ينطلق عدنان ابو عودة من قصة شخصية: فهو،الفلسطيني الصادر عن خلفية عمالية، وجد نفسه يكلّف في 1970 مهام وزارة الاعلام في الحكومة العسكرية الأردنية، "من اجل استعادة الأمن والنظام الى البلد". وخلال عمله تعرض لمحاولتي اغتيال ومحاولة خطف كانت خيوطها موصولة بمنظمة التحرير. ثم سُمي مراراً لمناصب رفيعة، ما لم ينفصل عن قناعته بضرورة انجاح التعايش في الأردن، والتصدي لحركات التطرف التي بلغت ذروتها في 1970. مع هذا بدأ ابو عودة مطالع التسعينات يتحسس لدى بعض الشرق اردنيين مزاجاً بالغ التشدد في انعزاليته وعدائه للفلسطينيين، بمن فيهم هو. ومن هذه المعاناة الشخصية والفكرية والمعاناة الفكرية سلعة نادرة عند العرب المهتمين بالشأن العام، طلع كتابه "الاردنيونوالفلسطينيون والمملكة الهاشمية في عملية سلام الشرق الاوسط" المعهد الأميركي للسلام. وككل عمل حاول استنطاق الأصول، عاد الكاتب الى جذور هذا التحول من ضمن مناخه الأوسع في علاقات المثلث الأردني - الفلسطيني - الاسرائيلي. وفي النهاية احتوت دفتا كتابه ما يمكن اعتباره حلاً أمثل لأزمة العلاقات المذكورة، بل لأزمة المنطقة تالياً. وحين يقال "حل أمثل" يُقصد ان الكثير من عناصره بعيد عن التحقّق الآن. غير انه اقتراح نبيل للمستقبل يصدر عن الجانب العربي، وهو كان صالحاً كي يشكل برنامجاً بعيداً يعبّأ حوله الرأي العام في ما لو كان صانعا القرارين العربيين، السياسي والثقافي، من نوع مختلف، او لو كان لدينا انهماك عميق وحقيقي بالسلام ومشكلاته. والفكرة المركزية لكتاب ابو عودة ان الدينامية الاردنية - الفلسطينية طويلاً ما عملت من داخل سياق التفاعل الثلاثي. وأصول العلاقة الثلاثية هذه والتي تميزت لعقود بالتنافس المشوب بالعنف، يمكن ردها الى الخريطة الكولونيالية بعد الحرب الاولى والتي اثمرت انتداباً بريطانياً غدا الاردنيونوالفلسطينيون والاسرئيليون بفعله اشبه بثلاثة محبوسين في غرفة ليس فيها الا كرسيان، فما الثالث الفلسطينيون من دون كرسي. وفي انتظار ان يحصل على مقعده، سيستمر التفاعل التناحري. فالأردن، على مدى تاريخه كدولة، عانى المشكلة الفلسطينية مباشرةً وداخليا. وقد اتصلت المعاناة بالبعد الانساني كما بالهوية، الا ان تعبيرات العلاقة ومضامينها تغيرت بين فترة واخرى. فحتى 1950، تاريخ توحيد الضفتين، بدا العنصر الفلسطيني خارجياً يتجسد في تعاطف السكان وفي سياسات الأمير فالملك عبدالله وخلافاته مع الحاج امين الحسيني. ومع التوحيد تحول العنصر الفلسطيني داخلياً بل بيتياً، أكان ذلك كواقع ديموغرافي حيث بات الفلسطينيون يعدّون قرابة ثلثي الاردنيين، او كقوة سياسية اذا اضحوا، في الستينات، يضغطون على الحكم كيما يتبع سياسة تجانس السياسة الناصرية. وسجّل انشاء منظمة التحرير في 1964، ما يرقى الى تأسيس حركة وطنية فلسطينية داخل الأردن، وكان من الطبيعي ان يؤول الى انماء العنصر الفلسطيني ونفوذه. فما ان وقعت حرب 1967 وما تلاها من قضم اسرائيل للضفة الغربية، حتى اكتسبت دينامية العلاقة مزيداً من الزخم. فمع ظاهرة "الفدائيين" في 1968 - 1971، شرع العنصر الفلسطيني يؤثر ضدياً في المشهد الداخلي، مُطلقاً نوعاً من القطيعة بين الجماعتين. وجاء التحول السياسي - الحربي هذا مجافياً لوجهة كانت تختمر في واقع العلاقات اليومية: فالشَبَه الثقافي كان سهّل على الشعبين التواصل كشعب واحد. وفعلاً كان مثقفو الجماعتين ينتسبون الى احزاب وقوى بعينها، فيما تعاظمت الزيجات المختلطة وتأسست صلات اجتماعية وثيقة. فالأجيال الاصغر راحت تتبادل اللهجات والعادات، وتحولت عمّان، التي كانت تنمو سكانياً وعمرانياً، مركزاً للودائع كما للعمالة الفلسطينية. وعُيّن موظفون من الغربية للخدمة في الشرقية، والعكس بالعكس. ومع الصدام حصل ما يشبه اخلاء القطاع العام الأردني من الوجود الفلسطيني، فيما ظهر قانون انتخابي يحيل الفلسطينيينالأردنيين عملياً الى اقلية سياسية. وجاءت المحاصرة و/او المقاطعة العربيتان للأردن لتزيد الطين بلّة، وتقنع البعض بأن الكيان والنظام الاردنيين لا يستقران الا على عصبية اردنية بحتة. وهذا مع العلم ان اردنة القطاع العام قُصد بها مكافأة الشرق أردنيين، اكثر مما أريدت كأداة تمييز ضد الفلسطينيينالاردنيين. ومثلما أثّر ذلك على توجهات السياسة والادارة في الداخل، وعلى انتكاس القيم العامة نحو العشائرية والمحسوبيات التجمعية، غدا الموضوع الفلسطيني المحور الدي تدور حوله السياسة الخارجية للأردن. وحتى بعد قرار فك الارتباط في 1988، والذي أدى ظاهرياً الى جعل الحضور الفلسطيني مسألة ديموغراطية محضة، استمر العنصر الفلسطيني يمارس تأثيره على السياسة الخارجية لعمّان، وهو ما يتوقع استمراره الى ان يتم حل مشكلة اللاجئين. وتجسد السبب الأساسي الذي ضمن للأردن النجاة من تهديدات سياسية خطيرة لأمنه ووجوده، في الملك حسين والدور الذي لعبه كرجل دولة غير عادي. وهو عامل لا يليه أهميةً الا الدور الاقليمي للبلد. ف"دور الأردن" احد اكثر المفاهيم تداولاً في الخطاب السياسي الأردني. ومرد هذا الى انه وفّر للسكان طمأنينة في ما خص مستقبل بلدهم، بل ضمانة في شأن الاستمرار، فضلاً عن المعنى. وهذه حاجات يزيد في الالحاح عليها ضعف موارد البلد المحاط بدول وقوى اكبر. وفي مخاطبته البرلمان الأردني في 26 تشرين الاول اكتوبر 1994، مع توقيع معاهدة السلام الأردنية - الاسرائيلية، اقترح الرئيس كلينتون دوراً اقليمياً جديدا للأردن يقوم على استكمال دمج اللاجئين الفلسطينيين فيه. وباستشهاده بالتزام واشنطن حيال عمّان، كان يشير الى الثمار التي سيقطفها الأردن من جراء ادائه هذه الوظيفة. لكن من منظور صعود الوطنية الاردنية، جاءت ردة الفعل بعد 18 شهراً، حين انتخب بنيامين نتانياهو رئيساً لحكومة اسرائيل. وكان برنامج نتانياهو مرآة دقيقة لأفكار ومواقف كان عبّر عنها زعيم ليكود السابق اسحق شامير، رافضاً صيغة الأرض مقابل السلام، والمشاركة في القدس بجعلها عاصمة لكل من اسرائيل وفلسطين، والدولة الفلسطينية. ومثل هذا البرنامج الذي دعا ايضاً الى توسيع المستوطنات اليهودية، كان محكوماً بأن يثير اوسع القلق حيال عملية السلام الناشئة، ليس فقط بين الفلسطينيين بل ايضا بين قطاعات عريضة من الاسرائيليين وسائر العرب. اما الاردنيون، لا سيما أردنيي شرق الاردن، فانتابهم الهلع: ف"اللا للدولة الفلسطينية" عنت لهم ان اسرائيل عادت الى صيغة "الأردن هو فلسطين". وبانتخاب نتانياهو بهذا البرنامج ساد الانطباع بأن الأردن عاد أدراجه الى المربع الاول. مع هذا وُجد فارق واحد يميز خوف هذه المرحلة عن خوف المراحل السابقة، وهو ان في وسع الأردن واسرائيل الآن ان يتحدثا في الأمر مباشرة. وفعلاً تشكل وضع جديد من جراء اندماج عاملين: التوتر الكامن وولادة ديبلوماسية علنية. صحيح ان العامل الاخير ظهر قبل مدريد، الا انه اقتصر على عدد صغير جدا وفي مستويات عليا جداً وبأقنية ضيقة جداً. والآن بات الوضع مختلفاً تماماً. وربما بسبب هذا التضافر بين التوتر الذي ولّده وصول نتانياهو والحوار الذي صار مفتوحاً، انطلق واسعاً النقاش العلني في الأردن حول دوره. لكن في مقابل مساهمة انتخاب نتانياهو في اثارة السجال، عملت معاهدة السلام على رسم مساره. فالوطنيون، بل القوميون، الشرق اردنيين، غدا همهم الاساسي بعد فصل الضفة الغربية عن الاردن، فرز الاردنيين ذوي الاصل الفلسطيني عن الجسم الاردني. وهذا الغرض قابل للانجاز، في رأيهم، باحالة ذوي الاصل الفلسطيني مقيمين غرباء، او بانتظارهم كي يغادروا الى ارض فلسطينية هي اما الدولة الموعودة او اسرائيل بعد اذعانها للقرار 194 الذي يعطي اللاجئين حق العودة او التعويض. ولأن معظم الاردنيين على بيّنة من العلاقة الحميمة بين الدور الاقليمي لبلدهم وبين بقاء الكيان على قيد الحياة، لم يستطع معظمهم تجنب السجال الذي شعر الوطنيون المتطرفون بأن عليهم واجب ريادته. وطوّر هؤلاء الحجة القائلة ان شرق الاردن للشرق اردنيين وان على الفسطينيين العودة الى فلسطين. وهذا يعني في ما يعنيه ان يتخلص الاردن من الاعتماد اولاً واساساً على دور يدور حول غيره، اي حول الفلسطينيين، بل ان يركّز على بناء نفسه كنموذج للديموقراطية والتعليم والاستشفاء في المنطقة. وظهر اتجاه آخر مستمد من نظرة واقعية الى العالم وما يجري فيه. وهذا قوي وشعبي في اوساط النخبة الاردنية الحاكمة والأعرف بديناميات صنع القرار في الخارج، وبتداخلات عالم ما بعد الحرب الباردة، فضلاً عن تقديرها حاجات الاردن وامكاناته. واصحاب الاتجاه هذا اشد براغماتية من انعزاليي الأردن ومن قومييهم العرب على السواء. فبين 1990 حين اهتز دور البلد عميقاً تبعاً لعجزه عن الانضمام الى التحالف ضد صدام، وبين 1994 عند التوصل الى المعاهدة مع اسرائيل، تمنعت النخبة الحاكمة عن صوغ دور اقليمي جديد للاردن. والواقع انها لم تشعر بأن عليها صوغ الدور نظرياً، مفترضة ان معاهدة السلام المؤسسة على مفهوم التكامل في مقابل مفهوم التعادل في السلام المصري - الاسرائيلي كافية للافصاح عن الدور المذكور ووصفه. غير ان انتخاب نتانياهو والخوف منه ما حمل عمان على التحول عن سياسة التعريف الضمني للدور الى سياسة التعبير المفصح عنه. ف"السلام مع اسرائيل"، بحسب رسمي اردني في 1996، "يرتكز على قرار استراتيجي بتطوير مناخ جديد للسلام في المنطقة، قائم على التعاون والتداخل… وعلى الولايات المتحدة ان ترفع مستوى الدعم السياسي والاقتصادي للاردن… فاذا ما نجح الموديل الاردني فانه سيخدم المصالح الاميركية في السلام والامن في المنطقة… والاردن يشغل حالياً موضعاً جيداً يخوّله لعب دور بارز في الجهود المبذولة لانهاء الصراع العربي - الاسرائيلي". والمقصود بالتعريف هذا انهاء كل المخاوف التي يمكن ان تتصاعد بسبب انتخاب نتانياهو، لجهة المدى الذي سيبلغه الاردن في تفعيل معاهدة السلام. فالموقف الاردني حسم بان السلام خيار استراتيجي، وبان في وسع الاردن ان يهضم اللاجئين المقيمين فيه راهناً، شرط ان يلقى المعونات الكفيلة بتنميته ككل. اما بالنسبة الى صراع الاطراف الثلاثة الذين لا يملكون الا كرسيين، فثمة، نظرياً، طريقتان للتغلب على المشكلة: فاما استئصال، او نفي، احد هذه الاطراف، وهذا مستحيل، او توفير مقعد ثالث. وعلى مدى سبعين سنة كانت الطريقة الاولى هي المعتمدة: ففي 1948 حاول العرب تصفية اسرائيل وفشلوا، وبين 1968 و1970 كانت ظاهرة الفدائيين في الاردن بمثابة محاولة لتصفية الاردن لكنها فشلت ايضاً، وطويلاً ما حاولت اسرائيل تصفية الوجود السياسي للفلسطينيين وكان الفشل حليفها. وفي 1950 قارب الملك عبدالله الموضوعغ بطريقة بنّاءة عبر توحيد الضفتين، لكن بقاء غزة في ظل الادارة المصرية ابقاها الفرن المتأجج للمشاعر الوطنية الفلسطينية. وجاء تأسيس منظمة التحرير في 1964 ليشكل ضربة لما كان ابتدأه عبدالله، تتوّجت في قرار قمة الرباط في 1974. وكان لفشل المحاولات التي جرت لتصفية واحد من الثلاثة، او لالحاقه بالاثنين الآخرين، ان ترك الجميع امام خيار لا ثاني له: خلق دولة في الضفة وغزة. وحين نتذكر ان الطائفة اليهودية الصغيرة في فلسطين العشرينات غدت الدولة المزدهرة القوية المعروفة باسرائيل، وان الجماعة القبَلية الاردنية للعشرينات هي الآن دولة، يصير من غير المفهوم او المقبول ان تنتهي الجماعة الفلسطينية الى ما انتهت اليه، علماً انها اكبر المجموعات الثلاث في العشرينات وربما اشدها حساً بالدولة. فأكثر من نصف الفلسطينيين لاجئون. ومع ان الملك حسين اعلن في 1988 قراره القاضي بفك الارتباط مُزيحاً احدى العقبات من طريق حصول الفلسطينيين على دولة، فان اسرائيل لا تزال الطرف المتردد في القيام بواجباته. مع هذا تبقى حقيقة ان اياً من اطراف المثلث لم يستطع طمس الآخرين او الغاءهما. فالوطنية الفلسطينية هي اليوم حقيقة كما الوطنيتان الاردنية والاسرائيلية. والدرس الذي نخرج به من التجربة المأسوية للماضي، هو ان الثلاثة محكومون بعلاقة تكافل وتضامن ينبغي نزع طابعها التنافري واعادة صوغها بما يخدم مصالح اعضائها الفردية والجماعية. فوجود الفلسطينيين في اسرائيل والاردن فضلاً عن اراضي السلطة، واعتماد البلدان الثلاثة على موارد مشتركة، لا سيما المياه، والمسافات القصيرة بين مراكز تجمّع السكان ومدنهم، وبين مراكز الجاذبية السياحية، كل هذه العوامل التي تنتج تنافساً ونزاعاً، يمكنها ان تتحول مصادر لنفع مشترك شريطة ان تريد الشعوب ذلك. ومعاهدة السلام خطوة في الاتجاه الصحيح: فهي عبّرت عن اتجاه الى التداخل الاقتصادي، الا ان تحققه مشروط بعضوية الطرف الثالث على قدم المساواة وكدولة لا ككيان حكم ذاتي. والاستقلال هو الشرط الذي لا بد منه للتداخل ثم التكامل. ولكن لما كان تطوير التداخل يتطلب سلاماً اقليمياً، فمن هنا اهمية السلام الشامل واقامة كوكبة من البنى العابرة للدولة التي تعكس السلام وتصلّبه. فلفترة طويلة سادت بعض الاوساط تكهنات تقول ان الدولة الفلسطينية قد تحمل مخاطر امنية على اسرائيل والاردن، الا انها تكهنات لا تصمد للفحص الدقيق. والحال ان الدولة الفلسطينية عنصر استقرار للدولتين المذكورتين: فعلى مدى خمسين عاماً من الامل والصبر اللذين امتزجا بالنضال والتعرض للسحق، حولت الاكثرية الساحقة من فلسطينيي الدياسبورا هدفها الوطني من تحرير فلسطين الانتدابية الى اقامة دولة في الضفة والقطاع. وبات المطلوب اقامة طن تعبّر فيه الهوية الفلسطينية عن نفسها، ويعيش فيه الفلسطينيون بأمن وكرامة. ويبدو الهدف هذا شبيهاً الى حد بعيد بهدف اليهود قبل اقامة دولة اسرائيل. فمع قيام دولة سيصار الى اشباع التطلب العاطفي للوطنية الفلسطينية، وسوف تعطى اغلبتيهم في الدياسبورا حرية ان تقرر مستقبلها على اسس غير عاطفية. وبالنسبة الى فلسطينيين كثيرين فان العوامل الاقتصادية هي التي ستتحكم بالقرار. ذاك ان فلسطين لن تستطيع توفير حياة افضل من المتوفرة اليوم الا للاجئين في لبنان أساساً، حيث يصعب الحصول على رخص عمل. ويفترض قيام الدولة ان تكون المجموعة الدولية مهيأة للتعامل مع مشكلة اللاجئين والتفكير بحلها بموجب قرار الاممالمتحدة 194. على ان النقص المزمن في المشاركة لا يزال يسم النزاع العربي - الاسرائيلي. فمن جهة رفض الفلسطينيون المشاركة في فلسطين الانتدابية مع الطائفة اليهودية التي خاضت حرب 1948. وعجز العرب عن المشاركة في المنطقة مع الجنسية والدولة اللتين خاضتا حرب 1968. ورفضت اسرائيل ان تعيد للفلسطينيين حصتهم من فلسطين الانتدابية، ما أفضى الى حرب 1967 واجتياح 1982 والكوارث اللاحقة. وبانتصارها الكاسح آنذاك انتقلت اسرائيل من مزاج الطرف المحاصَر، وهو ما كان يحملها على السعي الى تسوية بدأته بمحاولاتها للسلام مع عبدالله اوائل الخمسينات، الى مزاج ظافري وأبهى. وهذا المزاج ما جعل قياداتها تقلل من أهمية قبول مصر بالقرار 242، أي قبول عبدالناصر بجنسية ودولة اخريين وسط المنطقة العربية. فاسرائيل بهذا عجزت عن فهم تحول مصر والأردن الى موقف يقبل بالمشاركة، ما قاد الى حرب 1973. وكان للظافرية، بين أمور أخرى، ان حفّزت لدى بضعة احزاب ومجموعات اسرائيلية ميول التوسع والاستيطان والحاق القدس العربية وضمها. وترتب على هذه النظرة تعامل قطاع من الاسرائيليين مع فلسطينيي الضفة والقطاع على انهم عبء تنبغي ازاحته، ومع منظمة التحرير كعقبة ينبغي القفز فوقها. لقد استغرق الأمر مع مصر والاردن 19 عاماً حتى 1967، ومع سورية 25 حتى 1973، ومع الفلسطينيين 40 حتى 1988، كي يقبلو بمبدأ المشاركة. وبدورها فاسرائيل استلزمها الأمر 25 عاماً لكي تتيهأ لتعديل موقفها. وعلى العموم خيضت خمس حروب لتغيير مواقع الأطراف المعنية. غير ان السلام يعني ايضاً ازاحة العوائق بين الشعوب والدول. وفي الأردن اعترف حسين باهمية المشاركة والتعددية لاحلال التناغم في المنطقة. لكن لسوء الحظ ترافق مقتل رابين مع تعاظم العوائق التي لم تبلغ الحد الذي يثير استقطاباً ونزاعاً وان بلغت ما يكفي لاثارة القلق على السلام. فهناك قرابة مليوني فلسطيني أصبحوا اردنيين مع توحيد الضفتين في 1950. وبموجب الاعتبارات السياسية والاقتصادية الطاغية فان قلة من الفلسطينيينالاردنيين مرشحون للتخلي عن جنسيتهم الاردنية واقامتهم في الاردن مع اعلان الدولة. وبمنحهم الجنسية في 1950 قطع الاردن نصف الطريق نحو استيعابهم، مع ان ممثليهم مضوا علناً في ابداء الرفض للتوطين. والرفض، خصوصاً في العقد الأخير، غدا أقرب الى التوكيد على حقوق اللاجئين منه الى الرفض الصادق للتوطين الدائم. لكن الاندماج لن يحصل الا حين تظهر ثمار السلام الفلسطيني - الاسرائيلي، أي حين يتم التوصل الى اتفاق حول الوضع النهائي واقامة الدولة ومسألة اللاجئين، والأخيرون في الاردن مهتمون بالحصول على التعويض أساساً. ولهذا فالنصف الثاني من عملية الاندماج يتطلب مساهمة المجموعة الدولية: فهناك حاجة الى مقادير مالية كبرى لتعويض المهجرين والمقتلعين، كما لتمويل البرامج الحكومية الآيلة الى اغلاق المخيمات ودمج اللاجئين. اما موقف القوميين الشرق اردنيين فيذهب في وجهة معاكسة، داعين الى فصل الفلسطينيينالاردنيين واستثنائهم. ومع ان آراء كهذه وضعت موضوع التساؤل وجهةَ النظر القديمة نسبياً حول الأردن كنموذج لباقي البلدان العربية في الاستيعاب، الا انها بقيت أبعد ما يكون عن تمثيل التيار الأردني العريض. وثمة ما يدل على ان وشائج قوية لا تزال تربط الشرق أردنيين بالفلسطينيينالأردنيين. على أية حال ففي اواخر السبعينات تطورت أردنة القطاع العام لتصير نزعاً للفلسطينيين، وهي عملية تم الدفاع عنها على قاعدة احلال التكافؤ في تقسيم العمل، نظراً الى سيطرة الفلسطينيين على القطاع الخاص. لكن النخبة الأردنية لم تبد ما يكفي من الانتباه الى مردودات هذا التوجه غير المكتوب على المدى البعيد، وتحديداً الى انه سيقاقم ويمأسس القطيعة. كذلك لم تتوقع ان تفقد سيطرتها على الوطنية الشرق اردنية نفسها. فالجهد الرسمي المنهجي على مدى عشرين عاماً، لتبني الرواية الوطنية الشرق اردنية وتعميمها، داخلياً ودولياً، هو ما انتج تحول هذه الوطنية الى وطنية راديكالية. وقد اتى قرار فك الارتباط في 1988 واتفاق اوسلو في 1993 ليوسّعا الأهداف المطروحة على أجندتهم. وهكذا غدا هؤلاء يملكون ما يكفي من ثقة للجهر بما كانوا يتكتمون عليه. لكن اذا افترضنا ان عملية السلام سوف تمضي بنجاح، وان عمّان ستقرر المساعدة في حل مشكلة اللاجئين بدمج الذين لا يرغبون في العودة، فهل ستجد الحكومة في الراديكاليين الشرق اردنيين الطرف القادر على احباط تحركها؟ الاجابة: لا، حين توخذ الصورة في مشهد اجمالي، لا سيما وان حل مشكلة اللاجئين هو مما يرتبط به الحل النهائي للنزاع. الا ان هذا لا يلغي ضرورة الاستجابة لعدد من التحديات الداخلية قبل ان نضمن الفشل لأية محاولة راديكالية من هذا الصنف. فخارجياً، هناك شرطان بالغا الأهمية: الأول ان على اتفاقات السلام الاقليمي والترتيبات الاخرى المترتبة، ان تعكس مبدأ المشاركة. وهذا يعني، كما سلف، اقامة الدولة والمشاركة في السيادة على القدس عاصمتان لمدينة غير مقسمة والتوزيع المتكافئ للمياه والمصادر الطبيعية وترتيبات أمنية مشتركة. كذلك يعني المشاركة في المسؤولية في ما خص استيعاب اللاجئين وحل مشكلتهم. وعبء المسؤولية يشمل اسرائيل حتى لو كان عدد اللاجئين الفلسطيين الذين قد ينتقلون اليها صغيراً نسبياً. وهناك في الدوائر الأكاديمية الأميركية، مثلاً، من اقترح خطة من سبع سنوات تستوعب اسرائيل خلالها تدريجاً 75 ألف لاجئ. ثم ان أكبر عدد من البنى العابرة للدول ينبغي ان ينشأ في المنطقة. وهذه النبى، الاقتصادية والثقافية والسياسية والبيئية، تنطوي على مبدأ المشاركة بقدر ما تشجع التداخل بين أطرافها مخففة جذوة النزعات القومية. وأهم المطلوب لاطفاء التعصب وافساح المجال لللاردن كي يلعب دوراً اقليميا، توسيع قاعدة السلطة. فبعد المخاوف المتبادلة بات الوضع مخالفا بسبب ضلوع الأردنوفلسطين في السلام مع اسرائيل. كذلك ينبغي فتح القطاع العام للجماعتين كما هو القطاع الخاص، والالتفاف على أحد الأسباب المولّدة لتحفيز راديكالية الجماعتين. والحال ان اتهام الفلسطينيينالاردنيين بعدم الولاء لدولة الاردن لم يعد له معنى بعد مباشرة السلام الفلسطيني - الاسرائيلي. والشيء نفسه يصح في التهمة بأنهم يشكلون خطراً على الهوية الاردنية. فبعد اوسلو، التي لا تزال غامضة حيال موضوعي اللاجئين والدولة، بدأ حتى المتمسكون بالهوية الفلسطينية يتصالحون مع واقع ان الاردن وطنهم النهائي. وما ينبغي ملاحظته ان اكثرية السكان انما ولدت بعد مجابهات 1970 التي ينبغي الكف عن التعامل معها كجرح مفتوح في النفسية الوطنية. وهذا يستدعي التراجع عن الايديولوجيا الاردنية لربع القرن الاخير، واعادة العمل بالايديولوجيا التي سادت قبلاً، القائمة على ان الفلسطينيينالاردنيين والشرق اردنيين ابناء وطنية اردنية واحدة. والراهن ان هذا الحس بدأ التركيز عليه في الخمسينات رغم طراوة الجرح الفلسطيني عهد ذاك، ورغم الآمال الملتهبة بالعودة والتحرير. فكيف واننا الآن بعد اوسلو وذواء الآمال الكبرى؟ وضمانة الوحدة الوطنية الاردنية هي، بعد كل حساب، العائلة الهاشمية. فالهاشميون، تبعاً لتركيبهم وتاريخهم، عائلة عابرة للجماعات الصغرى والعشائر والمناطق. واذا كانت النعرة الشرق اردنية قد اساءت الى الفلسطينيينالاردنيين، فانها اساءت ايضاً الى الاسرة الهاشمية اذ قلّصتها الى حدود شرق اردنية، وهي المسلّم لها بالتعالي على جزئيات الواقع الاردني، وبسلطة التحكيم في ما بين هذه الجزئيات. وكون الهاشمية نقطة تقاطع وتوحيد وتجميع هو ما قام البرهان عليه اربع مرات في هذا القرن: ابان الثورة الكبرى في 1916، وفي الاردن في 1920، وفي العراق في 1922، وخلال توحيد الضفتين في 1950. لقد حان الوقت الذي تتصدى فيه الاسرة الهاشمية لمعالجة هذه المشكلة التي زال سببها الاساسي منذ مؤتمر مدريد لسلام في 1991. وفي وسع الاردن ان يعزز امنه القومي ويضمن دوراً اقليمياً له من خلال السلام الشامل الذي يُعترف بموجبه بالفلسطينيينالاردنيين كعمود ثان من عمودي دولة الاردن. وتوسيع الديموقراطية وحكم القانون لا بد ان يكون من ادوات هذا الدمج، الا ان من شروط اتاحة الفرصة للديموقراطية ادخالُ تعديلات تجعل التوزيع الانتخابي اصدق تعبيراً عن التركيب الديموغرافي. ان رغبة الشرق اردنيين في ان يروا الاردن يستوعب اعداداً كبرى من اللاجئين ستعتمد على مدى ما تطلقه هذه العملية من عائدات، او مصاعب، اقتصادية. وقد يكون مفيداً ان نلاحظ ان الاجنحة الراديكالية الشرق اردنية انما انتعشت ابان الركود الاقتصادي لاواسط الثمانينات. وهكذا، وبادراك الدول المانحة ومساعدتها، ينبغي ارفاق الاستيعاب بخلق حياة افضل للجميع، فلا يعود الشرق اردنيين ينظرون الى الفلسطينيينالاردنيين كمجرد عبء. ومع الانتفاع المشترك بعائدات الشراكة، يتحول مثلث العداء الى مثلث تكامل وتبادل في المنافع، فضلاً عن التعاون المؤسسي. لقد اثيرت من قبل فكرة الكونفيدرالية الاردنية - الفلسطينية التي تلحم الثقة والتعاون بين الطرفين. وكان الملك حسين اول من اقترح، في 1972، علاقة فيديرالية، ثم في 1985 توافق هو وياسر عرفات على صيغة كونفيديرالية. وفي 1988 وافق المجلس الوطني الفلسطيني على الفكرة. ومذّاك بدأت فكرة الرابطة الكونفيديرالية، لا الفيديرالية، تستقطب الاهتمام داخل المثلث. فحزب العمل الاسرائيلي، مثلاً، عبّر عن دعمه الكونفيديرالية الاردنية - الفلسطينية. واذا كان الراديكاليون الشرق اردنيين والفلسطينيون يرفضون هذا التصور، الا ان الاغلبيات الساحقة في الشعبين تؤيده. وكان فحوى تصور حسين انه ينبغي عدم التسرع في بناء ترتيبات كونفيديرالية، بل ينبغي تأجيل مناقشة الموضوع الى ان يثمر المسار الفلسطيني - الاسرائيلي وتقوم دولة فلسطينية. وفقط حينذاك حيث يستطيع الشعبان ان يقررا بحرية وضمن آليات دموقراطية، يمكن للصيغة الكونفيديرالية ان تصبح اطاراً للعلاقة الفلسطينية - الاردنية. فالصيغة هذه التي تسمح للجماعتين بالحفاظ على هويتيهما، تبدو الاداة النموذجية لتطوير ثقة متبادلة. ذك ان الكونفيديرالية قد تسهّل، مثلا، لاعداد كبرى من الفلسطينيينالاردنيين ان يصوّتوا لبرلمان فلسطيني فيما هم مقيمون في الاردن. وهذا في النهاية ممكن مع انه صعب. لكن أليس في تحويل الملك حسين للأردن من مجرد مساحة جغرافية الى بلد محترم في عقود قليلة نسبياً، ما يؤسس سابقةً تشجع على ذلك؟ لقد انجِز كتاب ابو عودة في الايام الاخيرة للملك حسين، والاسئلة والتصورات التي اثارها تزداد، بعد رحيله، الحاحاً. * كاتب ومعلق لبناني.