يبدو أنّ موسم فرنسا الأدبي تحوّل في هذه الأيام إلى كتابات حميمية للبوح بحياة الطفولة وأسرار الآباء وكلّ ما تتّفق على إخفائه العائلات في مرحلة من مراحل حياتها للحفاظ على وجودها وكيانها. في هذا الإطار جاء كتاب مازارين بنجو، ابنة الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران، بعنوان"الفم المُخاط"الصادر عن دار نشر"جوليار"الباريسيّة. تروي الكاتبة"تسع عشرة سنة من حياة الظلّ"، إذ تقول:"حُرم عليّ التفوّه بكلمة أبي أمام الناس حتّى التاسعة عشرة من العمر". وتختصر هذه العبارة طريق الآلام والمعاناة الصامتة التي عاشتها مازارين في طفولتها وشبابها، وهي تكشف عنها الآن، للمرّة الأولى، في ما يُشبه البوح، وتخصّص عنها كتاباً كاملاً، وكذلك عن السرّية التي رافقتها لسنوات طويلة وكانت المرادف لحياتها. إبنة رجُل ينبغي عدم التلفّظ باسمه لأنه والدها السرّي ولأنّه في الوقت ذاته رئيس الجمهوريّة. تتطرّق ابنة الرئيس عبر 234 صفحة إلى مسائل عدة منها: الجذور، الكذب، النسيان، الوراثة، صورة الذات والعلاقة مع الآخرين، إضافة إلى مرض الرئيس ووفاته عام 1996. تتحدّث أيضاً عن وجع الغياب والموت فتقول إنّ"غلطته الوحيدة أنه غاب عنّي باكراً". ومهما تأخّر الموت فهو يأتي باكراً. هذا ما كان عليه لسان حال والدها دائماً، وكان في السنوات الأخيرة من حياته شديد الهجس بالغياب والموت. مازارين من مواليد عام 1974. تعرّفت عليها فرنسا للمرة الأولى عام 1994 على صفحات مجلة"باري ماتش"من خلال صور التقطت لها من بعيد وهي إلى جانب والدها ميتران. كان الحدث بالنسبة إليها نوعاً من الاغتصاب، وتعترف الآن بأنّ هذا الحدث الذي سبّب لها العذاب في الماضي هو اليوم نوع من الراحة... وتعترف أيضاً بأنّ حبّ الآخر هو أيضاً القبول بجوانب ضعفه. في سياق حديثه عنه، الغائب الحاضر الأكبر، تقول مازارين:"إنّ الليالي التي أمضاها أبي في بيت عاشقته تتجاوز بكثير ما أمضاه في قصر الإليزيه". بمثل هذه العبارة تحاول مازارين التي تبلغ اليوم الثلاثين من العمر التعبير عن حال القرب والحميمية التي طبعت علاقتها بوالدها ميتران، وتضيف في مكان آخر:"كنا نلتقي كل مساء حول مائدة العشاء وقبل نومي كان يقصّ عليّ حكايات الصغار". إنّه الكتاب الذي تنتظره الصحافة الفرنسية منذ مدة طويلة، وقد تمّ طبع مئتي ألف نسخة منه بحسب ما صرّحت به دار النشر. وجاء الكتاب احتفاءً بذكرى الرئيس ويواكب في الوقت نفسه عرض الفيلم السينمائي الذي يتناول الأشهر الأخيرة من حياة ميتران والذي سجّل منذ الأسبوع الأول لعرضه في القاعات الفرنسيّة إقبالاً كبيراً من طرف الجمهور الذي يبدو أنه يريد معرفة المزيد عن رجل حلمت فرنسا عبره بنقلة سياسية جديدة. غير أنّ الكتاب الذي يطلق سرّ هذا الأب هو أيضاً بمثابة تكريم من ابنة لأبيها وهو ما يدفع إلى القول إنه سيلقى استقبالاً أوسع من الاستقبال الذي لاقاه الفيلم حتّى الآن. الكتاب مهدى لكلا الوالدين، وتصف فيه مازارين وصفاً في غاية الإنسانية بعيداً كل البعد من كل الكتابات التى عرفناها عنه، والتى نعتت الرئيس بالوقاحة والتجبّر. تقول الكاتبة:"كان أباً حاضراً ومصغياً، كان يلعب معي كرة الطاولة، وقد تحمل مسؤولياته الأبوية". وتؤكد أن رغبة والدها كانت كبيرة في إعطائها اسمه لكنها رفضت"لأنّ ذلك جاء متأخّراً". من جملة الذكريات تعود مازارين إلى مرحلة المدرسة فتكتب:"حين كانوا يسألونني عن مهنة والدي كانت إجاباتي جاهزة: إما"لا شيء"وإما"محامٍ". والمهنة الأخيرة ليست خاطئة تماماً في منظورها. وتروي مازارين كيف كانت تشعر بغضب شديد عندما كان البعض ولا يزال ينعت والدها بالمعادي للسامية، فتعتبر ذلك شتماً لذكراه إذ تقول:"كان والدي صديقاً قوياً لإسرائيل أكثر منّي. كنت شخصياً أكثر قرباً من القضية الفلسطينية، وهذا ما كان يسبب وفي كل مرة نقاشاً حاداً بيننا يصل أحياناً حدّ التصادم. تطرقت الكاتبة أيضاً إلى التناقضات التي واجهتها في شبابها وإلى كيفيّة خروجها العنيف من دائرة الظل لدى وفاته وهي لم يتجاوز التاسعة عشرة من العمر. ويبدو من قراءة الكتاب أن مازارين تحاول إبعاد كل الشبهات والاتهامات التي أشارت إلى استفادة العائلة الثانية للرئيس ميتران من سخاء الدولة الفرنسية، فتقول:"لم تطلب والدتي أية مساعدة من أيّ أحد كان". وتشير إلى أنّ حضور عائلة بنجو في صالات قصر الإليزيه كان نادراً، وتلفت في هذا الصدد إلى زياراتها إلى ذلك القصر وهي مختبئة خلف المقاعد الخلفية في السيارة الرسمية التى تنقلها إلى هناك لئلا يتعرف عليها أحد. وكان ذلك في المرحلة التي أعطى الرئيس شخصياً أوامره بمنع تسرّب أيّ معلومات عن هذه"الابنة غير شرعية"، فأصبحت السر الأكثر سرية لدى الدولة الفرنسية وقتها. وقد وضعت في هذه المرحلة بعض الوسائل الإعلامية وصحافييها تحت المجهر والمراقبة الشديدة، وهو ما يعرف اليوم بملف"التنصت في الإليزيه". كان من أهداف الفريق الساهر على العملية الحفاظ على سر وجود"ابنة الرئيس"، وهي إحدى فضائح مرحلة حكم الرئيس ميتران حيث حاول خلالها منع الإعلام والمعارضة الفرنسية من الاطلاع عليها أو استغلالها ضدّه كما أكد أحد مساعديه آنذاك في المحاكمة الجارية هذه الأيام في باريس. وتصف مازارين والدها"بالرجل القوي الذي لم يناطحه سوى المرض الذي ساهم في إضعافه"، وتضيف:"للمرة الأولى يلتقيى الرئيس بما هو أقوى منه..."وتروي الكاتبة أخيراً كيف سمحت لها وفاة والدها بتطوير علاقتها بأخويها من أبيها جون - كريستوف وجيلبار. إنّه الكتاب الرابع لابنة الرئيس ميتران بعد"الرواية الأولى"التي صدرت عام 1998 وتقول عنها كاتبتها"انها كانت مجرد عمل أول تمرنت فيه على أسلوب الكتابة والقصة، لذا جاء غير محكم تماماً. أما الكتابان الآتيان"زين أو إعادة السيطرة"2000 و"قالوا انني كنت..."2003، فهي تحيل من خلالهما إلى كتب سبق أن قرأتها وأثرت في طفولتها وشبابها وجعلتها تصبح على ما هي عليه اليوم أستاذة لمادة الفلسفة في جامعة"أكس"الفرنسية، والكتب الأربعة صادرة عن دار"جوليار"الباريسية.