"نجم الموسم"في باريس هذه الأيّام، هو... الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران. لاحظت الصحافة العالميّة أخيراً أن هناك حالة من"الهوس"بميتران وأنه لا يزال على الموضة، تسع سنوات بعد رحيله. وكأن الفرنسيين الذين وضعوا الجنرال شارل ديغول من زمن في"متحف العظماء"، غير قادرين على التخلّص من طيف من كانوا يلقبونه"العم"Tonton، هذا الزعيم الذي غرّد خارج سربه، وأوصل الاشتراكيين إلى الحكم، و"الخائن"الذي أجهض مشروع اليسار الفرنسي برأي شريحة من الرأي العام. الرئيس الفرنسي الأسبق حاضر هذه الأيّام في المحاكم، وفي المكتبات، وفي صالات السينما... وعلى شاشات التلفزيون بطبيعة الحال. فبعد قضيّة"إلف أكيتان"التي تتعلّق بفضيحة"كوميسيونات"بيع سفن حربية إلى تايوان خلال فترة وجود رولان دوما صديق ميتران المقرّب في وزارة الخارجيّة، يواصل القضاء النظر في قضيّة التنصّت الشهيرة التي طاولت كتاباً وصحافيين وشخصيات معروفة خلال عهد ميتران. وقبل فترة قصيرة، دخلت الحلبة مازارين بينجو، ابنة ميتران"الطبيعيّة"حسب المصطلح المتداول في فرنسا أنجبها الرئيس الراحل خارج رباط الزواج الشرعي، إذ نشرت تحت عنوان"السرّ المكتوم"كتاباً يحكي طفولتها"المكتومة"وعلاقتها بهذا الوالد الذي منعت من المجاهرة به مثل الأطفال الآخرين راجع"الحياة"، 28 شباط/ فبراير الماضي. وقبل أيّام باشرت الصالات الفرنسيّة عرض فيلم روبير جيديجيان الجديد"متنزّه شان دو مارس"المأخوذ عن كتاب سجالي للصحافي جان مارك بن عمو، يتناول الشهور الأخيرة من حياة فرنسوا ميتران... أثار الكتاب لدى صدوره، بعيد رحيل ميتران، ردود فعل سلبية، خصوصاً في أوساط عائلة الرئيس الراحل ورفاقه المقرّبين. ومع أن جيديجيان تجنّب في اقتباسه التفاصيل السياسية المثيرة للنقاش، فهو لم يفلت من المواقف النقديّة: السيدة دانيال ميتران أرملة الرئيس أعلنت أنها لن تشاهده، ومازارين صرّحت بأنّها لم تجد أباها في الفيلم. وأشرس الانتقادات جاءت على لسان صديق ميتران بيار بيرجيه والوزير السابق جاك لانغ... فيما نقلت الصحف عن الوزير رولان دوما الذي يصوّره الفيلم بشكل كاريكاتوري وهامشي، أنّه أحبّ العمل، وتعرّف إلى ملامح صديقه الراحل من خلال إداء الممثّل الكبير ميشال بوكيه. ومما لا شكّ فيه أن الممثّل الفرنسي ميشال بوكيه يقدّم هنا أحد أجمل أدواره، إذ يبرع - من دون أي تقليد سطحي لميتران - في تقمّص تلك الشخصية الخاصة جداً، ويعبّر عن تركيبتها المعقّدة... إذ يجسّد ميتران بعد بدء العدّ العكسي لوجوده في قصر الاليزيه حيث أقام أربعة عشر عاماً، أي أكثر من ديغول... وبدء العدّ العكسي لوجوده في الحياة الدنيا، إذ أن مرض السرطان الذي يفتك به كان دخل مرحلته الأخيرة. نستعيد في الفيلم ميتران بحسّه الساخر وتعاليه ومرارته وشكوكه ونزقه وسرعة بديهته ومقدرته على الارتجال البليغ، وتعاطيه مع العالم، وتلاعبه الماهر بالأحداث والأشخاص، ومشاغله الفلسفيّة والأدبيّة، وتشبّعه من كتب التاريخ، وعلاقته الشبقيّة بتماثيل ملوك فرنسا، ونظرته إلى السياسة والتاريخ، وحبّه لمتع الحياة، وإخلاصه لفرنسا. لكنّ نجاح فيلم جيديجيان ربّما يعود أوّلاً إلى طريقة توظيفه المادة الأرشيفيّة والوقائع التاريخيّة في سياق روائي، على خلفيّة مواجهة بين شخصيتين: الرئيس والصحافي الشاب الذي يحاوره، بل يصغي إليه في معظم الأحيان. الآخرون مجرّد كومبارس، الطبيب والمرافق والسائق وبعض المريدين. وربّما وضع المخرج في شخصيّة الصحافي بعضاً من ملامحه الذاتيّة. يدور الفيلم ضمن اطار تلك الجلسة السريّة، على مراحل وفي أماكن عدّة بينها غرفة حمّام الرئيس في قصر الإليزيه، حيث بدا المحارب المتعب عاجزاً عن النهوض من ال"بانيو"... ويبقى الفيلم بعيداً من القضايا السياسية الحساسة، ودسائس البلاط وشخصياته، والصراعات على السلطة والمناورات السياسية الدنيئة. الصحافي أنطوان جليل لسبير يساريّ الانتماء، مبهور بشخص الرئيس، شغوف باستخلاص دروس في السياسة والتاريخ والحبّ والأدب. لكن الرجل العجوز لا يملك أيّة إجابات... ولا أي يقين. ويطرح الأسئلة بدوره حول الحياة والخلود. إنّه"الملك"المترفّع عن المعمعة, والمثقّف المشبع بالنصوص المرجعية التي يستعيدها في كلّ مناسبة. بطل تراجيدي, وحيد في مواجهة العالم, يصفّي حساباته مع منتقديه واعدائه الكثر, ومع الورثة الذين يستعجلون نهايته. يبدو الرئيس ميتران منشغلاً بالصورة التي سيتركها للأجيال اللاحقة, ومسكوناً بهاجس الموت الذي يحوم شبحه في الجوار، فيكاد يخيّم على كلّ لقطة من الفيلم. يتألّم ميتوان/ بوكيه ببسالة، متصالحاً مع موته القريب. لذّة السلطة التي استمات في المحاربة من أجلها طوال حياته، صارت وراءه. ما يهمّه في تلك اللحظات الحاسمة، هو كيف يكتب الفقرة الأخيرة من حياته؟ كيف يودّع الفرنسيين على التلفزيون خلال رأس السنة الأخير له في الحكم؟ كيف سيبقى في التاريخ؟ يكاد يتكلّم عن نفسه بصيغة الماضي:"أنا آخر رؤساء فرنسا الكبار، من طينة الرئيس ديغول... بعدي لن يأتي أحد يستحقّ الذكر. بعدي سيأتي خبراء في المال ومحاسبون. ربّما بسبب أوروبا... أو العولمة. لن يبقى شيء على حاله. سيندمون عليّ".