات، فجّر رئيس «اللقاء النيابي الديموقراطي» رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط امس قنبلة سياسية من العيار الثقيل ستكون لها تداعياتها وارتداداتها على مستوى حلفائه في قوى 14 آذار، وكذلك على مستوى أطراف في الأقلية في البرلمان، خصوصاً لجهة قوله: «ان تحالفنا في مرحلة معينة تحت شعار 14 آذار لا يمكن ان يستمر وعلينا التفكير اولاً داخل الحزب وثانياً على الصعيد الوطني من اجل الخروج من هذا الانحياز والانجرار الى اليمين والعودة الى أصولنا وثوابتنا اليسارية والعربية والنقابية والفلاحية، خصوصاً ان الانتخابات اكدت اكثر من أي وقت مضى الفرز الطائفي في البلاد».موقف جنبلاط جاء في خطاب ألقاه امام اعضاء الجمعية العمومية الاستثنائية للحزب التقدمي الاشتراكي التي غلب عليها الطابع التنظيمي من اجل التجدد وتطوير التربية الحزبية واتسمت بإجراء مراجعة نقدية جريئة لمواقف الحزب وحلفائه في السنوات الأربع الأخيرة التي أعقبت اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، واعتبره المراقبون بمثابة إطلاق أول إنذار على طريق الإسراع في إنجاز معاملات الطلاق السياسي مع بعض حلفائه المسيحيين في قوى 14 آذار، بعد انقطاعه عن التواصل معهم وتجميد حضوره لاجتماعات الأمانة العامة لهذه القوى. وانتقد جنبلاط، من دون مواربة، ذهابه الى واشنطن واجتماعه بالمحافظين الجدد، وقال: «ذهبنا الى اللامعقول عندما التقينا معهم من اجل حماية ما يسمى بثورة السيادة والحرية والاستقلال... لكن ذهابنا آنذاك، ولست هنا لأبرر، كان همنا الأساس هو موضوع المحكمة الدولية لمحاكمة المتهمين في جريمة اغتيال الرئيس الحريري، إلا انه حدث ما حدث وذهبنا ولم تكن تلك إلا نقطة سوداء في تاريخنا». وكانت مواقف جنبلاط طغت امس على ما آلت إليه الجهود المبذولة من الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة سعد الحريري، وطرحت تساؤلات عن طبيعة الخطوة التالية التي سيلجأ إليها في سياق تأكيد تمايزه عن بعض حلفائه من المسيحيين، مع انه لم يأت على ذكر أحدهم لا في خطابه العلني المكتوب ولا في المداولات التي أعقبته، والتي أطلقت نقاشاً حيوياً داخل الجمعية العمومية للحزب تباينت الآراء في تقويمه لا سيما انها لم تخل من ملاحظات على بعض ما أعلنه، تعامل معها رئيس التقدمي بانفتاح ومرونة رغبة منه في ان يأخذ النقاش مجراه الطبيعي للوصول بالحزب الى صيغة تنظيمية جديدة. تيار المستقبل وفي رد غير مباشر على كلام جنبلاط، اصدر تيار المستقبل بيانا «اكد فيه تمسكه بمبادئ ثورة الارز عموما وبذكرى 14 آذار خصوصا، وهو اليوم الذي انتفض فيه جميع اللبنانيين في وجه اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، ودفاعا عن مبادئه. وهذا اليوم هو يوم انصاف لرجل العروبة والوطنية رفيق الحريري الذي كرس حياته لفتح ابواب العروبة الحديثة القائمة على الاعتدال والانفتاح والتطور. وكان ايضا يوم تذكر فيه جميع اللبنانيين، بمن فيهم من خاصمه في حياته السياسية،كم كان عارفا بمآسي الناس العاديين عمالا وفلاحين، فكرس حياته لتحسين معيشتهم». واضاف البيان «ان تيار المستقبل يعلن تمسكه بهذه المبادئ ويعلن انه لن يتغير، وان لبنان اولا سيبقى شعاره، لان لا مكان لاحد في لبنان ان لم يكن لبنان العروبة الحديثة اولا ولبنان الاعتدال اولا ولبنان العيش المشترك والمناصفة اولا ولبنان الحرية والرسالة وقبول الرأي الآخر اولا». وزاد: «اذا اراد البعض ان يذكر بتاريخه، فلا بأس شرط الا نعود الى التاريخ المعيب الذي كان فيه كثيرون شركاء في اعلاء مصالحهم الخاصة على مصلحة الوطن... ان قوى 14 آذار لم تكن يوما قوى رافضة للآخر بل كانت قوى انفتاح للمطالبين بتطبيق الطائف والدستور وكانت المبادرة الى الدفاع عن العروبة وقضيتها المركزية فلسطين في وجه العدوان الاسرائيلي». وخلص البيان الى «ان تيار المستقبل يؤكد ان رئيسه (سعد الحريري) سيبقى على مبادئ وخط مؤسس التيار الرئيس الشهيد رفيق الحريري الذي لم بضع سوى مصلحة لبنان نصب عينيه». ومع أن جنبلاط لم يتطرق في موضوع انتقاده لمساره السياسي في السنوات الأخيرة الى حلفائه من المسيحيين ولا الى علاقته برئيس الحكومة المكلف، فإن المراقبين للتحولات السياسية التي كانوا ينتظرونها منه لاحظوا ان «الكيمياء السياسية» بينه وبين حليفيه رئيس «حزب الكتائب» امين الجميل ورئيس «القوات اللبنانية» سمير جعجع مفقودة تماماً كتلك المسيطرة على علاقة رئيس المجلس النيابي نبيه بري بحليف حليفه رئيس «تكتل التغيير والإصلاح» العماد ميشال عون. ورأى المراقبون ان جنبلاط أراد ان يطلق الإنذار الأخير استعداداً للقاء بري في منتصف الطريق من دون ان يتخلى عن تحالفه مع الحريري أو الذهاب في خطوات للتفريط به. لكن المراقبين اكدوا في الوقت نفسه ان جنبلاط لا يتوخى من انتقاده، في مداخلاته رداً على المؤتمرين، للخطاب المذهبي والطائفي والانعزالي تحضير الأجواء لتجديد تحالفه مع حركة «امل» و «حزب الله» بذريعة انه يحمل على بعض حلفائه لمصلحة قيام تحالف إسلامي في وجه المسيحيين. وفي هذا السياق، قالت مصادر مقربة من المؤتمرين في الجمعية العمومية للحزب التقدمي ل «الحياة» ان جنبلاط اراد من خطابه او من خلال المداخلات التي أعقبته إجراء تقويم دقيق لمرحلة مهمة من المراحل السياسية التي كان فيها الحزب رأس حربة في المواجهة مع سورية وحلفائها في لبنان. وكشفت المصادر نفسها، ان جنبلاط اعترف بأن الحزب، مع حلفائه، ذهب بعيداً في خطاب مذهبي طائفي تعبوي ولم يلتفت الى الثوابت التي انطلق الحزب منها لحظة تأسيسه ولا الى المشكلات الاقتصادية والاجتماعية وهذا يعني من وجهة نظره ان الحزب خرج من تاريخه وكاد ينقلب عليه. ورداً على سؤال أوضحت ان جنبلاط شدد على ضرورة العودة الى الثوابت وإلى الأصول التي تأسس على أساسها «التقدمي» آخذاً في الاعتبار المتغيرات التي اخذت تلوح في المنطقة من الحوار السعودي – السوري الى الحوار السوري – الأميركي، بمشاركة أوروبية، مؤكداً ان «من غير الجائز ان نبقى أسرى لمواقفنا». كما اعترف جنبلاط في مداخلاته بأنه ذهب بعيداً في المواقف من سورية و «حزب الله» وأنه آن الأوان لإعادة تقويم هذه المواقف بعد قيام المحكمة الدولية والتوصل الى تبادل السفيرين بين لبنان وسورية وانسحاب الجيش السوري من لبنان والحديث عن ترسيم الحدود بين البلدين. إلا ان جنبلاط لم يقلل من اهمية هذه الإنجازات التي تحققت، لكنه رأى في اتفاق الطائف الناظم الوحيد للعلاقات اللبنانية – السورية لتنقيتها من الشوائب واحترام مبدأ عدم التدخل من أي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر. ولفت جنبلاط ايضاً الى ان اعتماد الخطاب المذهبي الطائفي التعبوي كان وراء تصوير الطائفة الشيعية ككل على انها عدوة، وقال ان المسؤولية تقع على جميع الأطراف من دون استثناء، «وأنا أول المسؤولين ولست الآن على قناعة بخطاب لبنان أولاً لأنه يُخشى منه العودة الى التأطير المذهبي، وهذا ما يتعارض مع المثلث الذي اختاره الحزب شعاراً له وهو العروبة والوحدة والاشتراكية». وأبلغ جنبلاط ، بحسب المصادر، المؤتمرين ان كلامه غير شعبي وسيكون موضع سجال وتجاذب داخل الحزب أولاً «لكن علينا منذ الآن أن نعي أهمية المرحلة في ضوء ما حصل من تداعيات جراء حوادث 7 أيار العام الماضي التي شاركنا فيها بكل إمكاناتنا وطاقاتنا وكنا على مشارف الدخول في حرب أهلية لن تعود وسنتصدى لمن يحاول العودة بلبنان الى الماضي». ونقل عن جنبلاط قوله: «انا أقول هذا الكلام، ليس من اجل التهرب من المسؤولية التي أتحملها بالكامل كما يتوجب على غيري ان يتحملها، صحيح كنا نسمع للولايات المتحدة ولغيرها وكان تحالفنا مع الرئيس جورج بوش والمحافظين الجدد ضد الطبيعة مع اننا كنا مضطرين الى ذلك، والآن علينا ان نفكر بصيغة جديدة سواء داخل الحزب ام على الصعيد الوطني العام». وأكد جنبلاط انه لن يذهب الى سورية إلا بعد زيارة الحريري لها وأنه «لا بد من ان نطوي الصفحة التي مرت فيها علاقاتنا بسورية إنما على قاعدة الاحترام المتبادل وإقرار الجانب السوري بذلك». وتطرق جنبلاط الى موقفه من سلاح «حزب الله» وقال: «صحيح في السابق كنا ندعو الى تجميع سلاح حزب الله باعتباره يشكل خطراً على لبنان طالما ان قرار السلم والحرب بيده، وربما في هذه الأثناء كنا نرى الأمور بعين واحدة، والآن علينا ان ننظر بالعين الثانية الى الخروق الإسرائيلية للبنان». وحذر جنبلاط من ان الاستمرار في التفكير المذهبي والطائفي يؤدي الى زوال لبنان. وقال ان هذا التفكير «يحولنا الى حرس حدود لإسرائيل وهذا ما نرفضه ولا بد من الخروج من تقوقعنا الطائفي والعودة الى الأصول». وإذ لم يتطرق جنبلاط الى الوضع الحكومي قال: «كنا راهنا في السابق على سقوط النظام السوري لكنه استعاد دوره الآن ولا نستطيع ان نعوّل على دور واشنطن ولا الأوروبيين وعلينا ان نتموضع على مسافة واحدة من الجميع». وحذر جنبلاط من تفاقم الصراع السني – الشيعي في المنطقة، وقال: «لا مصلحة لنا في حصوله أو ان نكون في واجهته والتعديل في الخطاب السياسي أمر ضروري ويسمح لنا بأن نكون من ضمن التسوية في حال حصولها وليس خارجها».