هناك ذلك المشهد الذي يحاول فيه جنود فرنسيون الخروج من الخنادق المحفورة عند خطوط القتال على الجبهة الألمانية المشتعلة. لو تُركوا وشأنهم، لما أطل أحد برأسه، لكن الأوامر الصارمة اقتضت محاولة التقدم صوب المواقع الألمانية واحتلالها. هم بين نارين، نار العدو إذا تقدّموا، ونار القيادة العسكرية إذا تقاعسوا. ينهض هؤلاء الجنود من جحورهم ويحاولون التقدم في يوم رمادي قاتم. بعضهم ينقلب عائداً لتوّه الى الخندق وقد أصيب. ينقلب الى الوراء وخندقه يصبح قبره. البعض الآخر يتقدم خطوات ثم يقع ولا أحد ينجو. النار تحصد الجميع باستثناء من اختار التقاعس، والقيادة الفرنسية، متمثلة بجنرال لا يريد الاعتراف بأنه أخطأ في إصدار قرار الهجوم، تريد إعدامهم. لا يزال"دروب المجد"لستانلي كوبريك 1957 عن رواية لهمفري كوب شارك في كتابة السيناريو لها الروائي جيم تومسون، أحد أفضل الأفلام المعادية للحرب كمبدأ عام وكموقف إنساني رافض للقتل خرجت في التاريخ الى اليوم. إنه يتقدم على، او يقف جنباً الى جنب مع"كل شيء هادئ على الجبهة الغربية"لويس مايلستون - 1930 و"الديكتاتور العظيم"تشارلي تشابلن - 1940 والروسي"صعود"لاريسا شبتكو - 1976 والألماني الشرقي حينها"أمي أنا حي"كونراد وولف - 1976 و"سفر الرؤيا... الآن"فرنسيس فورد كوبولا - 1979. كلها رائعة في النظر الى سلام مفقود وشهوة حرب جانحة وكلها من نوعية أفلام توقف ضخ الحياة فيها. ذلك أن الحرب الدائرة اليوم على الجبهة العراقية ما زالت هادئة سينمائياً. وفي حين أن عدد الكتب التي صدرت حولها خلال العامين الماضيين، أي منذ غزو العراق الذي أدّى سريعاً الى سقوط نظام تمتع بمواصفات فاشية وديكتاتورية نموذجية، وصل الى 300 كتاب، لن تجد الا عدداً محدوداً من الأفلام التسجيلية التي تطرّقت إليها، وغالباً ما صُوّرت بعيداً منها مستعينة فقط بمناظر إخبارية لها، كما هي الحال مع"فهرنهايت 11/9"لمايكل مور أو عمدت الى مقابلات تتحدث عنها كما في"الحرب بحسب بوش"لويليام كارل. وحالياً في العروض في الصالات المختارة فيلم وثائقي جديد تم تصويره داخل العراق وخلال الأشهر الأربعة الأولى من غزوه، عنوانه"قصر جنود المدفعية"هو الأخير في سلسلة ما تم إطلاقه تسجيلياً ليدور عن الحرب او يعلّق عليها من موقفي المؤيد او المعارض لها. "قصر غونر"فيلم تسجيلي جديد لبترا إيبرلين ومايكل تاكر. والكلمة Gunner مسحوبة من كلمة Gun مدفع. أما القصر فهو المركز الذي اتخذه جنود فرقة المشاة 2/3 مكاناً لهم وكان من أملاك عدي حسين الى حين هرب ثم قُتل بعد أشهر قليلة من حرب التحرير الأميركية. تم تصوير الفيلم بعد أربعة أشهر من بدء الحرب وانتهى التصوير بعد أربعة أسابيع حيث انسحب المخرجان من أرض المعركة حينما أعلن رسمياً عن انتهاء الحرب، وليس عن انتهاء القتال. ما يتعامل معه الفيلم هو حياة الجنود الأميركيين في تلك الفترة. ومع أنه يؤكد دكانة تلك الحياة وإحباطاتها وضعف القناعات فيها، الا أنه من الشطح بمكان بعيد اعتباره عملاً يقصد به إظهار ذلك البؤس من باب ذرف العاطفة تجاه الأميركيين. إنه عن الحرب من موقع متسائل والتساؤل قد لا يكون مواجهة، لكنه لا يخلو منها. وهو أيضاً عن الجهل بالآخر وعدم القدرة على التواصل معه. الى جانب أن الجنود الأميركيين آتون من بيئات تندرج من الفقر الى الطبقة الوسطى ويحملون فراغا في الأدمغة في ما يتعلّق بكل ما هو"غريب". هناك حقيقة أن أحداً، خصوصاً في تلك الحقبة الأولى، لم يكن قادراً على فهم كيف أن شعباً عاش في الحرب طويلاً يمكنه أن يكون سعيداً بزوال الحكم الطاغي ومعادياً للأميركيين في الوقت ذاته. المشهد الدال على كل ذلك هو عندما تفجّر إحدى الجماعات سيارة ملغومة في حي شيعي. ينطلق الأميركيون لمساعدة الجرحى ومواساة الأهالي فإذا بهم يواجهون بالحجارة. كيف سيفهم الأميركي هذا المنطق؟ يتساءل الفيلم، لكن التساؤل لا يحمل إجابة محددة نظراً لأن الفيلم يجد أن من المبكر فهم الذي يحدث تبعاً لموقف واحد مهما بدا صحيحاً ولو لطرف واحد من الأطراف المحيطة به. "صلاح الدين الجديد" على أن السينما الروائية المتعاملة مباشرة مع تلك الحرب ومسبباتها ونتائجها لا تزال بعيدة. ليس أن هوليوود تعيش على سطح كوكب آخر، لكنها لا تعرف، في وضع ينقسم الأميركيون حول هذه الحرب اليوم كما فعلوا منذ اندلاعها، كيف تتعامل وإياها على نحو رصين. هي غالباً بانتظار مخرج من وزن كوبولا او كوبريك يقدم على تحويل رواية من وزن"قلب الظلام"لجوزف كونراد او"دروب المجد"لهمفري كوب. على ذلك، ومع ندرة أن تجد فيلماً روائياً عن الحرب العراقية، الا أنه ومنذ 11/9 وتلك الحرب مترجمة على صعد متعددة وعلى جبهات كثيرة. هناك أفلام تسجيلية وسياسية عن الحرب العراقية، وعن الحرب في الصومال وأفلام عن الحرب في البوسنة وأخرى تتعامل مع المذابح التي وقعت في رواندا. هناك أفلام ضد الإرهاب وأخرى ضد السياسة المعادية للإرهاب. هناك أفلام تسجيلية عن فلسطين والصراع الأبدي، وأخرى عن وسائل الإعلام الأميركية والعربية وكيف تصرّفت كل منها حيال الحروب والسياسة الأميركية الخارجية. وإذا لم يكن هذا كله كافياً، هناك الأفلام التي تعود الى التاريخ وتستمد منه خطوطاً تمتد تلقائياً، او بقدر من الغصب، الى الوعي الحاضر. أوليفر ستون قرر وهو يصوّر"الإسكندر"أن فيلمه يحاكي الزمن الراهن. وعبثاً يحاول المرء أن يشق طريقه وسط الأغلفة السميكة التي تحيط باحتمال وجود هذه الرسالة، فيجد أن الرابط المحتمل الوحيد هو أن الإسكندر كان أول قائد سعى لتوحيد العالم عسكرياً. ستون لا يقولها صراحة في الفيلم، لكن جورج وبوش ومسعاه، بحسب الفيلم، ليس مختلفاً عن الإسكندر وغاياته. حتى وإن لم يكن هناك رابط قوي بين فيلم تاريخي من وزن الأفلام الثلاثة التي خرجت في العامين الماضيين حول حروب السيف والدرع والصناديل، باتت مشاهدة مثل هذه الأفلام تأخذ منحى ممعناً: ... أحياتنا كلها منذ بدء الخليقة على هذا الكوكب هي قتل وتدمير؟"الملك آرثر"، لأنطوان فوكوا أقل هذه الأفلام إمعاناً في الربط مع الحاضر، لكن"طروادة"لوولفغانغ بيترسون فيه ما يكفي للنظر الى كيف أن التاريخ والجغرافيا شكّلا المعين الأساس لقتال الشعوب، بل للنزاعات المسلحة ضمن الشعب الواحد. وقريباً، حينما يحط"مملكة الجنة"لريدلي سكوت الذي كان صنع فيلماً عن الموقعة الدامية التي دارت بين الثوار الصوماليين والجنود الأميركيين في"بلاك هوك داون" سنجد أكثر من طرح ملاصق لزمننا المعاصر. يكفي انه عن الحملة الصليبية على فلسطين والبلاد العربية ما يكفل ربطاً بين حروب الأمس وحروب اليوم ومبرراتها وعالمين يرفض كل منهما الرضوخ الى الآخر. المناظر الدعائية بوشر بعرضها على الشاشات كاشفة عن فيلم تاريخي كبير جداً لصاحب"غلادياتور"، الفيلم الذي فتح الباب أمام عودة أفلام السيوف المتقارعة."مملكة الجنة"هو عن الحملة الصليبية والاقتتال الطويل بين جيوش الحملة وجيوش الدفاع عن بيت المقدس والعالم العربي والدينين الإسلامي والمسيحي ضد طرف اعتبرهما معاً في خندق معاد واحد. صلاح الدين الأيوبي موجود في الفيلم يؤديه الممثل السوري غسّان مسعود لكن بحسب المناظر، فإن الدور صغير، فالقيادة في الفيلم من نصيب الصليبي الذي يحوي في معسكره معارضين ومؤيدين، كما للمشاهد الكبيرة حينما تتلاحم الجيوش في قتال قادر على أن يجلب للبال أي حرب لاحقة خاضها العالم الى اليوم. ما هو متوقع من فيلم ريدلي سكوت أن يتحدث عن معسكر الغزاة وليس معسكر المدافعين مع احتمال محاولة إظهار موقف إيجابي ما حيال مناهضة العرب للغزو. هذا ليس عائداً، بالضرورة، الى فهم أفضل لأبناء هذه الأمة بل يبدو أقرب لأن يكون الحل المنطقي الوحيد في غمار المواقف المتعددة حالياً تجاه الحرب ضد الإرهاب وضد العمليات المناوئة للقوات الأميركية في العراق وتبعاً للتجاذب العربي - الغربي في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. المخرج المغربي محمد عسلي يؤكد أن البنتاغون وراء إنتاج أفلام ريدلي سكوت الأخيرة كونه حقق فيلمه السابق،"بلاك هوك داون"عن الحرب التي دارت في الصومال حينما هب الجنود الأميركيون لمحاولة إنقاذ أميركيين وموظفين تابعين للأمم المتحدة وقعوا فيكمائن لقوّات"إسلامية"ثائرة. ويجد مخرج"فوق الدار البيضاء، الملائكة لا تحلّق"في عودة سكوت الى الموضوع العربي وهو صوّر فيلمه"مملكة الجنة"في المغرب دلالة الى أنه مدفوع بخطة، أو أجندة، أبعد من مجرد تحقيق أفلام تاريخية. "حرب العوالم"، لم يكن أفضل فيلم يرمز لهذا الصراع، بل أحدها. الترميز الأفضل سيبقى دائماً من نصيب فيلم دون سيغال"غزو ناهشي الجسد"1956. ذلك الفيلم، الذي أعيد تحقيقه مرتين واحدة حيادية سنة 1978 لفيليب كوفمان وأخرى ليبرالية لآبل فيريرا سنة 1997 وهناك نسخة رابعة قريبة مجدولة للعرض في العام المقبل يبقى أفضل فيلم بروباغندا ضد الخطر الشيوعي غير المسمّى تم إنجازه الى اليوم. به خاض سيغال ومن خلفه هوليوود الخارجة من محاكمات المكارثية لتوّها حربهما ضد المعسكر الآخر في ظل سنوات الحرب الباردة بين المعسكرين. السؤال إذا كان سبيلبرغ سيجد الرمز الشيوعي غير مجد اليوم، وإذا كان سيستبدله برمز عربي، او لعله يبقيه رمزاً مفتوحاً او يلغي الرمزية إلغاء مطلقاً. هذا السؤال لا جواب عنه الآن.