بعد سنوات من الصمت طالت عن مقاصدها خرج سليم باسيلا، المحامي، والمعلم، والأديب، والمثقف، من عزلته ونسكه، بأوراق ومودات لم تذهب بها عاصفات النسيان، ليعلن على الناس وفاءه... فإذا نحن في حضرة توأمين، هما باكورة نتاجه وعصارة عمره المديد:"أوراق لم تذهب بها الريح"و"كتاب المودات"نشر خاص ? بيروت 2005 يتكاملان، ولا يتلاحقان، تربط بينهما آصرة المودة. هذه المعادلة التي شاءها مبدعها، معادلة وفاء مشتركة، ومتبادلة لمطالعاته، ولحسه الرهيف، ولمعرفته العميقة الغور، ولثقافته الوسيعة الأمداء، ولإيمانه الراسخ بالإله الواحد الأحد! هي، قبل كل هذا وذاك، معادلة الخضوع للخالق... وهي معادلة حياة، ولكنها ليست قائمة على الخوف من الموت، الذي هو حق، بل على إدراك كنه الوجود، ما بان وما خفي من هذا الوجود، وما تمّ الاصطلاح على تسميته اكتشاف الظلمات... ظلمات النفس الأمّارة بالسوء أو تلك التي تدعو الى الفضيلة. وفضيلة الفضائل عند سليم باسيلا، انه يلتزم التهذيب المفرط المنضبط على ايقاع التوازنات الرضية التي تتحكم بأحكام رجل القانون، والقاضي الحكيم العادل الذي لا راد لأحكامه المقرونة بالاستشهادات والأدلة والاثباتات والاعترافات والمعادلات، يقسّطها بجرعات العقاقير والأدوية الى تطيب وتشفي من العلل والأمراض وتنفخ العافية في صدور السقماء والمحبطين! قد يكون أدب سليم باسيلا، هذا المقلّ في العطاء، مفاجأة المفاجآت في برية العربية الفسيحة الارجاء، المتباعدة الأطراف، المتضاربة الأهواء والمشارب، التي أخذت تضعف وتهزل بفعل طغيان الإهمال، والشعوبية، والاستسهال، والترشيق العشوائي، وبفعل غزو العاميات، واللهجات المحلية الاقليمية، والاشعارات الدخيلة، والاشتقاقات الغربية التي راجت، رواج النار في الهشيم، فأخذت تحيد باللسان العربي السليم عن قواعده، وتشذّبه عن صلابة بنيانه وبلاغته وجمال سكبه وصقله! ولا تتورع عن ان تسقط عنه هالة قداسته، برعونة رعناء، وبتصرف خالٍ من كل حسّ بالمسؤولية! وإذا كان سليم باسيلا اتخذ من المودات ذريعة ليجزي من يشاء على صنيع صنعه، وليحجب مكافآته عن غير المستحقين, إلا انه قدم برهاناً لا يدحض ولا يرد على انه ابن معرفة معينة بامتياز، وقد دانت له البلاغة كما دان له البيان، فصاغ سفراً فريداً، بوعيه لكل شاردة وواردة في أصول التمحيص والتشابيه والاستعارات والمقارنات والمعادلات، وهو يزحم البرهان بالبرهان على وداده ورفعة خلقه... هذا الصنيع المزدوج المبني على كيل المودات لحفنة من الكتاب والادباء والشعراء والمحامين ورجال القانون، شاءه صاحبه، وقد علت به السنون، نادرة في الزمان المضطرب الغارق بالجحود والعقوق والنسيان والازدراء، وكرّسه رمزاً مشهوداً له، بالوفير من مخزون المطالعات والقراءات والنضج والفرادة وكأنه يقول لعارفيه, ولأصدقائه، ولزملائه، ولخلاّنه، ولقارئيه: أنا ابن بجدتها! في"مودات"سليم باسيلا، أكثر من دليل على انها تحمل في طياتها نوعاً من التحدي والمكابرة والمكاسرة، ففيها أكثر من مئة استشهاد بأكثر من مئة كاتب وأديب ومفكر وعالم وحقوقي من الجهابذة الأفذاذ في حقوق المعرفة، بدءاً باللاهوتيين الى الحقوقيين، الى الادباء والشعراء، والفنانين أمثال: جوزف كومبلان، وأودون كاسل، وأوليفييه كليمان، وجان كيتون، وجان كوكتو، والأب برومون، وجان روسلو، وجورج برنانوس، وبيغي، وباشلار، وبروست، وكلوديل، ومورياك، وراسبروك، وهنري سيمون، وتيلاردو شاردان، وسارتر، وهيغل، وبارت، وفاليري، وسنغور، ورينه شار، وباسترناك، وغوغول، وبول باستير، وتدوروف، وستندال، وايلوار، وسوبرفيال، وموباسان، وميسترال، وجان دورمسون، وفرنسيس كاركو، ومارك ألين، وبرونتيير، وروجيه جيرو، وجان سوناك، وماتيلد بومي، وروبر كمب، وجاكوبسون، وجيرودو، وجاك شاربيه وغيرهم. ذخيرة، قلما توافرت لغيره أو عند غيره، ليقارع بها الحجة بالحجة، والبيان بالبيان، والبرهان بالبرهان والرأي بالرأي، والموقف بالموقف... وكأني به يقيم جسراً بين حضارتين، وثقافتين، وعدالتين، وصنيعين، وابداعين، من دون أن يكفّر مبدعاً مهما ضمر صنيعه، أو مهما استوقفته عثرة قلم، أو مهما لاحت هِنَة في مفرق صنيع، كما لم يسخر من أية كبوة في مرمح! هذا المنمنم المفرط بنمنمته، والمزدهي بنصه، والمكابر في علم البديع، كأنه فريد زمانه، يوشي تعابيره بدقة متناهية الحبك وكأني به مفتون بزخارفه وبالرسوم التي يحيك منها مطرزاته! من يقرأ سليم باسيلا لا يساوره الشك لحظة انه لا يقرأ نصاً لمحام بارع وحقوقي صرف عمره في معالجة نصوص المواد الجافة والاحكام الصارمة الجامدة، وتأثر أسلوبه بأسلوبها، وخصوصاً في"أوراق لم تذهب بها الريح"بل يقرأ نصوصاً لشاعر صاغ للحروف أجنحة، وللكلمات خفقاً ونفخ في العبارات روحاً من عنده تزخر بالمشاعر والأحاسيس، فتأسر، وتكبّل، وتحبس الأنفاس، وتتثنى، وترقص وتطير... هذا المقلّ الساحر لا يبني أحكامه على منطق الشعوذة، بل على منطق المنطق، وهو منطق المقاسات والأبعاد التي لا نشاز فيها ولا ظلامة، كأنه المعماري الذي اختار حجارته من مقالع متعددة ونحتها وصقلها بأزاميله ومطارقه، ونقاها من الحجارة المرذولة! لقد اصطفاها من لآلئ البغدادي في الأمالي، ومن طرائف المبرّد في الكامل، ومن براعات ابن عبد ربه في العقد، ومن إجادات ابي عثمان في البيان, ومن جزالة ابن قتيبة في العيون، ومن أطايب ابن المعتز في الطبقات، ومن رقائق ابي الفرج في الأغاني، ومن قِصار الابشيهي وطواله في المستطرف، ومن لطائف العباس بن الأحنف والبهاء زهير، ومن منمقات الشيخ ابراهيم في الضياء، ومن منمنات الأمير شكيب في الحلل، ومن مصقولات البشري في المختار، ومن ريفيات أمين نخلة في المفكرة، ومن ممتعات سعيد عقل في قدموس ورندلى ومن قصص كرم وفصوله النقدية... وقد خلص باسيلا من كل هذا الكمّ من المواصفات"الى أن الكلمة، كائن، كامل، مستقل، قسّط لها أن تتوسم قائلاً تشتهيه ويشتهيها في سباق الى متعة مقسومة بينهما". سليم باسيلا الذي سبح في بحار العيون وأنهارها عقوداً، وركن الى التأمل في شطآنها ومراسيها، ونزّه العلاقة بينه وبين المرأة تنزيهاً شبه نسكي قائم على عزلة مع ذاته وذاتها، مع كيانها وكيانه، فلم تسكنه ولم يسكنها سكنى آدم لحواء... وظل دائماً وأبداً كما توحي أوراقه، كلما كاد أن يتساقط عن خصرها، يتطهر بدموع عينيها ومآقيها ويغتسل، استعاض عن ذرية اللحم والدم، بذرية الكلمة... الكلمة الله... فانصهر بها وذوّبها وذاب بها... زاوج بحسّ الشاعر، المؤمن بالله، بين الصفة في الكلام ومضمون المعاني ومكنونها، وقد لا يغيره إذا أقمت مقاربة بين"كتاب المودات"و"أبعد من المنبر"لصديقه وصديقي، القاضي الكبير، والأديب البالغ الأصالة غالب غانم، مقاربة قربى، موقوف بعضها على الوفاء، وبعضها على الغنى في العطاء، وبعضها على الثراء في المخزون الثقافي وبعضها على النقاء في السريرة، وبعضها على الاشراق في البلاغة. كما لا يضيره اذا أقمت مقاربة بين"أوراق لم تذهب بها الريح"و"قربان الأغاني"لشاعر الهند الأكبر طاغور من حيث التسامي في ملامسة المرأة ب"ايماءات"البدع، والخفر، والحياء، والرقة والعذوبة والشفافية، هذه المرأة ذات الدلال الذي يقهر تثنيها خالقها، كما لا يعيب أوراق سليم باسيلا ان خلت من الوطنيات، ويكفيه ان نصوصه لا تؤخذ على انها مادة للتشريح، فهي وحدة متماسكة، متلاصقة، متداخلة، متفانية في ذاتها الى حدّ الانصهار والذوبان، ذوبان الجزيئات في الكلّي المتعاظم بذاته!