ما الذي يجمع بين سلفادور أللندي وهوارد هيوز؟ بين غيفارا وريتشارد نيكسون؟ زاباتا موديلياني، بيتر سيلرز، كول بورتر وغلادبر روشا...؟ في المقام الأول يجمع بينهم كونهم كلهم شخصيات تاريخية حقيقية معروفة عاشت في القرن العشرين وكانت فاعلة فيه. لكن هذا لا يكفينا هنا، طالما ان ثمة ملايين من شخصيات اخرى تتمتع بالمواصفات نفسها. إذاً نكمل لنقول ان ما يجمع بينها ايضاً هو اهتمام فن السينما بها، عند هذه السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين. فالسينما التي تميل اكثر وأكثر، منذ اكثر من عقد من الزمن الى تفحص الواقع وسبر ما حدث حقاً على ارض هذا الواقع، مستجيبة في هذا الى رغبات متفرجين يطرحون اكثر وأكثر اسئلتهم على صور وأشخاص تختزنها ذاكرتهم وربما بفضل نشرات الأخبار التلفزيونية. هذه السينما يزداد اعتمادها على السير والسير الذاتية، في مجال تحقيقها لبعض اجمل أفلامها وأقواها. وما هذه الشخصيات التي ذكرناها هنا، سوى بعض من عشرات قدمت الأفلام حياتهم او جزءاً من حياتهم خلال الشهور السابقة وحدها، او ستقدمها خلال الشهور المقبلة. ذلك ان الأفلام المتحدثة عن هؤلاء كانت من بعض افضل ما عرض في الدورة الأخيرة لمهرجان "كان" السينمائي، بينما نعرف ان الفيلم المقبل لمارتن سكورسيسي هو عن المنتج - الطيار هوارد هيوز، وأن فيلماً وأكثر عن غيفارا هو في طور الإعداد حالياً ليستكمل فيلم آخر عن بطل اميركا اللاتينية وشهيدها عرض باسم "يوميات سائق دراجة"... بينما ينجز الفيلم عن موديلياني ليعرض قريباً، وفيلم "دي لافلي" عن حياة الموسيقي كول بورتر يعرض حالياً بنجاح في الكثير من المدن ومن بينها بيروت. هتلر... انسان! غير ان الحدث الأساس، مع هذا، يبقى فيلم "السقوط" الألماني عن آخر ايام ادولف هتلر، والذي قسم ألمانيا خلال الأسابيع الأخيرة... ولا يزال، إذ رأى فيه البعض وسماً للديكتاتور النازي السابق بعض سمات انسانية لا تجوز... بينما سأل آخرون عن فائدة استعادة مثل ذلك الماضي الكئيب. ولئن كان السجال يبدو اليوم وقد هدأ حول فيلم حقق ارقاماً قياسية في عدد المشاهدين، وقالت عنه صحيفة "فرانكفورتر ألغيميني": "ان هذا الفيلم يدخلنا في القرن الحادي والعشرين"، فإن السجال بدأ لتوه في باريس، غير البعيدة كثيراً من فرانكفورت، حول فيلم "سيرة" هو الآخر: الفيلم الذي ينجزه السينمائي روبير غيديغيان عن حياة... الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران. وفيه كذلك غوص في الأيام الأخيرة لميتران الذي ستحتفل فرنسا خلال شهور قليلة بالذكرى العاشرة لرحيله. وقبل ان نطل على هذا الفيلم لا بد من ان نذكر هنا ان الرئيس ميتران كان معروفاً بشغفه بالفن السابع. وهو كان يصر على مشاهدة الكثير من الأفلام اسبوعياً، وغالباً في صحبة عديله الممثل الجزائري الأصول روجيه هانين. ومن نافل القول ان فن السينما ازدهر كثيراً خلال حكم ميتران الذي دام اربعة عشر عاماً... وليس في فرنسا وحدها، بل في عدد من الدول الفقيرة - وغير الفقيرة - التي طالما وجد سينمائيوها دعماً وتمويلاً لهم في فرنسا، بمبادرات من وزير ثقافتها، في عهد ميتران جاك لانغ. ومن بين هؤلاء السينمائيين عميد سينمانا العربية يوسف شاهين. وفرانسوا ميتران كان يعبر كثيراً وبأريحية عن حبه للسينما، من خلال استقباله للسينمائيين ودردشته معهم، بصداقة واضحة. ومن هنا، إذا كانت السينما ترد التحية اليوم لميتران بتحقيق فيلم عنه، من الواضح ان يُنظر الى هذا الأمر على انه إنصاف ورد جميل، خصوصاً ان المخرج معروف بميوله الاشتراكية اليسارية، وكثيراً ما حقق عن مدينة مرسيليا وحياة اهلها افلاماً لها روح ميترانية واضحة. ومع هذا، ها هي العاصفة تثور منذ الآن. ويقيناً انها ستتصاعد حدة مع اقتراب موعد عرض الفيلم، الذي كان مقرراً ان يتزامن مع الاحتفال بذكرى رحيل ميتران الأسبوع الأول من العام المقبل لكنه لن يكون سوى في الشهر الذي يليه. فلماذا الضجة السلبية، وأحد لم ير الفيلم بعد... باستثناء بعض افراد عائلة الرئيس من الذين كشف لهم غيديغيان عن المشروع مفصلاً وأراهم الكثير من المشاهد؟ لعبة الختيار الدائمة ببساطة لأن هذا من طبيعة الأمور، طالما ان النظرة الى ميتران كانت مختلفة حتى بين اقرب المقربين إليه... وطالما ان الرجل الذي سنراه في الفيلم تحت ملامح ميشال بوكيه القريبة الى حد ما من ملامح ميتران، مع فارق اساسي يجب ألا يستهان به: فما يبدو متهكماً لئيماً في نظرة ميتران وابتسامته الصفراء... يتخذ لدى بوكيه طابعاً درامياً. والحال ان هذا يقلل من الشبه بينهما، طالما ان ابتسامة ميتران الماكرة والمتهكمة، كانت جزءاً اساسياً من شخصيته. ولكن هل في وسع احد، حقاً، ان يحاكي في ابتسامته تلك الابتسامة؟ بما ان الرد الإيجابي مستحيل هنا، يمكن الاكتفاء بميشال بوكيه والاعتماد على مقدرته التمثيلية الهائلة للدنو من ميتران، كان في ألعابه ومكره قادراً خلال حياته على التلاعب حتى بأقرب المقربين إليه - كما يروي الصحافي مارك بن عمو، الذي كان صديقاً لميتران ووضع عنه واحداً من اهم الكتب، وأكثرها إثارة للسجال - فكيف يمكن لفيلم عنه ان يفلت من ذلك "المصير". والأدهى من هذا ان الفيلم اصلاً يستند في جزء كبير منه الى كتاب بن عمو الذي شارك ايضاً في كتابة السيناريو، ذلك ان عدداً كبيراً من اقرب المقربين من ميتران كان يكره بن عمو، ويغتاظ من تقربه الى ميتران خلال سنواته الأخيرة. ونعرف ان كتاب بن عمو الذي صدر بعد رحيل ميتران، رسم صورة سجالية لسنوات ميتران الأخيرة... بل لنقل انها صورة ما كان يمكن ان ترضي ميتران نفسه، لو انه حي. إذ ان الكتاب قال اشياء كثيرة، وأشياء حادة، ووصف خصوصاً بعض امور ميتران الحميمة وعلاقاته، ونقل عنه اقوالاً لئيمة حتى في حق اقرب المقربين إليه... ناهيك بأنه وصف سهرة حضرها ميتران في منزل اصدقائه من آل اورتولان... رأى كثر انها ما كان يجب ان تذكر. "على اي حال، قال بن عمو للصحافة الفرنسية اخيراً في مجال حديثه عن الفليم، حذفنا ذلك المشهد كله من الفيلم...". غير ان ما يبقى في الفيلم، بعد هذا الحذف، وبحسب ملحق صحيفة "لوموند" التي افردت للحديث عن الفيلم/ الفضيحة، حتى قبل عرضه، صفحات عدة وغلافاً، ما يبقى في الفيلم لن يمر ابداً مرور الكرام... بل ان ثمة شبه تأكيد في طول باريس وعرضها، اليوم، ان كل حلقات اقارب ميتران وأصدقائه، لن تكون راضية عن العمل... ومع هذا، يجب ألا يغرب عن بال احد، ان هذا الفيلم وعنوانه "متنزه شان دو مارس"، هو من إنتاج ثلاثة كانوا من غلاة الميترانيين، وكل منهم يدين بنجاحه المهني - بالنسبة الى اثنين منهم - والسياسي - بالنسبة الى الثالث - الى فرانسوا ميتران نفسه: جيروم سيدو من شركة "باتي" وجيروم كليمان من شبكة "آرتي" وخصوصاً جان بول هوشون، النائب الروكاردي المعروف، ورئيس مجلس اقليم ايل دو فرانس. ولكن، أفلا يطرح هذا كله سؤالاً اساسياً حول كل هذا النوع من الأفلام، اي نوع افلام السيرة والسيرة الذاتية، لا سيما حين تدنو افلامه من شخصيات لا تزال ذكراها الطازجة تعيش بيننا؟ صحيح... إذ حتى حين تذكر امور معينة، في كتب، يصعب تقبلها في الأفلام، بسبب الفعل القوي والحاسم للصورة وانتشار فن السينما. ويقيناً ان مصير هذا الفيلم لن يختلف عن مصير الأفلام المشابهة السابقة... حيث ثمة دائماً من يعترض. وحسبنا هنا ان نذكِّر بالضجة التي ثارت قبل شهور حول فيلم "آلام السيد المسيح"... وبكل ضروب الضجيج التي ثارت حول كل فيلم مشابه، بما في ذلك ما حدث دائماً بالنسبة الى سينمانا العربية حين دنت من سير ذاتية... ولعل الأمثلة الأقرب الى الذهن هنا، تشمل ذلك الاعتراض الذي جابه فيلم "جمال عبدالناصر" لأنور القوادري، وفحواه انه لا يجوز ان يصور "بطل الثورة والأمة" وهو يرتدي "البيجاما"! ولئن كان في الإمكان النظر الى هذه الحكاية الأخيرة بعين الطرافة، لا بد ان نتذكر اموراً اكثر حدة مثل احتجاج اسرة اسمهان الدائم والذي حال دون تحقيق فيلم منشود عنها حتى الآن... وكذلك ما شابهه من احتجاج لأسرة مي زيادة، الأديبة الكبيرة التي لا يفتأ السينمائيون وأهل التلفزة يحلمون بفيلم او اكثر عنها... ولا يفتأ الأهل او الورثة يمانعون... السيرة المستحيلة وإذا كانت هذه الحكايات كلها معروفة ومتداولة، فإن ثمة حكايات اكثر سخونة وأهمية - في السياق نفسه - ظلت دائماً طي الكتمان. وإذا كان البعض رأى حلاً في ان يقوم الشخص المعني نفسه - في حياته - بنقل ما يشاء من تفاصيل هذه الحياة الى الشاشة، على اعتبار انه يملك حياته وحر في ان يرويها - وهذا ما فعله الكثير من مخرجينا العرب الكبار، من يوسف شاهين الى محمد ملص الى نوري بو زيد الى فريد بو غدير الى يسري نصر الله -، فإن ثمة واقعة ترينا ان هذا الأمر - الذي قد يبدو بديهياً هنا - هو في حقيقته شبه مستحيل. والواقعة تتعلق بمشروع محمد ملص المعنون "سينما الدنيا". فإذا كان ملص عرف كيف يروي - بشكل او بآخر - جزءاً من سيرته طفلاً في "احلام المدينة" ثم في "الليل" - وهما من اجمل تحف السينما العربية - فإنه يقف الآن عاجزاً عن استكمال سيرته في مشروعه الجديد. السبب؟ سيف القضاء المصلت عليه. فملص قدم سيناريو فيلمه لكي تقوم مؤسسة السينما السورية بإنتاجه. وعلى الفور وافق رئيس المؤسسة الناقد محمد الأحمد على المشروع... ولكن حدث ان عرفت بالمشروع زوجة المخرج ملص الأولى، وفهمت ان السيناريو يصورها بصورة غير لائقة - من دون ان يسميها طبعاً، فوجهت الى المؤسسة انذاراً قضائياً... على الفور استدعى رئيس المؤسسة خبراء في القانون، أفتوا بأن السيدة قادرة على تنفيذ تهديدها. وأن المؤسسة وملص نفسه سيتضرران قضائياً، إن حقق السيناريو كما هو. وفي المقابل رفض محمد ملص إحداث اي تبديل في السيناريو، وثار سجال بينه وبين المؤسسة، يزداد حدة يوماً بعد يوم... ما يهدد وجود المشروع كله. طبعاً، حتى الآن يبدو غيديغيان صاحب "متنزه شان دو مارس" اكثر حظاً من محمد ملص، خصوصاً انه هو رفض ان يطلع احداً على السيناريو... بما في ذلك ابنة ميتران، غير الشرعية، الكاتبة مازارين بنجو، التي حين ألحت على معرفة تفاصيل الفيلم، جوبهت برفض تام. وقيل لها فقط، انها هي لن تظهر في الفيلم ابداً... فقد ستظهر صورتها كما نشرتها مجلة "باري ماتش" يوم كشفت سرها، اي سر ان لميتران ابنة من عشيقة له. وكل ما في الأمر ان المشهد الذي تظهر فيه صورة المجلة، سيظهر فيه ايضاً ميشال بوكيه/ فرنسوا ميتران، في الفيلم الذي حين يُسأل عن الأمر سيقول مبتسماً: "ماذا... ألا ترون كم هي حسناء؟". غير ان هذا كله يبدو الآن سابقاً لأوانه، وعلى الميترانيين وغيرهم ان ينتظروا شباط فبراير المقبل حتى تكون لديهم صورة واضحة عن المسألة كلها... ومن الطبيعي ان يلي ذلك نقاش حاد سيستمر طوال شهور. وفي انتظار ذلك، من الواضح ان حال جميع المعنيين هي حال مازارين ميتران بنجو التي قالت اذ عرضت عليها صورة لميشال بوكيه في احد مشاهد الفيلم: "إنه ليس الوجه نفسه، ومع هذا ثمة تشابه ما. اما الآن فإنني لا أعرف حقاً ما الذي سأشعر به حين اشاهد ميشال بوكيه يلعب دور والدي على الشاشة".