نشرت الصحف اللبنانية في 28/9/2009 الخبر الآتي: عبر وزارة الموارد المائية والكهربائية، تطرح الدولة اللبنانية للتلزيم، مشروع إقامة سد لتجميع مياه نهر الحاصباني والفروع والجداول التي تصب فيه، عند نقطة تسمى «عريض المطيلب» غربي بلدة الفريديس بين حاصبيا وإبل السقي في منطقة العرقوب. والمعروف أن نهر الحاصباني – اشتق اسمه من بلدة حاصبيا – ينبع من المنحدرات الشمالية الغربية لجبل الشيخ – بيت ماء المنطقة – عند ارتفاع 900 متر فوق سطح البحر، وهو يعتبر المنبع الأساس لنهر الأردن الأعلى. يسير نحو 25 كيلومتراً في لبنان، من منبعه حتى الحدود اللبنانية – الفلسطينية المشتركة. يشار إلى أن التصريف السنوي لنهر الحاصباني تراوح بين 236 مليون متر مكعب في عامي 1947 – 1948، و 63.5 مليون في عامي 1960 – 1961 على سبيل المثال. إلاّ أنه ونتيجة لتغير المناخ وشح المطر في بعض المواسم، فإن التصريف السنوي يمكن أن يتدنى إلى أقل من ذلك، بحسب مشاهدة ميدانية في عامي 2000 – 2001 بعد تحرير الجنوب، إذ ان مجرى النهر في جنوب بلدة الماري الجنوبية وبالقرب من الجسر الفاصل بين الماري وعين عرب، كان لا يحتوي على أي قطرة ماء، علما أن تلك المنطقة لا تبعد إلاّ نحو خمسة كيلومترات من الحدود اللبنانية – الفلسطينية. كما وفي العامين المشار إليهما سابقاً، فإن نهر بريغيث ويطلق عليه نهر مرجعيون أيضاً، وهو أحد فروع الحاصباني، ويعتبر نبع الدردارة المشهور والذي يقع في جنوب شرقي بلدة مرجعيون أحد مصادره المائية، كان يشكو من جفاف مائي شبه كامل أيضاً. على مسافة تبعد نحو سبعة كيلومترات من منبع النهر جنوباً، وفي المكان الذي نوهنا عنه سابقاً، يتم التخطيط لبناء سد على مياه نهر الحاصباني، من المفترض أن يتسع لنحو 50 مليون متر مكعب من مياه النهر، ومن مياه عشرات الينابيع والفروع والأنهار الشتوية الصغيرة ومياه الأمطار والثلوج الذائبة من مرتفعات جبل الشيخ في المواسم المطرية الجيدة، كي يوفر مياه الشفة والري لمنطقتي حاصبيا ومرجعيون، إضافة إلى إقامة مشاريع اقتصادية وسياحية أخرى، بحسب ما جاء في صحيفة «السفير» في 28 أيلول (سبتمبر) الماضي. إلاّ أن بعض سكان المنطقة يعترض على إقامة السد في المكان الذي تم الإعلان عن اختياره، ويقترح نقله إلى بعد كيلومترين جنوب المكان المقترح، نظراً إلى الأضرار التي يمكن أن تصيب بعض البيوت والسكان والمزارع والأراضي الزراعية في حال الموافقة على المشروع بصيغته الحالية. وكون المنطقة التي يقترحونها خالية من البيوت والسكان ووعرة وبوراً ومشاعاً وغير صالحة للزراعة. وهذا الأمر ربما تحسمه المراجعات الهندسية المناسبة والتي من المفترض بها أن تكون دقيقة وعلمية وخضعت إلى دراسة طبيعة المكان ومواءمته لمشروع السد. أما العقبة الكبرى فيمكن أن تتمثل في الاعتراض الإسرائيلي على إقامة مشروع السد، وهذا التخوف والاحتياط والحذر انبنت على وقائع سابقة في التعامل مع العدو الصهيوني، نظراً إلى أهمية او حساسية موضوع المياه بالنسبة إليه، واعتبارها خطاً أحمر لا يتوانى إزاءه عن إطلاق التهديد والوعيد، وربما شن الاعتداءات في حال اعتبر أن مصالحه قد مست، أو استشعر «خطر» المس بها! لذا فإن السلطات اللبنانية لا يمكنها التفكير بالإقدام على إنشاء مثل هذا المشروع، إلاّ بعد أن تكون قد درست خطواتها وقاستها بميزان يقترب من ميزان الذهب، علما أنه يحق للسلطات المائية اللبنانية الاستفادة من مياه النهر وإقامة المشاريع عليه، بما أنه ينبع ويجري من وفي أراضيها، شرط المحافظة على حصة الدولة التي يعبرها النهر ويجري ويصب في أراضيها بحسب قانون الأنهار العابرة للحدود دولياً. هنا علينا التذكير بوقائع مهمة واكبت التوجه لتنفيذ بعض المشاريع المائية في المنطقة، خصوصاً على نهر الحاصباني نفسه، علماً أن من أسباب حرب العام 1967 وما تلاها وما سبقها من اعتداءات إسرائيلية، كانت من دوافعها، تلك القرارات التي اتخذت خلال عقد أول مؤتمر قمة عربي عام 1964 اذ تقرر إقامة مشاريع عدة وسدود على بعض الأنهار العربية لمنع وصولها إلى بحيرة طبريا - خزان المياه الأساس في فلسطينالمحتلة - وذلك رداً على تلك المشاريع التي أقامتها إسرائيل على روافد نهر الأردن، فما كان من العدو الصهيوني إلاّ شن عدوانه على أقطار عربية عدة، من بينها لبنان. أما أحدث الممارسات و «البلطجة» الإسرائيلية في ما يتعلق بمشاريع المياه في لبنان، والتي وصلت في بعض الأحيان إلى هوس في الاعتقادات الخاطئة، فيمكن أن نطلق عليها «فوبيا المياه» أو «فوبيا افتقادها»، علماً أن الأنهار التي تكوّن نهر الأردن الأعلى – الحاصباني والوزاني وبانياس والقاضي أو دان وغيرها، والتي يعد جريانها في سورية ولبنان، ثم تدخل الأراضي الفلسطينية، فإنها تتحد وتلتقي مع بعضها لتكوّن نهر الأردن الأعلى بعد أربعة كيلومترات من جريانها في الأراضي الفلسطينية – تم تحويلها من جانب العدو الصهيوني بعد دخولها إلى بحيرة طبريا، إلى حوض آخر غير الحوض الطبيعي والتاريخي الذي كانت تسير فيه. فهي كانت قبل منتصف الستينات تخرج من بحيرة طبريا لتتابع سيرها نحو الجنوب الشرقي لتلتقي بعد سير ثمانية كيلومترات بالرافد الأساس لنهر الأردن الأدنى، أي نهر اليرموك وغيره من فروع وأنهار أصغر لتصب في البحر الميت. أما بعد إقامة المشاريع الإسرائيلية في منتصف ستينات القرن الماضي، فقد وجّه مجرى نهر الأردن من بحيرة طبريا إلى سهل البطوف في جنوب غربي البحيرة، ثم إلى الساحل الفلسطيني، وبعد ذلك إلى صحراء النقب في الجنوب. وهذا يعني أن السلطات الإسرائيلية حولت المياه إلى خارج حوضها الطبيعي، والقانون الدولي للأنهار والمياه يمنع سحب المياه وتحويلها إلى خارج حوضها، ما دام السكان المقيمون داخل الحوض بحاجة إليها، وما قامت به إسرائيل هو إحدى المخالفات الكثيرة للقوانين الدولية، أولاها تأسيسها وإقامة كيانها على أراضي الفلسطينيين وممتلكاتهم. من بين أبرز مظاهر المخاوف – الفوبيا – الهوسية الإسرائيلية تجاه المياه، يمكن ذكر مسلسل من الممارسات في الجنوب اللبناني تؤكد ما نذهب إليه، من بينها: - عام 1991 وكان الاحتلال الإسرائيلي لا يزال قائماً، حضرت فرق من الفنيين المائيين (تشرين أول/ أكتوبر) لقياس الوضع المائي وفحصه ومراقبته في مواضع عدة من مجرى نهر الحاصباني، وغيره من مجاري الفروع الأخرى للنهر، اعتقاداً وظناً منها ربما أن جهة لجأت إلى التلاعب بمجرى النهر، وربما حولته أو أقامت مشاريع مائية عليه! مع أن سلطات الاحتلال عبر جيشها وجيش عملائها كانت تعرف وترصد وتتابع وتراقب حتى أعشاش العصافير وطلعاتها في المنطقة، مع ذلك فإن تلك الفرق جاءت وقلبت حتى أحجار الوديان، واستعملت أدوات قياس متطورة لتصل إلى بديهة معروفة يعرفها أي فلاح، إذ إن موسم المطر شتاء ذلك العام كان شحيحاً، ولم يصل هطول الأمطار إلى معدلاته المعروفة! وما يصيب لبنان من هذا الأمر، يصيب فلسطين وبالعكس. إلاّ أن فرق المياه الفنية الإسرائيلية كان لها رأي آخر، ودفعتها الفوبيا الى التصرف الذي أشرنا إليه. - صيف عام 2001 وبعد نحو سنة من تحرير الجنوب، ركبت السلطات اللبنانية مضخة على نبع نهر الوزاني، لضخ المياه وتوصيلها في أنابيب إلى قريتي الوزاني والميسات المجاورتين للنبع، الذي ينبع ويجري في الأراضي اللبنانية مسافة نحو ثلاثة كيلومترات، ثم يدخل الأراضي الفلسطينية بعد ذلك، ويبلغ التصريف السنوي للنهر نحو 50 مليون متر مكعب، بعدما كانت السلطات الإسرائيلية حرمت الأهالي الاستفادة من مياه النهر طوال فترة احتلالها (22 عاماً). سارعت السلطات الإسرائيلية بعد ذلك للتهديد والوعيد، والمطالبة بوقف الاستمرار في إنجاز المشروع. - في آب (أغسطس) من عام 2002 بدأت ورشة تابعة لمجلس الجنوب اللبناني، تركيب مضخة كبيرة لضخ المياه من نبع الوزاني، ووصلها بأنابيب لتوصيل المياه إلى خزان ضخم أقيم في بلدة الطيبة الواقعة جنوب غربي النبع، وترتفع نحو 700 متر فوق سطح البحر، ليتم توزيع المياه بعد ذلك إلى القرى الجنوبية القريبة – نحو 60 قرية بحسب المشروع الأساس – إلاّ أن السلطات الإسرائيلية كعادتها، أقامت الدنيا ولم تقعدها، تهديداً ووعيداً، فجاء السفراء والخبراء من الأممالمتحدة والاتحاد الأوروبي ومن الولاياتالمتحدة وغيرها، فعاينوا وقاسوا وراجعوا، إلاّ أن الجانب اللبناني استمر في تنفيذ المشروع في محاولة منه لتثبيت حقه في مياهه. مع ذلك، فإنه تواضع في سحب كامل ما يرتبه له ذلك الحق، واستفادت نحو 15 قرية من مياه المشروع – ربع القرى –، كما أن ربع كميات المياه التي يرتبها القانون الدولي للبنان من مياه نهر الوزاني هو ما تم الاستفادة منه فقط. - في العام 2003 لجأ بعض المزارعين اللبنانيين في سهل الدردارة، الواقع بين بلدتي الخيام ومرجعيون، إلى بناء بركة لتجميع المياه من نبع الدردارة، ومن المياه التي تتجمع في بعض المواسم الممطرة، وذلك لسقاية مزروعاتهم وحقولهم ومواشيهم، بعد أن أخذت الآبار الارتوازية تقصّر في الاستجابة لاحتياجاتهم ومتطلباتهم. وقد اضطر المزارعون إلى قطع المياه عن مجرى نهر مرجعيون – البريغيث – المار في المنطقة لساعات محدودة، كي تمتلئ البركة بالمياه، إلاّ أن السلطات الإسرائيلية هاجت وماجت، واستنفرت قواتها التي ظهرت بوضوح في مزارع مستعمرة المطلة المقابلة لنبع الدردارة، وطلبت من خبراء الأممالمتحدة التحقيق في الأمر، خشية أن تكون السلطات اللبنانية – بحسب الفوبيا الإسرائيلية – عمدت إلى تغيير مجرى النهر، إلاّ أن المعاينة أثبتت أن الأمر لا يعدو كونه إجراء موقتاً. * كاتب فلسطيني.