ابنة الرئيس ما بين السر والعلن كانت الخبطة من النوع النادر. ومن المنتظر ان تحتل الرواية المرتبة الأولى ضمن قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في فرنسا. فقبل أسابيع، قامت المسؤولة عن منشورات "جوليار"، وهي أسنيدة اعلامية مؤثرة في فرنسا باستدعاء مجلة "لونوفيل أوبسيرفاتور"، يومية "لوموند"، ومعد برنامج "جمهور" على القناة الفرنسية الأولى، لِتُزف إليهم البشرى: مازارين بانجو، ابنة الرئيس الفرنسي الراحل ميتران، انتجت باكورتها الأولى، وتم الاتفاق على تسميتها "رواية أولى". وتحوّل الخبر للتوّ حدثاً سياسياً - أدبياً، ما زال يشغل مقالات الصحف في فرنسا، لا بحكم متانة الرواية بل اعتباراً لشخصية المؤلفة التي أفشت سر قرابتها بالرئيس الراحل عدسات باباراتزي أسبوعية "باري ماتش"، في صور الى جانب والدها أثناء مغادرتها أحد المطاعم الباريسية سنة 1994. الى ركوب الخيل، تهوى مازارين المطالعة وهي اليوم في سن الرابعة والعشرين من عمرها طالبة في قسم الفلسفة بالمدرسة العليا للمعلمين، أبرز مؤسسة تربوية في فرنسا" وفيها تخرّج فلاسفة من أمثال جان بول سارتر، لوي التوسر، الذي خنق أنفاس زوجته في رحابها، ميشال فوكو، ميرلو بونتي إلخ... وهي الآن في صدد اعداد شهادة الدروس المعمَّقة عن الفيلسوف سبينوزا. بطلة "رواية أولى"، وتسمى أغاشا، طالبة في إحدى الثانويات الباريسية المرموقة. فتاة وحدانية، تحيط شوارع باريس، مكتباتها، مقاهيها، لتعليم أشياء الحياة وتمتين شخصيتها بعد أن عاشت صدمات أثرت عليها بالغاً، مثل فقدانها أخاها أو سقوطها من صهوة جواد. "أغاشا" فتاة عاشقة وحائرة، فضولية وحذرة. هل القارىء أمام بورتريه مستنسخ، مع بعض الرتوشات لمازارين بانجو؟ إنه سؤال ضمن بقية الأسئلة التي تطرحها الرواية. "رواية أولى" تقع أصلاً في 700 صفحة، إلا أنها تم تشذيبها بحسب قوالب النشر وقوانينه، ولم يُحتفظ منها سوى ب268 صفحة صالحة للنشر! ان كانت رغبة مازارين، وهي البنت غير الشرعية، هي أن يعترف بها الآخرون كذات، ثم كذات كاتبة، لا بصفتها ابنة الرئيس ميتران، فإنها ساهمت، وربما على غير قصد منها في إذكاء الغواية التي يعشقها الباباراتزي، أي تحرش الالتقاط، وذلك بتجليتها تارة أمام عدساتهم الشرهة واختفائها أحياناً أخرى. مازارين اليوم روائية من بين 20 ألف كاتب يمتهنون أو يتعاطون الكتابة في فرنسا. لكن قلة منهم، وهي التي ترفض بهرجة الإعلام تملك باعاً حقيقياً. هل ستصمد مازارين متكئة على قوة كتابتها أم ستبقى باكورتها "رواية أولى" هي الأولى والأخيرة؟ البديل في الفرنسية، تطلق كلمة Nژgre، البديل، على الشخص الذي يؤلف مقابل أجر، وتحت الطلب، كتاباً لشخصٍ آخر. هذه الممارسة ليست وقفاً على رجالات السياسة الذين تنعم كتبتهم الخاصين، بل يمارسها ايضاً بعض رجالات الأدب والدين... وللكتبة وضع قضائي يحكم عملهم بالسرية التامة" أي انهم عبارة عن ظلال بل أشباح تختفي وراء توقيع الكاتب المستعار، الذي يصبح في انتهاء النص هو الكاتب الحقيقي. وان لم يحترم البروتوكول، فإن شخصية الكاتب المستعار، لا البديل تصبح عرضة للفضيحة. وهذا ما حدث لصاحب السيادة غايّو، وهو رجل دين فرنسي معروف بمساندته للمهاجرين والمستضعفين ووقوفه الى جانب من لا حق لهم. اصدر تحت الطلب عن "منشورات رقم واحد" نصاً في عنوان "الغواية الأخيرة لإبليس" وانبطح على مانشيتات الجرائد مصرحاً بأن تأليف الكتاب تطلب منه جهداً كبيراً. ولما انفضح أمره، تحامل على بديله، أي الكاتب الحقيقي. فما كان على هذا الأخير واسمه ألن ديجران الا ان خرج الى واضحة النهار والاعلان على صفحات جريدة ليبيراسيون بأنه المؤلف الحقيقي للكتاب وبأنه من بين العشرين كتاباً التي وقعها في اسمه المونسينيور غايو، لم يؤلف منها ولو كتاباً واحداً. فما كان على الناشر الا ان سحب نهائياً الكتاب، لا بدافع أخلاقي، بل مخافة على سمعته التجارية. ليست هذه الواقعة الأولى ولن تكون الأخيرة. فمستقبل البدائل أو الكتبة، في غياب كتاب حقيقيين زاهٍ ومضمون. استنساخ اصدرت الروائية الفرنسية ماري داريوسيك اخيراً عن منشورات "بول" رواية في عنوان "ميلاد الأشباح". استقبل النقد الفرنسي بترحاب وتأييد لهذا العمل الذي اعتبره البعض أنه يؤسس كتابة جديدة وبدم جديد. وبعد أيام بعثت ماري نداي، وهي روائية أخرى لها باعٌ أدبي محترم، برسالة الى وكالة الصحافة الفرنسية تعبر فيها عن استغرابها بل استيائها من الممارسة الاستنساخية التي قامت بها ماري داريوسيك. وعلى صفحات الجرائد استسلمت الروائيتان لتنابي مسموم. هل يتعلق الأمر باقتباس، استنساخ، استيحاء، نقل إلخ...؟ ما هي الحدود الفاصلة بين كل هذه الممارسات؟ ان هذا النقاش الجديد - القديم يطفو بين الحين والآخر على مانشيتات الصحف ثم لا يلبث ان يلبث ان يجرفه النسيان. ولما يتدخل القانون فإنه يعمل على حماية حقوق المؤلف وأفكاره ومتخيله. وهذا يتعارض مع ممارسة السطو التي تعانيها الثقافة العربية ان على مستوى الترجمة أم التأليف، وكأن الكاتب نعجة يتيمة مثل "دولي" و"مولي"!