الكثير من الأفكار التي تطرحها يسرى مُقدّم في كتابها " الحريم اللغوي" شركة المطبوعات والتوزيع، وردت في كتب شتى عربية وغربية، فهي تهتدي شأنها شأن كل باحث، بمكتبة النقد النسوي التي تصدّت إلى موضوع اللغة وإقصاء المرأة منذ ما قارب النصف قرن. بيد أن لغة المؤلفة تمنح النص نضارة وتضفي عليه تألقا، كما لو ان بمقدور تلك اللغة أن تكون بؤرة التحليل وبرهان الاختلاف الذي تتحدث عنه المؤلفة في مبحثها. فاللغة التي تلعب بها مُقدّم وتحاورها وتناورها، هي الاستعارة الكبرى لموضوعها، ذاك أن اللغة " بيت الفكر" كما تقول، فإن كان لنا أن نمسك بما جعل المذكر في اللغة العربية يتقدم على المؤنث، ويغدو المؤنث ملحقا، حسب ما جاء في كتب الفقه والنحو العربي، فلا ضير من أن نجد في لغة مُقدّم نفسها حجة على دحض تلك المُسلِمات، لا بما تشتمل عليه من أفكار فحسب، بل بما تقدمه كنص متميز، يجعل اللغة طوع بنان مؤلفتها، بل ملعبا رحبا لتوليد التجارب التي تتشكل في اللغة ذاتها باعتبارها وعياً بالتمايز. الكلمات كما ترى المؤلفة " لغزا يفك سرَّنا، كأنها عيناً عارفة ترصدنا وترى منا ما لا نعرف له اسماً إلاّ متى قالته الكلمات. ويأتينا اليقين بأن لنا بيننا وبينها صلة تواصل ووصال، فنعرف أن اللغة ليست مجرد وعاء، ولا كلماتها مجرد رموز اعتباطية تمثّل الأشياء، بل اللغة نداء الأشياء، ووجود كليٌّ خلاّق ينبض بنا ويحتوينا" هذا الافتتان باللغة ربما كان أحد مسببات التكرار الذي يصاحب عادة الكتابة المولّدة لعالم خاص بها، حيث تبدو بعض المقولات وكأنها تدور حول موضوعها، وتشتت قارئها. بيد ان من يطالع الكتاب يستطيع فك الترابط بين مبحثه الفكري والسوسيولجي والنفسي والفقهي. المدخل الذي تسأل فيه المؤلفة اللغة العربية عن الذي ورطّها وأواقعها في شرك لغوي يستبد بها مرة، وبالمؤنث مرات، هو ذاته الذي ترى فيه ما يختزلها ويخرج النوع الانساني من دائرة الاكتمال" فاللغة أول من أوحى للإنسان بالاختلاف، حيث يدرك ثمة آخر يشير إلى الأنا المختلفة لتراه وتراى أناها، قبل أن يعبرا إلى النطق بكل الضمائر".على هذا تورد المؤلفة بينات وشواهد يثبتها التداخل المضمر لفعل الإقصاء ما بين فتاوى الفقه الاجتماعي والفلسفي واللغوي، بالتواطؤ مع فقه ديني افترض لنفسه سلطة تفسير النص، على غير كلام النص.أي أن المؤلفة تمسك الحبل من منتصفه، على خلاف المنظّرات الغربيات اللواتي وجدن العلة في رسم خارطة التمايز في منبع النص المقدس نفسه، فالمؤلفة ترى في النص القرآني ما يساعدها على إثبات حجة المساواة لا دحضها، وترمي العلة على المفسرين الذين حاولوا حرف النص عن مسراه بالعودة إلى ما جاء به العهد القديم من أسطورة تجعل المرأة بيت الخطيئة، وخروجها الناقص إلى العالم لم يكن سوى من ضلع آدم المعّوج. لا تسأل المؤلفة العربية التي تعشق، بل نظامها الذي ميز اللفظ تراتبيا، وجعل المذكر هو المركز والأنثى هي الهامش، فهذا النظام " تستوي أحكامه سجناً ابدياً للأنصاف الناقصة (المؤنثة)، وتتعدى مفاعيلها (أي الأحكام) نطاق اللغة، لتوغل في الاجتماع، تقونن معاملاته، وتقيد قيمه وأعرافه ومفاهيمه، وفق ما أفتى به نظام الفوارقية والتفاضل" . ولكي تحفظ اللغة صدقها، ينبغي أن تكون لغة الحياة، بما يخصب الحياة بكامل ثنائياتها، في حين تبقى العربية بيتا للرجل،وما للمرأة فيها من حصة سوى الصمت أو الهذر، فهي منفية عن عالم الكتابة. وحين تعود الكتابة إليها من منفاها تمر بالقاع الأعمق للاوعي الذي يحتضن الرغبة المستحيلة ويختزن اللغة المؤنثة. وعملية استرجاع المرأة لصوتها، ليست على هذه الدرجة من السهولة، فهي تمر بمصفاة لغة السيد. اي ان اللغة المبدعة، العادلة، الجامعة بطبيعتها،تحجب عن الأنثى، لتكون لها لغة وعوالم من تلك التي صنعها الرجال. ترفض مُقدّم أن تكون للنص أنثوية تقف مقابل النص الرجولي، أو نص الرجل الفحل، على ما جاء في كتاب عبدالله الغذامي "المرأة واللغة" حيث ترى في دعوة الغذامي إلى تأسيس قيمة أنثوية إبداعية تضارع الفحولة وتنافسها، أقرب إلى التهويل منها إلى الترغيب.ذاك " أن لبعض الكلمات / المصطلحات ما يكفي من أسباب الاشتباه الداعية إلى الكف عن ترويجها والتداول بها، لا جحوداً بالتراث ولا استحياءً بقيمه، بل سعياً إلى تطويره إنسانياً ومعرفياً وحضارياً، باستحداث مصطلحات حديثة تُغني المعجم اللغوي بما يعكس صورة الحاضر المتحول" فكيف للغة أن تتأنث؟ تسأل مقدّم،فتجد في اختزال الإبداع الأنثوي إلى لغة ترطن بتعبيرات الجسد اللّين، السهل، السلبي والناقص، أشبه بالمفارقة في الدعوة إلى تحريرها . وتورد ما كتبه الباحث المغربي سعيد بنكراد ما يعادل مقولة فرويد (الأنثى في الأصل ذكر ناقص) أو ما سمي بعقدة القضيب. فسعيد بنكراد في وقوفه عند ما تكتبه بعض الروائيات العربيات، يرى " ان الساردة تحاول الذهاب إلى الحدود القصوى في استعراض حسّية الجسد الأنثوي المتماهي بالذكر المتفوق، لتعيد رسم حدود الفعل الأنثوي ضمن وضعيات تمتشق فيها الأنثى سيف الفحولة لتفعل في جسدها ما تشاء" . ليس للمرأة إذن من فعل إبداعي سوى المحاكاة.ولهذا تخرج المؤلفة بتقرير ترى فيه استحالة تأنيث اللغة" ما لم تواكب هذا الفعل تحولات جذرية تطاول النظم والمنظومات والمفاهيم والمقولات الذكورية المهيمنة على مختلف المستويات اللغوية والاجتماعية والفقهية والمعرفية والعلمية البيولوجية منها على وجه الخصوص" تتبنى المؤلفة حلاً لمحنة الكتابة النسوية حين تقول " جل ما يستطيعه المؤنث حيال اللغة، اعتماد استراتيجية ذكية ومراوغة تستغل الفارق القائم ما بين صلابة أرض اللغة اللامحدودة، وأدوات النظام الذي يحرسها بسياج القواعد والأحكام والأعراف. وهي أدوات محدودة ومحددة، وصلابتها غير ثابتة او مؤكدة بما يتيح اللعب عليها" وهذا اقتراح تستخلصه المؤلفة الأصلية من المفكرة النسوية الأميركية سوزان هيكمان.وسيعترض الغذامي على استخدام تعبير " يستطيعه المؤنث" وستدخل الكاتبات في محنة جديدة في تعريف كتابتهن.