قبل ان تبحث الناقدة اللبنانية يسرى مقدم في ما أنجزته المرأة - الكاتبة أو أضافته او جهرت به من خصوصية، تعلن موقفاً من الرجل - القارئ منذ الصفحة الاولى. تجزم، بأن"هذا الرجل" يدخل نص المرأة للتلصص على عالم الانثى، وليس ليعرف"من هي المرأة؟"بل ليعلم"اي صنف من النساء هي الكاتبة؟"، وقد يكون من المغالاة القول انه سيحاول تخيل شكلها وعمرها ايضاً. ولكن الا يتلصص الروائي لاختيار شخصياته وعليها، ويحول القارئ متلصصاً بدوره حين يكتب سيرة ذاتية او ما يُستشف انه كذلك ؟ فإن كانت كتابة المرأة لا تنفصل في نظر الرجل عن جسدها، كما تقول المؤلفة، فإن المرأة ايضا عندما"هتكت سترها"واعلنت أنها لم تعد"مدينة محرمة"زعمت ضمن اللعبة ذاتها بأنها تطلع الرجل على دواخل حياتها. ولكن في النهاية أرادت يسرى مقدم شيئاً من السخرية من هذين المنطلقين البعيدين عن الابداع أو تقويمه. تشير المؤلفة في كتابها"مؤنث الرواية"دار الجديد، بيروت 2005 الى أن المرأة - الكاتبة إنما تكتب وهي تفكر في الرجل. فالكتابة عندها هي إما فعل احتجاج عليه - لا يهزه بشيء - او محاولة لمقارعته في مجال اللغة وجرأة السرد أن رسم شخصيات ذكورية"بامتياز"كما سبق ان رسم روائيون ذكور شخصيات نسائية"بامتياز". وفي النتيجة، لا يمكنها ان تدعي انها تكتب لتحقق ذاتها، اذ من شروط هذا التحقق ان تكون هناك ذات فاعلة وان تحبها، وهما ما ينقص المرأة. فالذات الانثوية المكتوبة، في رأي يسرى مقدم، عند الروائيين الذكور كما الاناث هي"مجرد صورة منحولة وبديلة لذات مغيبة ... اقصيت عن ذاتها ... زمن انقلاب السلطة في الاساطير واجتثاث صورة الانثى وأصل الكون"، ولم تفعل المرأة - الكاتبة الا اعادة انتاج هذه الصورة التي رسمتها عبر العصور السلطة الابوية الثقافية والاجتماعية والدينية، من حيث تدري او لا تدري، فلم تعمل على زحزحتها لعرض"صورتها الاخرى"، تلك المفترض انها صورتها. تريد المؤلفة ان تكتب المرأة من خلال جسدها، لكنّ هذا يستدعي ان تقبله اولاً وتتعرف عليه وعلى أحاسيسها، ثم ان تكتب بصدق بعد تحليل علاقتها به ونظرتها الى الانثى عموماً. وتأسف لأن الكتابات النسائية لم تخرج في غالبيتها عن حدود الصراخ حين تكون صادقة او حدود التماهي بالرجل حين تحاول مقارعته لتؤكد المساواة به. تريد لها"نافذة للذات على الذات"تكون فيها صادقة وحاسمة. وتعترف بأن ما فعلته - كتبته حتى الآن هو تقليد لا يؤسس"لوجود و لا لذاكرة"ويدل على"خوف من الحرية وترسيخ للصورة يؤكد تبعية مزمنة تقصي الذات وتبقيها أسيرة للوهم بأن فضاء قولها حر طليق ومعافى". ويُفهم من هذا ان تعود المرأة - الكاتبة الى الذات لتجد الانثى فيها، وتجد نفسها الخبيئة لأنها لُقنت ان تكون الصورة المركبة نفسها، منذ الصغر. أنت ترى نفسك بنسبة كبيرة كما يراك الآخرون. يرونك جميلاً فتحس بالجمال يرونك بشعاً فتحس بالبشاعة يرونك مشوها فتحس بالتشويه، ولعل هذا ما تشعر به الفتاة منذ الصغر، إنها انثى لأنهم يرونها انثى. الجسد اذاً اساس التعاطي بين المرأة والمجتمع قبل ان يصير منطلق الكتابة عندها سواء قمعته وكرهته مجربة مجاراة الرجال في الفكر، أو أطلقته تحدياً فوقعت في صورة الغواية التقليدية. فكلا الحالين محاولة للتحرر لا من اسر الجسد تحديداً بل من أسرها في الجسد عبر العصور، سواء أخفته أم أبرزته. الجسد إشكالية عند المرأة لأنه يشار إليها به والمطلوب منها في المظهر الكثير، لا لتستعمله هي بل ليستعمله"هو"، وفي حال قررت أن تحرره قد تجد نفسها لا تزال تُستعمل. إشكالية العلاقة بالجسد لا تنفصل عن النفس وتترك أثراً أعمق كلما ابتعد الإنسان عن اعتبار جسده"أداة". والحرية منبعها الداخل لا الخارج.من منطلق معرفة الذات هذه، تميل يسرى مقدم الى الدعوة الى"ثنائية جنسوية لا مكان فيها للشبهة او الالتباس، تضفي بتنوع خصوصياتها واختلافاتها، القيمة على الوحدة الابداعية"لأن من غير المعقول ان يستمر"نصف البشر يعبر عن نصفه الآخر"، فيما النصف الآخر لم يتوصل الى التعبير من ذاته لأن الذات غائبة. ولن تنسب الى المرأة - الكاتبة إبداعاً لأنها تبقى في نظرها"منكتبة لا كاتبة"، وتستشهد بالكاتبة هدى بركات التي سئلت عما حملها على كتابة روايتها"أهل الهوى"بلسان مذكر، فقالت:"كيف لمكفوفات عن الفعل ان يكتبن أفعالهن؟". أريد أن أسلم مع المؤلفة بأن المرأة مطالبة بأدب أصيل نابع من الذات حين تقارب الشخصيات النسائية في كتاباتها، ولكن اسأل عن معنى ان تدور معظم الكتابات حول الذات، فتصبح الروائيات اشبه بجمعية نسائية او يحس القارئ بالتكرار والروائية أيضاً. اختيار الكاتبة إلهام منصور ان تحلل وتحكي في كتابها"حين كنت رجلاً"كيف رفضت أنوثتها قبل ان تتصالح معها في مرحلة متقدمة من العمر، أنموذج لكتابة حرة، ولكن هناك اعتبارات عدة تحكم الإقبال على التعبير الفني او الادبي، وقد أقرت يسرى مقدم بأن الكتابة هي أيضاً ما لم يُكتب، لذا قد تذهب المرأة - الكاتبة مذاهب تنكرها عليها مثل الاهتمام بالتجديد في الشكل أو غرابة الموضوع، حتى لو كان مردوده المعنوي عليها آنياً، بدل الانصراف الى رسم صورة جديدة أصيلة للمرأة. التطور حركة بطيئة، وقياساً على حداثة دخول المرأة مجال الكتابة، لا بد لها من التقليد، لذا أحبذ ان تبقى المرأة في"حقل تجربتها"في الشكل الذي تراه ومن المنطلق الذي تراه، فما يسقطه الوقت من نتاجها يسقط وما يبقي عليه يبقى تماماً كالرجل. قد يجرنا هذا الى التذكر بأن الرجل هو الذي يختار الغث من السمين في هذه العملية أيضاً، والثنائية الجنسوية حكمت الآراء في شأن الابداع ومفرداته. وجرت التصنيفات على نسبة الجيد الى الفحولة حتى لو كانت قائلته امرأة، كما قيل عن الخنساء مثلاً، ونسبة الجانب المؤثر أو الذي يشوبه ضعف الى الانوثة، وهذا ما لم تفلت منه الفنون الاخرى التي لم تأخذ حيزاً كبيراً عند العرب، كالفن التشكيلي مثلاً، الذي طبقت عليه المفاهيم عينها والمفردات نفسها. وأنا أعجب الآن كيف افلتت نساء عدة في النحت من المحاصرة تحت اعتبارات شتى، وعلى اساس ان النحت فن ذكوري بامتياز، فنلن صدارة في العالم اليوم وما كان ليُحسب لهن هذا الحساب، ومع هذا لم يصر الى تقسيم النحت الى انوثي وذكوري بعد. الوقت كفيل باسقاط هذه المقولات التي يبدو ان العربية، كلغة ذكورية بمفرداتها وأوصافها حين تتناول المرأة، تعمق الثنائية فيها وتؤكد عليها، مما أوحى للمؤلفة بحاجة المرأة الى تطوير أداة التعبير التي هي اللغة لتتوصل الى لغتها التعبيرية الخاصة، على رغم الضوابط الشديدة على هذه اللغة تحديداً. ونعود الى إلهام منصور التي استحدثت لفظة"أنسى"بدلاً من أنثى لتصف الشكل الذي تحمله بطلة روايتها مع تماهيها بالرجال انكاراً لتلك الانوثة. ولكن حين قرأت هذه المفردة في مقال لها في إحدى الجرائد من دون حصرها في مزدوجين ظننتها خطأ لغويا قبل ان ادرك بعد برهة انها محاولة تعميم بنقلها من حيز الخاص - الرواية الى حيز العام - المقال. شخصياً قربت هذه المفردة من كلمة أنسي اي بشري التي تلغي الثنائية الجنسوية فيما اللفظة الاولى تريد ان تفيد معنى الالتباس بدمج الجنسين. ان اقصاء المرأة عن تكوين اللغة، قد يوصل الى حيل لغوية شتى لتخطيه واضفاء خصوصيتها على خطابها، وممن قاربت المؤلفة كتاباتهن لتقارن بينها وبين طروحاتها بأمثلة عدة: نوال سعداوي وإلهام منصور وعلوية صبح ورشا الأمير وحنان الشيخ وأحلام مستغانمي وصباح زوين، وأشارت الى محاولات لغوية عند كل منهن لإحداث نقلة ما. تشبّه يسرى مقدم المرأة - الكاتبة الآن، بطور المرأة بحسب الاسطورة عندما اكتشف الرجل أن خصبها منه لا منها فأزاحها، وأقصيت تماماً عن فعل الابداع الى الدونية. ولذا تسأل سؤالاً"أنثوياً بامتياز"أقرب الى حلم او دعوة طوباوية للتكامل لا للصراع فتقول:" متى نتخفف من طغيان الاسطورة ونصير أجساداً حرة كاملة وغير منقوصة ليس اختلافها سوى مجرد نقاب وهمي يحجب عن اعيننا اتحاد كينونتين سويتين ومستقلتين تتكاملان في وجود واحد".