لمن شبع من الصورة السلبية التي رسمتها السينما الغربية لنا، لديه الآن عدد ولو محدود من الأفلام التي تنظر الينا من وجهة مختلفة. في "جريمة كاملة" لأندرو دايفيز وجدنا التحري النيويوركي الرسمي عربياً قام به ديفيد سوشيت وفي "مساحة مكتب" بدا الموظف الوحيد ذا العقل الراجح عربياً قام به آجاي نايدو وعرب "الحصار" كانوا لبنانيين - اميركيين أبرياء حكم عليهم بجريرة مجموعة ارهابية انما ذات قضية موجودة على الشاشة. ثم جاء "المحارب الثالث عشر" كما لو ان هوليوود وديزني بالتحديد تقول لنا: ماذا تريدون أكثر من ذلك، إننا نحتفي ببطل من عندكم علّم الغرب حضاراته. رغم كل ذلك، فإن "الملوك الثلاثة" فيلم يتجاوز كل ما سبق وعلى نحو غير متوقع. حين تشاهده في صالتك القريبة لن تعرف ماذا ستتوقع. فالحرب الخليجية موجودة لكن معالجتها ليست حربية. كوميديا، لكنها في ذات الوقت موجعة اللكمات، وفيلم سوريالي على أكثر من مستوى، لكنه ايضاً واقعي. جمال عمل ديفيد أو راسل هذا هو ان هذا الطرح غير القابل للمزج بسهولة، يصل الى مستوى فني وتقني مبهر في معظم الأحيان وبديع الصياغة أيضاً. يتداخل في بعضه جيداً وينجلي عن فيلم حربي إذا شئت من تلك التي تترك بصماتها على النوع، انه ينضم في ذلك الى بضعة أفلام بلغت هذا الشأن من بينها "سفر الرؤيا... الآن" لفرنسيس كوبولا و"بلاتون" لأوليفر ستون و"سترة معدنية واقية" لستانلي كوبريك، هذا من دون ان يكون أو راسل واحداً من هؤلاء الكبار. الى خمس سنوات مضت، عندما قدم أو راسل فيلمه الأول، لم يكن أحد سمع به حتى في هوليوود. ذلك الفيلم الأول بعنوان "لطم السعدان" لم يترك أثراً تجارياً يذكر، لكنه لفت اهتمام شركة ميراماكس فأسندت اليه اخراج "على حافة الكارثة". وهذا لم يترك أثراً يذكر في صالات السينما لكنه فتح العين عليه، وحين كتب سيناريو "الملوك الثلاثة" عن قصة لجون ريدلي تم تغيير معالمها كثيراً سارعت وورنر لقراءة جهده وعرضت موافقتها على تمويل الفيلم. هذا قبل ان تتردد مجدداً خصوصاً وانها كانت تريد ميل غيبسون للدور الرئيسي وليس كلوني ثم حُسم الأمر لصالح الفيلم بعد إيعاز من رئاسة الشركة. طقوس وجدانية بعد تسع سنوات على نشوب حرب الخليج، هذا ليس سوى الفيلم الجاد الثاني الذي يتعامل معها. والفيلم الأول "شجاعة تحت النار" لإد زويك - مخرج "الحصار" لم يتعامل معها كميدان عملياتي بل بحث في حادثة تخص الاميركيين من دون طروحات سياسية مطلقة، ما يجعلها مجرد إطار خلفي لأحداث يتم معظمها فوق الأراضي الاميركية. هذا الفيلم يختلف. وفي سرعة تتبدى الينا صعوبة هذا الاختلاف: ليس من الهين تحقيق فيلم حربي حول حرب خاضتها اميركا بالساتالايت والتقنيات وال"سي.ان.ان". على عكس الحروب السابقة وبالتالي الأفلام الكثيرة التي صنعت عنها، الجهد البشري في هذه الحرب، على مستوى العمل الميداني الاميركي على الأقل، مبهم. كذلك، فإن تحقيق فيلم من هذا النوع فوق الرمال الساخنة مسألة صعبة. الأصعب منه الخروج بمادة موحية تتعاطى وأبعاد متعددة كما فعل "سفر الرؤيا... الآن" في أدغال فييتنام. طبعاً في حين تؤدي الغابات دور الديكور الأول لونا وطقوساً وأجواء داكنة ثم تشتعل محترقة هنا، أو ترتفع على أوتادها رؤوس الضحايا هناك، فإنها تلتصق بمضمون وجداني قلق ومهيمن. هنا الصحراء مختلفة، الفضاء فيها كبير ومن الصعب تأليف عمل سينمائي فيها لا يجد نفسه مقيداً بشروطها الطبيعية تلك. لكن أو راسل وجد السبيل. فجأة لا شيء يمنع دون اسحواذ أقصى طاقة كوميدية سوداء ممكنة، ولا شيء يحد من سوريالية الحدث الدائر. مع عدم وجود سجال حقيقي وكبير على الأرض واتكال الحرب كلها على العمليات التقنية المتقدمة التي مكنت الطائرات، من حسم المعركة لوحدها، فإن الحدود تبدو ضيقة أمام أي فيلم يريد سبر غور ما جرى على الأرض. مفاجأة "ثلاثة ملوك" انه يكتشف طريقاً يتخلص فيه من كل هذه العقبات. في مطلع الفيلم مشاهد تشير الى كل ذلك. لا شيء أمام الجندي الاميركي يفعله مباشرة بعد ان تم تحرير أرض الكويت سوى التساؤل عن أين هي الحرب؟ ليس هناك أي شعور بالمجابهة الحقيقية. التقنيات استلمت زمام الأمور والجنود أخذوا الموقع الخلفي. ها هم المتطوعون من أفراد الجيش الاميركي بعد اعلان وقف اطلاق النار، يلقون القبض على فلول جنود عراقيين ثم يفتشونهم ويخرجون من "قفا" أحدهم ورقة حاول اخفاءها. الورقة فيها خريطة غير واضحة. تروي مارك وولبرغ وايلغين آيس كيوب وكونراد سبايك جونز يحاولون اخفاء أمر الخريطة، لكن الكولونيل آرشي جورج كلوني يكتشف أمرها ويفهم سرها: إنها المخابئ التي أودع فيها جنود صدام حسين الذهب الكويتي المسروق. هنا ينتقل "الملوك الثلاثة" الى المستوى الثاني من القراءة: ليس فقط ان الحرب لم تعرف جهداً بشرياً تقليدياً يكرس مفهوم القتال في بال من خاضها، بل ان هؤلاء المتطوعين الأربعة الذين وفدوا من أشغال ومهن صغيرة سيعودون اليها بعد انتهاء فترات وجودهم الا إذا... وهذا ما يقوله الكولونيل آرشي، اكتشفوا الذهب وسرقوه لحسابهم. جنون الحرب هذه بداية المغامرة التي يشترك فيها الجنود الأربعة فيتجهون الى تلك المخابئ في بعض عمق الجبهة العراقية حيث يجدون جيشاً مشتتاً وقوى معادية للنظام تعتقد أنهم بادرة ما وعدهم به البيت الأبيض من مساعدة اذا ما قاموا بالنهوض في وجه صدام حسين. لكن غاية الجنود الأربعة ليست في وارد توزيع الأسلحة أو الأطعمة أو انقاذ المواطنين من اعتداءات الجنود العراقيين. وهؤلاء الجنود يتركون للاميركيين حرية التقدم للبحث في تلك المخابئ على أساس ان الحرب انتهت والخطوط رسمت والتعاون قد يكون متبادلاً: خذ الذهب اذا شئت لكن لا تتدخل في تصدينا للشعب وقتل عناصره المشاغبة. في البداية يعمل الرفاق تبعاً لهذا الاتفاق غير المعلن، لكن أحاسيسهم بغبن وجور ما يقع يدفعهم للتدخل لصالح العراقيين العزل. ويتلاحم المصير اكثر عندما يتعرض هذان الطرفان معاً الى نيران القوات العراقية ويتبعثر الذهب فوق رمال الصحراء. الاتفاق الثاني يتم بين هؤلاء الجنود والمقاومة على أساس من تبادل المساعدة. وهذا ما يضخ المزيد من الوعي السياسي في الجنود الاميركيين الأربعة الذين يخوضون حرباً على حسابهم ضد القوات العراقية يضمحل خلالها بريق الذهب من أحلامهم وقد تجلت عن وقائع محزنة وحالات انسانية لا يمكن صدّ صورها وتأثيراتها، الى ان يصبح أمر إيصال المقاومة العراقية شبه معزولة السلاح الى مأمن بعيد عن سيطرة القوات العراقية المهمة الحقيقية لهؤلاء الجنود... أو من يبقى حياً منهم. صور أو راسل مذهلة في وقعها. هذا مخرج لا يخاف من التجريب فإذا بمشهد حربي يبدو انه سيقوم على صور معتادة يخترق بلقطات سوريالية غريبة تجعله اكثر عنفاً واكثر دلالة مما كان سينتهي اليه. وأو راسل لا يعمد الى تلوين المواقف فجأة، لكنه ايضاً لا يكترث لتقديم حالات عاطفية تدعو الى ذلك: هؤلاء الجنود، اليوم، لديهم اختبارات قليلة والتفكير بالحصول على الذهب الذي وجه الفيلم الى نوع من المغامرة العابثة، يتدرج الى حالة من المجابهات بين الجندي ونفسه، وبين الجندي الأميركي وعدوه العراقي ثم بينه وبين قيادته. ومع ان الجنود العراقيين هم "العدو" إلا أنهم ليسوا هنا ليمثلوا أدوارهم ببشاعة. هناك دائماً منطق مضاد في ذات حجم المنطق الذي تنطلق منه وجهات نظر أبطال الفيلم. آيس كيوب وهو ممثل ومغني أفرو - اميركي جيد، يقوم ويصلي مع أبناء الشعب العراقي المغلوب على أمره. مارك وولبرغ يلقى القبض عليه ويعذب... هذا من بعد ان يجد غرفة مليئة بالهواتف النقالة المسروقة... كثير منها لا يزال يعمل حتى انه يتحدث مع زوجته في الوسط الاميركي. سبايك جونز ينتقل من اللافهم الى الفهم الانساني الشامل وجورج كلوني يدير العملية كلها مكتشفاً فيما اكتشف مستودعاً لسيارات المرسيدس الحديثة والليموزين الاميركية. وياله من مشهد عندما يخترق سهوب الصحراء ذلك الموكب من السيارات الحديثة المنطلقة لتحرير الجندي الاميركي المعتقل وحمل الجميع الى السلامة فيما بعد. جنون الحرب عند ديفيد أو راسل تتشابه وجنونها في فيلم مارون بغدادي "حروب صغيرة" مع اختلاف المحيط جغرافياً. لكن الشخصيات تعايش الأوضاع المجنونة ذاتها. الفيلم يتحدث بلغة اللامعقول الذي لا يمكن فهمه حتى مع معايشته أو بعد تلك المعايشة. الى ذلك، فيلم أو راسل، مذهل في مشاهد الحركة والتشويق من دون ان يتحول الى فيلم مصنوع لهذه الغاية. بل دوماً ما يبدو كاشفاً لتعقيدات الحياة السياسية وتأثيرها السلبي على حياة الانسان العادي. انه ينطق اطناناً من الطروحات حول عصر تمتزج فيه الاخلاقيات وتتدافع خلاله الأولويات الى الوراء لتحل محلها مسائل غير محسومة وأحياناً غير مفهومة. في خلاصته، نقدي مباشر للسياسة الاميركية غير الفاصلة، وتعاطف، بالصورة وبالعمق الثقافي احياناً، مع العربي المغلوب على أمره بين جور الطغيان ووعود البيت الأبيض.