ليس من قبيل الهاجس المرضي او المبالغة غير المحسوبة ما تقوم به سلطات المياه في اسرائيل تجاه الموارد المائية فيها والمعرضة دائماً الى تقلبات السياسة والمناخ وشح المطر وانحباسه، او قساوة حرارة الصيف وتبخر المياه والزيادة في استعمالاتها، خصوصاً ان الزيادة السكانية لا تقوم على ما هو طبيعي في الزيادات، بل على طفرات تتجاوز ما هو طبيعي في احيان كثيرة من قبل المهاجرين الجدد، كما ان الخزان الرئيس للمياه في اسرائيل, بحيرة طبريا, وكما هو معروف ما هو إلا مسطحا مائيا مكشوفا ومعرّضا دائماً للتقلبات المناخية السائدة في المنطقة، كما ان حوالى 67 في المئة من المياه المستهلكة في الدولة العبرية تأتيها جوفياً وسطحياً من خارج حدودها. لذا فإن ذلك دفعه اسرائيل ويدفعها الى شن حروب احياناً للمحافظة على النسبة التي استحوذت عليها من المياه, خصوصاً الأنهار ذات المنابع والجريان في بلران عربية محاذية، كلبنان وسورية والأردن. وما حرب الخامس من حزيران يونيو عام 1967 التي استتبعت بدء تنفيذ خطة بناء سدود وتحويلات على انهار اليرموك والحاصباني والوزاني وغيرها إثر موافقة مؤتمر القمة العربي الأول عام 1964 على خطط لإنشاء هيئة عربية متخصصة تتولى رسم وتنفيذ مشاريع مائية في الأقطار العربية المحاذية لإسرائيل، ما هي إلا نوعا من الحرب الاستباقية الهادفة الى الاستحواذ على المياه، وإن حملت عناوين اخرى. ما تم الإعلان عنه اخيراً في اجهزة الإعلام هو من قبيل الهاجس المائي الدائم الذي يحاول ألا يترك هذا المورد الاستراتيجي بيد الصدف، او بيد عدم التحسب والحسبة العلميتين. اذ جاء في اجهزة الإعلام"ان فريقاً اسرائيلياً متخصصاً بموضوع المياه تفقد صباح 25 كانون الثاني يناير الماضي مجرى الوزاني جنوب جسر الغجر ? وهي قرية سورية محتلة تقع بالقرب من نبع الوزاني ? وقام بقياس منسوب المياه في نقطة دخولها الأراضي الفلسطينيةالمحتلة، وسط حراسة امنية مشددة نفذتها دورية عسكرية واكبت نشاط الفريق المؤلف من اربعة خبراء". هذا الاجراء نوع من الفحص الدوري المعتاد وفي اوقات متفرقة لمنسوب مياه هذا النهر ولغيره من انهار وينابيع تنبع من الأراضي العربية وتجري فيها، ثم تدخل اراضي فلسطينالمحتلة، تماماً كالوزاني والحاصباني وبانياس واليرموك وغيرها, كون هذا الأمر تكرر مرات اثناء احتلال اسرائيل للجنوباللبناني وبعد تحريره. وأغلب مهمات الفحص والقياس كانت تتم في تشرين الأول اكتوبر من كل عام. إلا ان ما حدث عام 1991 كان لافتاً. اذ جاء في مصادر متخصصة ان منسوب المياه في بحيرة طبريا انخفض الى مستوى متدن عام 1990، بسبب عوامل عدة, ووصل الى 213 متراً تحت سطح البحر، مما اضطر سلطات المياه الاسرائيلية الى وقف الضخ من البحيرة لفترة زمنية قاربت الشهر. ولأن صيف عام 1991 كان قاسياً وسبقه موسم شتوي شحيح في امطاره، لم تركن سلطات المياه في اسرائيل الى هذه الأسباب الطبيعية، ولم تقف مكتوفة الحيلة والأيدي والتسليم بالأمر الواقع, بل اخذت تحلل وتبحث عن اسباب اخرى غير طبيعية علها تكون تساعد في تفسير ظاهرة شح المياه في المجاري المائية وفي البحيرة ذاتها. لذا بادرت الى اتخاذ اجراءات عدة ومتنوعة تتعلق بوقف برنامج التغذية والاستعمالات المائية المعتادة، وطبقت خطة طوارئ قاسية التنفيذ والمحاسبة والمراقبة. وبادرت بفحص وقياس منسوب المياه في المجاري المائية كلها، واستطلاع اية عوامل اخرى في البلدان المحيطة، كبناء سدود صغيرة او إنشاء تحويلات او برك وخزانات او غيرها يمكن ان تكون قد أثّرت في تدفق المياه الى بحيرة طبريا. التهديد بالحرب وكمثال تطبيقي على ما ذكرناه من إجراءات اسرائيلية، فإن المصادر المتخصصة افادت بأن فريقا من خبراء المياه الإسرائيليين وصلوا الى الجنوباللبناني المحتل في تشرين الأول اكتوبر من عام 1991 وباشرت القياس والفحص في اماكن عدة ومتفرقة من المجاري المائية التي تعتبر روافد مهمة لما يسمى بنهر الأردن الأعلى ? يتمثل نهر الأردن الأسفل بنهر اليرموك وروافده التي تصب في البحر الميت ? والتي تصب في بحيرة طبريا بعد ان تلتقي ببعضها في الأراضي الفلسطينيةالمحتلة الحاصباني، الوزاني، بانياس، البريغيث او نهر مرجعيون وغيرها. وبعد اجراء اجراء القياسات وفحص مجاري تلك الأنهار، لم تجد البعثة ما هو غير عادي ولم تصادف اي منشأة جديدة تتعلق بالمياه. كون المنطقة محتلة من قبل قوات الجيش الإسرائيلي والمتعاونين معه من اللبنانيين. فهل يُعقل ان يغامر احد، حتى ولو كان من السلطات اللبنانية الرسمية والشرعية الى التفكير ? مجرد التفكير ? بإقامة منشآت مائية جديدة في ظل احتلال اسرائيلي قائم ؟ وتنبغي هنا الاشارة الى الضجة والحشود العسكرية والتهديد بشن حرب على لبنان من قبل اعلى السلطات الرسمية الإسرائيلية، ثم بعثات الخبراء المائيين والسياسيين الذين تدفقوا الى الجنوباللبناني من قبل الأممالمتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عندما بادر لبنان عام 2001 بتركيب مضخات للمياه من نبع الوزاني الى قريتي الوزاني والميسات الواقعتين على اكتاف النبع وبالقرب منه، في حين ان النهر ينبع ويجري في الأراضي اللبنانية، ثم يدخل الى الأراضي الفلسطينيةالمحتلة ويلتقي مع نهر الحاصباني وغيره ليصب في بحيرة طبريا، مما يُرتب للبنان حقوقاً غالبة من كمية المياه تصل الى الثلثين تقريباً بحسب قوانين المياه الدولية. وتقدر بعض الجهات المختصة تدفق مياه نهر الوزاني سنوياً اذا ما كان الموسم الشتوي في احسن حالاته بنحو 60 مليون متر مكعب. فهل تستحق هذه الكمية كل العجيج والضجيج الذي حصل؟ ام ان الأمر ما هو إلا من نوع تثبيت مضخات وبناء خزانات واستعمال انابيب مياه ناقلة لمياه الشفة الى بعض قرى الجنوباللبناني التي كانت محتلة منذ عام 1978 وحتى عام التحرير في 2000. بعد ان سيطرت القوات الإسرائيلية سيطرة تامة على مصادر المياه في المنطقة، ومنعت اي محاولة لإقامة أي مشروع مائي طوال فترة وجودها الاحتلالي. المهم ان لبنان اعلن انه بصدد ارواء حوالى 60 قرية من قرى الجنوباللبناني بعد جر المياه إليها من نبع الوزاني. فثارت ثائرة اسرائيل ثانية، وتوالى الوعيد والتهديد للبنان. وتدخلت وساطات كي يتم الأمر من خلال مفاوضات يُتفق من خلالها على تقاسم الحصص بين الطرفين. إلا ان الجانب اللبناني رفض ذلك، كون هذا الأمر يمكن ان يجر الى مفاوضات اخرى ليس هو بصدد إجرائها حالياً. كما ان بعض الوساطات اقترحت تأجيل تنفيذ المشروع اللبناني الى ظروف اخرى اكثر مناسبة ? قد تكون تسوية سلمية شاملة في المنطقة. غير ان لبنان مضى في تصميمه على تنفيذ مشروعه، وتوالى الحفر وإحضار الأنابيب وبناء الخزانات والتحويلات، ليتمخض الأمر بعد انتهاء الاحتفال الرسمي إثر تدشين المشروع الى ان المياه لم تصل إلا الى ثلث القرى التي أُعلن ان المياه ستجر إليها تقريباً، وأن جل ما تم استغلاله من مياه النبع لم يتجاوز عشرة ملايين متر مكعب، مع ان حق لبنان يصل الى اربعة اضعاف ذلك، ويمكن الاجتهاد في تفسير هذا الأمر، الى: اما ان موازنة الصرف على تنفيذ المشروع كانت محدودة وقليلة, وإما ان لبنان سعى من خلال التنفيذ الجزئي لبعض المشاريع المائية الى تثبيت مبدأ استفادته من حقه الكامل في المياه, وإما انه تأجل تنفيذ بقية المشروع الى ظروف مواتية افضل في المستقبل.