"كنت أشعر بالغربة وأنا لا أجد من أكلمها، وابني كان في تصرفاته لا يشبه أبداً هؤلاء الأولاد"المجلوقين"، فصرنا نأتي أنا وابنة خالتي مع أولادنا، صارت لي رفيقة، فالخادمات الأجنبيات هنا لا يكلمن اللبنانيات. على أي حال لا يوجد حديث يجمعنا بهن وهن يأنسن بلقاءاتهن". كانت الشابة تتحدث عن تلك الزيارات التي تقوم بها برفقة وحيدها إلى مركز لتسلية الأطفال، هي مهندسة تعمل خمسة أيام في الأسبوع وتقول إنها تسترق اللحظات التي تمضيها مع ابنها. هناك في مركز التسلية الذي تقصده في أيام العطلة الأسبوعية، تفاجأ بأمهات يوصلن أولادهن والخادمات ويذهبن لساعات ثم يعدن محملات بحصيلة نهار من ال"شوبنغ". وفي مركز التسلية، كانت المهندسة تراقب العلاقة المنسوجة بين الخادمة والطفل، يركض إليها ويلعب في حضنها ويقبلها بالطريقة ذاتها التي يتصرف فيها ابنها معها. اعتقدت بداية أنها تخطئ في الحكم على هذه الحال، لكنّ المشهد صدم ابنة خالتها أيضاً وهي كانت أكثر تطرفاً في حكمها فاحتضنت ابنتها بشدة وهمست في أذن قريبتها:"أشعر برغبة في لكم أمهاتهم المتلهيات عنهم". لا يخفى على من يراقب هذا المشهد كما تقول المهندسة أن كل خادمة تحب الطفل الذي تهتم به، لكنّ تعلّق الأطفال بهن هو ما يبدو أمراً غير طبيعي، كأنهن أمهاتهم الحقيقيات، ثم تتذكر أن الخادمة صارت هي من يخصّص وقته للطفل بدل أن تقوم بوظيفتها كمعاونة لسيدة البيت في متابعة أمور المنزل. عندما تبدأ العروض البهلوانية أو المسرحية تشعر الخادمات بنسمة حرية، يتلهى الأطفال بالعرض وتنقسم الخادمات إلى مجموعات بحسب جنسياتهن، ينصرفن إلى لحظات يسترقنها من أجل متعة التحدث بلغتهن وبهمومهن وبحنين كل منهن إلى قريتها وأهلها وثقافتها، فتعلو الأصوات وتتداخل الأحاديث ويصير من المستحيل متابعة العرض. لا تحب الشابتان اللبنانياتان أن يتشبه أولادهما بهؤلاء الأطفال. تقولان إنهم يبدون غير مهذبين، لا ممنوع في تصرفاتهم... كل شيء بالنسبة اليهم مباح. وتتعجب المهندسة كيف تترك المرأة ولدها في أوقات العطلة، وتتذكر صديقة لها كانت في السنة الجامعية الأولى عندما حمل ابنها هدية كبيرة في عيد الأمهات وقدمها للخادمة ونسي أن يشتري شيئاً لوالدته... تنظر الى الأولاد وتعاودها الأسئلة: التبضع أمر ضروري كل أسبوع بينما هي تعشق أيام العطلة لأنها تمضيها مع ابنها، ويزداد اشمئزازها وهي ترى الأمهات يعدن محملات بالأكياس ليصطحبن الأولاد فتطبع السيدة قبلة سريعة على خد ابنها ثم تستدير وتمشي ومعها أغراضها وخلفها الخادمة تحمل الطفل. وتتساءل ألا يستحق الطفل غمرة، أليس كما كل الصغار الذين يتشبهون بالعصافير العائدة الى عش أمهات ينتظرهم. المعالجة النفسية ندين غاريوس انتقدت هذا المشهد الذي يتكرر في حياتنا. قالت إنه لا يجوز أن تكون الخادمة أو أي امرأة أخرى بديلاً للأم. وأضافت:"مهما كان عمل الأم مضنياً، عليها أن تجد الوقت الذي تخصصه لأولادها. فكي ينمو الولد في شكل سليم، يجب أن يشاركه الأهل نشاطات ترفيهية وفكرية يقوم بها. وليس من الضروري أبداً أن تتم هذه النشاطات في أرقى النوادي. المهم أن يشارك الأهل الطفل في النشاطات التي تنمّي خياله، لكننا نرى آباء وأمهات يؤمّنون لأولادهم أدوات العيش ولا يعطونهم الاهتمام أو العاطفة اللازمة". وتحدثت غاريوس عن أطفال تعالجهم من حالات اكتئاب بعد سفر الخادمات. وتقول إنهم يشعرون بفقدان الأم، وتتنوع تجليات هذا الاكتئاب بين الامتناع عن الأكل أو العودة الى ممارسات طفولية جداً أو عدم القدرة على السيطرة على التبول. لا تقتصر أضرار هذا السلوك من بعض الأمهات على مرحلة الطفولة، إنما تمتد تأثيراتها السلبية الى مرحلة الرشد وتتنوع تجلياتها بين شخص وآخر. لكن القاسم المشترك بينها هو تلك العلاقة غير السليمة التي تبنى بين المرء ووالديه كل حياته.