ظلت الثقافة على مدى قرون حكراً على الرجل. وظل التاريخ مروياً بلسانه، واللغة فحولة وكذلك الابداع، وعاشت المرأة منفية عن التاريخ والثقافة. نفاها الرجل بثقافته المتوارثة وبسيطرته على اللغة، وحرمها من حقوقها الإنسانية في التعبير والكتابة. وتصدى الفحول من الرجال مؤكدين على اختلاف المرأة عن الرجل عقلاً، مثلما اختلفت عنه جسداً وشكلاً. وأظهرت كتابات سقراط وأفلاطون وداروين وشوبنهادر ونيتشه والمعري والعقاد أن اختلاف المرأة عن الرجل يجعلها رجلاً ناقصاً، لأنها لا تملك أداة الذكورة - كما يقول فرويد - ويجعلها مليكة الخطايا ومنبع الشرور. هكذا حكم على المرأة منذ القديم بأنها مخلوق ناقص العقل لا يرقى إلى المستوى الفكري الذي يؤهله للحكم السليم، ومن ثم للابداع. وأصدرت محكمة القيم الرجولية حكمها بمصادرة عقل المرأة وإحساساتها الفنية فمنعت من الابداع والكتابة. غابت الانوثة عن التاريخ، لأنها غابت عن اللغة وعن كتابة الثقافة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل تمتلك المرأة القدرة على تأنيث اللغة، أو أنسنتها لتكون للجنسين معاً، أم أن الفحولة بلغت من اللغة مبلغاً لا سبيل إلى مدافعته؟ هذا السؤال هو لب الدراسة التي يقدمها الدكتور عبدالله الغذامي في كتابه "المرأة واللغة"، صادر عن المركز الثقافي العربي وهو كتاب يقع في جزئين، وعلى رغم ان الدراسة لا تعول كثيراً على الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي لا يستقيم تقويم الظواهر من دون أخذها في الاعتبار، وعلى رغم إهمالها في أحيان كثيرة الظروف التاريخية وغياب فكرة العدالة الاجتماعية والمفاهيم الديموقراطية في ظل هيمنة الاستبداد والطغيان مما يخلق مناخاً لا يسمح بازدهار حقيقي للحرية والابداع، على رغم هذا كله، فإن هذه الدراسة تحفل بمظاهر نفي المرأة عن مجال اللغة، بل وتجريم مشاركتها في هذا الحقل الابداعي الذي أصبح رجولياً محضاً. والدراسة تقف منذ البداية في صف المرأة، وحقها الإنساني في التعبير والكتابة، وهي تفضح الكتابات الرجولية التي ترى في المرأة جسداً وشهوة ووسيلة للإثارة، وتحرمها حقها في العقل والتفكير وفي خلق لغتها الخاصة بها في التعبير، مؤكدة بذلك - أي الدراسة - تبنيها للاتجاه التنويري الذي يؤمن بحق المرأة في أن تتبوأ مكانها الذي حرمت منه منذ قرون. وفي مشاركتها الايجابية مع الرجل في خلق منظومة الفكر الإنساني المتجدد على الدوام. يقع الجزء الأول من هذه الدراسة "المرأة واللغة" في ثمانية فصول، يتناول الفصل الأول مفهوم "التذكير في اللغة"، فهل الأصل للتذكير؟ يقول ابن جني في كتابه "الخصائص" إن "تذكير المؤنث واسع جداً لأنه رد إلى الأصل"، هذا جزء من الاستلاب وبخس الحقوق. واستلاب أنوثة اللغة بتذكيرها وردها إلى أصل مفترض، وتحويلها من جوهر وذات إلى مجموعة صفات. واللغة لا تكتفي بذلك فقط، بل هي ترسم حدود منطقة لا يسمح للمرأة بالاقتراب منها وهي المنطقة المحرمة الخاصة بالمذكر العاقل فحسب، منطقة "جمع المذكر السالم" التي يشترط فيها أن تتكون من علم مذكر عاقل خالٍ من تاء التأنيث الزائدة. وهي شروط مشددة تحصن الذكورة من شوائب التأنيث والحيوانية. وحينما يشترط ان يكون "عاقلاً" فهو إحالة إلى معنى حساس مفاده ان المراد بالعاقل أن يكون من جنس عاقل كالآدميين والملائكة، لا أن يكون عاقلاً بالفعل، فيشمل المجنون والطفل الصغير، وقد يجمع غير العاقل تنزيلاً له منزلة العاقل إذا صدر منه أمر لا يكون إلا من العقلاء فيكون جمع مذكر. هنا يحق للمجنون والطفل وكذا الحيوان الذكي أن يدخل إلى قلعة "المذكر السالم"، أما الأنثى فلا يجوز لها الاقتراب من هذا الحق الذكوري الخالص. بل إن جمع المؤنث السالم ليس مملكة نسوية خالصة، فإن كثيراً من النحاة الأقدمين يفضلون تسميته: الجمع بألف وتاء مزيدتين، من دون تسميته بجمع المؤنث السالم، لأن مفرده قد يكون مذكراً. هكذا يسحب مصطلح الانوثة عن هذا الجمع ويأتي التذكير من داخل التأنيث لكي يُحرّف وجه اللغة عن الانوثة ويحيلها إلى الذكورة. وتجيء علامة التأنيث وكأنها إشارة حمراء تسم المؤنث بشروط الاقصاء والنفي كما في التقاليد الأوروبية حيث يضعون على المرأة الحائض علامة حمراء لكي يتجنبها الرجال وينأون عن دنسها، فيحفظون للذكورة سلامتها لأنها جمع سالم! بل إن ضمير اللغة يظل في معظم كتابات المرأة ضميراً مذكراً، فهي تتحدث عن ضمير مذكر وتحيل إلى غائب مذكر. قانعة بكونها فرعاً وليست أصلاً. وها هي الشاعرة نازك الملائكة تعترض على عنوان قصيدة "هي وهو: صفحات من حب" لعلي محمود طه قائلة: "الترتيب العربي أن يقول هو وهي، لأن التقديم عندنا لضمير المذكر وما من ضرورة لتغيير هذا الاسلوب". التذكير - إذن - هو الأصل وهو الأكثر، ومن هنا فإن الفصاحة ترتبط بالتذكير فتقول عن المرأة إنها زوج فلان وليست زوجة فلان، ان كنت تتحرى الفصاحة والأصالة. وإن كانت المرأة العربية تدخل مملكة الفصاحة إذا تخلت عن تاء التأنيث - كما في كلمة زوج - فإن المرأة الغربية لا تكون زوجة إلا إذا تنازلت عن اسمها وعلامة وجودها وتكللت باسم زوجها لكي تكون جزءاً من ممتلكاته المسجلة باسمه والمتحركة تحت مظلته ولا يصبح لها وجود إلا داخل مصطلح الفحولة، فهي مجرد إضافة لفظية للرجل wo-man. وخروج المرأة من اللغة لم يكن مجرد حادثة فنية، بل هو تحول حضاري في الفكر اللغوي وفي الثقافة الإنسانية، ابتدأ ذلك بتغليب "الذهني" على "الحسي" وانتهى بأن أصبحت المرأة خارج اللعبة وتحولت بذلك إلى "موضوع" ثقافي، ولم تعد "ذاتاً" ثقافية أو لغوية وراح الرجل يرسم لها صورة تواترت عليها الأزمنة وترسخت، صورة تضخم الجانب الحسي فيها وتحولها إلى مجرد جسد شبقي ليس له من وظيفة سوى إثارة الرجل واغرائه. وأصبحت المرأة جميلة لسبب واحد هو ان تسعد بها عيون الرجال، كما تسعد بالنظر إلى الفاكهة، كما يقول العقاد. أو تصبح حقاً مملوكاً للرجل يرهنها ويبيعها حسب شريعة ذلك القانوني الفحل حمورابي! وتتواتر هذه الصور للمرأة ثقافياً وحضارياً لتزداد رسوخاً مع الزمن حيث تقدم لنا الحضارة المعاصرة المرأة كأنها جسد فحسب، من خلال الفن الحديث وفي الدعاية والنحت والسينما، فتتفنن النظرة الرأسمالية في رسم المرأة على أنها بضاعة جسدية. هكذا حرمت المرأة من العقل والتفكير، وأصبحت بالتالي ناقصة، عاجزة تحتاج إلى وصي يتولى أمرها وينوب عنها في الافصاح. من هنا تكلم الرجل، وخص نفسه بالكتابة وترك للمرأة صفاتها الفطرية والتلقائية. ترك لها "الحكي" لكي تكون الكتابة رجلاً، والحكي انثى. ولكن الانثى لم تقنع بهذا الدور الهامشي. إنها تريد أن تتحول من موضوع إلى ذات تريد أن تقدم خطابها الانثوي وتدونه. من هنا جاء الفصل الثاني من الكتاب في عنوان "تدوين الانثى". ويناقش هذا الفصل شهرزاد بطلة "ألف ليلة وليلة" التي لم تكن تحكي وتتكلم، أي تؤلف فحسب، ولكنها كانت تواجه الرجل، وتواجه الموت معه، وتدافع عن قيمتها الاخلاقية والمعنوية. كانت شهرزاد تمارس على الرجل سلطة اللغة وسلطان النص. جاءت شهرزاد وقبلت التحدي، قاومت الرجل بسلاحه، سلاح اللغة، فحولته إلى مستمع وهي مبدعة، وأدخلته في لعبة المجاز، وشبكته في نص مفتوح، نص تقوم الحبكة فيه على الانتشار والتداخل والتبدل والتنوع. وتاه الرجل في هذا السحر الجديد. وعلى رغم نجاح شهرزاد في ترويض الرجل لمدة ألف يوم ويوم، وهي مدة تعادل الزمن الطبيعي لفترة الحمل والرضاعة، وادخالها الرجل البالغ المتوحش في رحم مجازي وفي حضانة مجازية، وجعله يعتمد عليها في رضاعة ليلية يتطلع إليها وينتظرها، حتى تنتهي الليالي باقترانها بالرجل وإنجابها أطفالاً ثلاثة منه، وعودتها إلى مجتمع الجواري من جديد على رغم هذه النقلة في دور المرأة الابداعي في استخدام الحكي، وتوظيف اللغة، إلا أن هناك الكثير من الأسئلة التي ما زالت معلقة من دون إجابات: من صاحب هذا النص؟ من مؤلفه؟ هل كانت شهرزاد مجرد شخصية روائية من صنع رجل تخيل النص وكتبه؟ هل كانت مجرد ضيف أنيق حلّ على النص، أم أنها صاحبة الدار ووالدة الجنين؟ يذهب الغذامي إلى أن الليالي نص نسائي خالص. هي مرافعة نسائية من أجل النساء، ودفاع عن جنس بشري ومحافظة على بقائه جسدياً وسلامته معنوياً وثقافياً. وهو - كما يرى - نص يلد وينتج، وبناء عليه فهو نص انثوي بالضرورة، ومن علامات انثوية النص حدوثه في الليل، واستتاره عن النهار، تماماً كما لو كان النص جارية عذراء تنطلق تحت غطاء الظلام إلى أين؟ وتنكمش مع ظهور الضياء. وعلى رغم طرافة هذا التحليل، إلا أنه لا يرقى إلى مستوى الحقائق الموضوعية والأدلة العلمية. والأقرب إلى المنطق أن نعتبر النص مشاعاً تواترت عليه الروايات، أضيف إليه أو حذف منه وتلاعبت أصابع عدة في السرد والوصف، فامتلأ بهذه القصص التي تشوه نموذج المرأة، وتغالي في شبقية جسدها، وتحاول مسح انوثتها بل وتؤكد كما أكدت دائماً على ان المرأة مجال خصب للتسلية في المخدع أو هي تدون ثقافتها الخاصة. * * * من بين حكايات "ألف ليلة وليلة" يقع اختيار الغذامي على حكاية الجارية "تودد" ويجعلها موضوعاً للفصل الثالث من الكتاب "الجسد بوصفه قيمة ثقافية" فمن هي تودد وما علاقتها بالثقافة؟ تودد جارية اكتملت لها كل مواصفات الجمال وهي الى جانب ذلك ذات عقل راجح لا يباريها فيه احد اكتمالاً وتوقداً ومعرفة. سيدها رجل سفيه، يبذر ميراثه ويصل الى درجة الافلاس. وقيم ثلاثة ايام لم يذق فيها طعم طعام ولم يسترح في منام. والجارية المخلصة تمزقها محنة سيدها فتطلب منه ان يبيعها الى امير المؤمنين هارون الرشيد نظير عشرة آلاف دينار وتلحّ الجارية على سيدها الا يتنازل عن هذا المبلغ لأنه قليل في مثلها. ويتعجب الخليفة من ارتفاع سعر الجارية. ولكن تودد تطلب من الخليفة ان تدخل في مناظرة مع الراسخين في العلم من علماء الخلافة، ويتقدمون اليها فتهزمهم جميعاً، فقهاء وفلاسفة وعلماء، ويطلب الخليفة ان تتمنى عليه فتطلب العودة الى سيدها، فيحقق لها الخليفة رغبتها ويعطي سيدها مئة ألف دينار ويجعله نديماً له. ها هي تودد الجارية الوحيدة التي لا سند لها أسرياً او اجتماعياً المعروضة للبيع، الصغيرة السن في مواجهة الدولة كلها بسلطانها السياسي والمالي والحضاري. مواجهة غير متكافئة ولكن تودد تجتازها بنجاح لا نظير له تعجز الفحولة مجتمعة عن لجم العقل الانثوي، والدهاء الصغير الانيق، تحرجهم بمنطقها وثقافتها ودرايتها الواسعة بأمور الحياة: "كيف تأتى لها ذلك على رغم صغر سنّها"؟ وهي تمتلك مهارات استثنائية لا يمكلها الراسخون من رجال الخلافة، توظف الضحك ومعابثه السائل والسؤال، مثلما توظف الصمت والاطراق بوقار الرجال المصطنع.