حتى انتهاء حرب فيتنام، والى حد ما تحت وطأة ضغط الشارع الأميركي بين أمور أخرى أدت في نهاية الأمر الى تأكيد الأميركيين من أنه لن يمكنهم أن يديموا تلك الحرب الى الأبد. لم تكن السينما الأميركية مهتمة حقاً بتلك الحرب، من موقع الاحتجاج عليها، على الأقل. كانت هناك شرائط كثيرة معارضة ومحتجة للحرب، لكنها كانت لا تزال ضمن نطاق السينما النضالية الخالصة، وهي في نهاية الأمر، سينما نخبوية لا تصل عادة إلا للمقتنعين سلفاً. ولا تعبئ ضد التدخل الأميركي في فيتنام، إلا المعبئين ضده مسبقاً. وفي المقابل كانت هناك أفلام شعبية تجارية تقف الى جانب أميركا في فيتنام وتلقى إقبالاً. أما حين كان مخرج أكثر جدية يقترب من الموضوع، كما فعل إيليا كازان في "الزائران" فإنه كان يقترب موارباً ملتفاً يكاد لا يفصح عن رأي واضح. وهكذا بين "القبعات الخضر" الرجعي الساذج، وفيلم كازان والشرائط النضالية، لم يثبت للقضية الفيتنامية وجود حقيقي في السينما الأميركية. ولكن ما أن انقضت السنوات الأولى على الإحساس المر بالهزيمة الأميركية في فيتنام، وما ان تضافرت هذه مع فضيحة ووترغيت، حتى أفلتت السينما الأميركية من عقالها وراحت الأفلام تتتالى عن فيتنام قاسية واضحة وعنيفة في إدانتها للحرب. وضمن هذا الإطار كان فيلم "يوم الحشر... الآن" لفرانسيس فورد كوبولا، الذي يعتبر اليوم واحداً من أهم الأفلام في تاريخ السينما، وربما "فيلم حرب فيتنام الأميركية" بامتياز. ومع هذا فإن هذا الفيلم الذي حقق عند آخر سبعينات القرن الفائت، لم يكن فيلماً عن فيتنام تماماً. أكثر منه "فيتنامية" كانت أفلام مثل "صائد الغزلان" و"بلاتون" و"وصية الفريز" وغيرها وصولاً الى "سترة معدنية" لستانلي كوبريك. بل ان "سائق التاكسي" لسكورسيزي يمكن اعتباره أكثر ارتباطاً بحرب فيتنام من "الحشر... الآن". ومع هذا لن تذكر حرب فيتنام في المستقبل، إلا ويذكر هذا الفيلم معها. من ناحية بسبب المشاهد العنيفة التي صورها لتلك الحرب، وثانياً لأنه قال لنا بكل وضوح جنون كل الحروب من خلال تلك الحرب التي كانت الأكثر جنوناً من بين كل الحروب. ولكي يقول كوبولا هذا، لم يستند كما فعل الآخرون الى نص كتبه مشارك في الحرب، أو الى شهادة صحافي، أو الى تاريخ رسمي أو غير رسمي لما حدث في فيتنام، بل استعان برواية كانت صدرت قبل عشرات السنين للكاتب الانكليزي، من أصل بولندي، جوزف كونراد وهي "في قلب الظلمات". وإذا كنا نعرف أن أحداث "في قلب الظلمات" تدور في الكونغو وسط أفريقيا خلال القرن التاسع عشر، فإن كوبولا، وانطلاقاً أصلاً من سيناريو وضعه جون ميليوس، وعُدِّل كثيراً لاحقاً، نقل الأحداث الى فيتنام مبقياً على الشخصيتين المحوريتين لأنهما كانتا، في رأيه، قادرتين على التعبير عن الحدث: شخصية ويلارد الجندي البحار المكلف بمهمة شديدة السرية، والجندي السابق كورتز، الذي هو محور تلك المهمة. فالواقع ان كورتز كان انشق عن الجيش الغازي لفيتنام خلال الحرب، وأقام لنفسه مركزاً بعيداً وسط الأدغال، جمع فيه من حوله طائفة من جنود يدينون له بالولاء ويحمونه، فيما هو يعيش كإله إغريقي وسط محميته تلك، مزعجاً السلطات بين الحين والآخر. والسلطات الحربية الأميركية تريد هنا الوصول الى كورتز. وتلك هي المهمة المناطة بويلارد، الذي يرسل على زورق حربي برفقة أربعة جنود، ليصعد النهر وسط المعارك وضروب القتل والدمار حتى يصل إليه. وويلارد طوال رحلته لا يعرف عن كورتز سوى صوته الذي وصل اليه عبر شريط مسجل لا يكف عن الاستماع الى هذيانه طوال الرحلة وهو يقرأ ملفات متعلقة به. ويمكننا أن نتصور هنا مدى اللقاءات التي تجابه ويلارد خلال رحلته، ومدى المعارك التي يشارك فيها أو يعبرها، ومدى العنف الذي يعترض طريقه، وكم الجثث والدماء. خلال الرحلة إذاً، يصور كوبولا حرب فيتنام كلها، من غارات المروحيات على أنغام موسيقى فاغنر الى استعراضات الحسناوات المرفهات عن الجنود، ومن المذابح الى الدروب المسدودة، ومن المدنيين المقتولين من دون هوادة الى الجنود المتعاملين مع السكان تعاملهم، في ظروف أخرى، مع الحيوانات... وكل هذا يُستعرض أمام أعيننا حتى لحظة الوصول الى كورتز، الذي يشكل اللقاء معه القسم الأخير والأهم من الفيلم، ذلك ان المستوطنة التي يتزعمها كورتز ويعيش فيها، تبدو أشبه بجحيم حقيقي. أما كورتز فإنه يتبدى غير ما كنا نعتقد: ان جنونه المعلن يخبئ احساساً بضرورة الخلاص عبر نهاية يمكنه من بلوغها قاتل له... وسينتهي الأمر بويلارد بقتل كورتز ولكن لكي يحل محله... ذلك ان الاقتراب من جحيم كورتز هو غوص في جحيم الجنون نفسه. عبر هذه الحكاية، إذاً، وقد نقلت من مكان الى مكان، قدم لنا فرانسيس فورد كوبولا رؤيته الخاصة لحرب فيتنام. بل بالأحرى: للحرب في شكل عام، كمكان لجنون الإنسان وانتزاع انسانيته منه... ذلك ان ما عاشه كورتز خلال الحرب، كان هو ما قاده الى تلك الوضعية التي اكتشفه ويلارد عليها. ولأن ويلارد عاش الحرب بدوره، حتى وإن لم يكن بالكثافة التي عاشها فيها كورتز، فإنه سينتهي هو الآخر الى الجنون. وهنا إدانة الحرب في شكل عام، لا إدانة حرب فيتنام وحدها. "الحشر... الآن" لن يكون الفيلم الوحيد الذي حققه فرانسيس فورد كوبولا عن حرب فيتنام، أو نراه يعود إليها في فيلم نال أكثر قسوة عنوانه "حديقة الحجارة". وفرانسيس فورد كوبولا، الذي يعتبر اليوم بفضل "يوم الحشر... الآن" كما بفضل "ثلاثية العراب" واحداً من أكبر السينمائيين. ولد فرنسيس فورد كوبولا العام 1939 في مدينة ديترويت لوالدين من المهاجرين الإيطاليين، وبدأ حياته طالباً في الكلية الحربية، ثم انتقل لدراسة المسرح ثم السينما وعمل في التلفزة وفي بعض الأفلام الخفيفة، قبل أن يحقق في بداية الستينات فيلمين قصيرين يطلقانه، ويمكنانه من الانتقال الى السينما الروائية الطويلة مع "أنت صبي كبير الآن" 1966 الذي كان فاتحة مسار سينمائي لا يزال متواصلاً حتى اليوم، ومن علاماته، الى ما ذكرنا "المحادثة" و"نادي القطن" و"شعب المطر" و"واحد من القلب". واعتبر كوبولا دائماً زعيم تيار تجديدي في هوليوود يضمه الى سكورسيزي وسبيلبرغ ولوكاس... وكان يجمعهم وآخرين رفضهم للقيم الأميركية قبل أن يعودوا جميعاً وليصبحوا جزءاً منها.