دخل رئيس الوزراء الأردني الجديد في سباق مع رأي عام داخلي وخارجي يشكّك في قدرته على إحداث تغيير سياسي «حقيقي» من بوابة قانون انتخاب يفضي إلى انتخابات مبكرة، وربما ميلاد أول حكومة برلمانية في زمن الملك عبدالله الثاني. فمعروف البخيت يسعى الى تنفيذ حزمة إصلاحات سياسية في فترة زمنية لا تتعدى آب (أغسطس) المقبل، بما فيها سن قانون انتخاب عصري، وتعديل تشريعات تتعلق بالأحزاب، والاجتماعات العامة، والبلديات، وتفعيل دور السلطة الرابعة في المراقبة والمساءلة وتنشيط دور المجتمع المدني. وقال وزير الدولة لشؤون الإعلام والاتصال طاهر العدوان (قومي التوجه) القادم من إدارة تحرير «العرب اليوم» ل «الحياة»: «ستكون حكومة إصلاحات سياسية بامتياز، لأن ذلك ركيزة الإصلاحات الأخرى وستنفذها الحكومة ضمن مدة محددة». الجنرال السابق معروف البخيت، 63 سنة، على عجلة من أمره. فالشارع الأردني، الذي نظم احتجاجات سلمية بالتزامن مع اندلاع الثورات الشعبية في تونس ومصر، لن يصمت طويلاً في حال ماطلت الحكومة في تحقيق شعارات الإصلاح السياسي التي رفعها. وسيبدأ الحراك لإزاحته على غرار سلفه، رجل الأعمال سمير الرفاعي، (ابن عائلة سياسية محافظة). خلال الأسابيع الماضية هتف الشارع لتونس ومصر، وطالب بتغيير النهج السياسي و»تعديل الدستور»، و»حكومة منتخبه»، و»محكمة دستورية»، و»محاكمة الفاسدين» وحتى «حل مجلس النواب»، الذي انتخب أواخر 2010 لأنه منح حكومة الرفاعي - غير الشعبية بسبب قراراتها الاقتصادية وكبتها للحريات العامة - ثقة غير مسبوقة (111 من أصل 120 نائباً). من جهة أخرى، يضغط المانحون الغربيون - وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة الاميركية، حليف المملكة الاستراتيجي - باتجاه تسريع وتيرة الإصلاحات في مجتمع نصف سكانه من أصول فلسطينية، ويعاني من استقطاب حاد حول الهوية السياسية ومخاوف الوطن البديل، ما قد يهدد الأمن المجتمعي. فالأردن، بحسب حزبيين ومسؤولين سابقين وحاليين، مهدد بملامسة دائرة الخطر في حال فشلت السلطة في تغيير النهج والتعامل مع «أزمة إدارة الدولة» بتفاصيلها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. ومن الأفضل للسلطة أن تعمل على اجتراح الحلول الإصلاحية المناسبة النابعة من الداخل، بدل أن تفرضها واشنطن وعواصم أوروبية عبر ربطها بالمساعدات المالية، أو انتظار الشارع لانتزاعها، مع كل ما قد يجلب ذلك التحول السريع من عدم استقرار. العلاج، برأي مسؤولين وسياسيين، يكمن في بناء توافق وطني حول آلية عمل جديدة تطور إدارة الحياة السياسية العامة وتحدّد من خلالها بوضوح حقوق المواطنة والهوية، والمسؤوليات والواجبات في ظل نظام ملكي هاشمي يجمع مكونات الشعب على أرض الأنصار والمهاجرين. ثمّة فارق بين الأردن وكل من مصر وتونس، مفاده أن علاقات الأردنيين بالنظام لم تأخذ طابعاً دموياً، وأن لمؤسسة القصر شرعية دينية وإرثاً قومياً مبنياً على عقد اجتماعي متقادم. وكل ما هو مطلوب عودة الشرعية لمفاصل الدولة ومؤسساتها على نحو يعين أجهزتها المختلفة على صون العدالة الاجتماعية وحماية الأمن من خلال وضع حد لتفكك الهوية الوطنية الجامعة، وبناء توافق على نسج عقد اجتماعي - سياسي بين المكونين الرئيسيين: هما الأردنيون وفلسطينيو الجذور. واليوم، لم يعد لدى المكونين نقاط التقاء أساسية حول دولة القانون والمؤسسات باستثناء الالتفاف حول النظام الملكي الهاشمي والخوف على المصالح الخاصة مقابل المصلحة العامة للدولة. فالتفاهمات التي ربطت نسيج المجتمع عقوداً تقادمت كثيراً، وباتت غالبية مكونات المجتمع تتطلع لأردن جديد قائم على شعبية تجمع شتّى المكونات وتلاوينها السياسية من يسار، ويمين ووسط، في إطار ديموقراطي يحمي حقوق الإنسان، ويعزز دولة المواطنة ويؤدي الى تكريس حياة سياسية عصرية تضمن حق الانتساب إلى أحزاب وتيارات مؤثرة. ويشكل إقرار قانون انتخابي، ظل من دون إجماع منذ العام 1946، مدخلاً للإصلاحات المنشودة واستعادة الثقة الشعبية في مؤسسات الدولة وفصل السلطات المتداخلة كضرورة إستراتيجية. والملك عبدالله الثاني أكد خلال لقاءاته التشاورية مع شخصيات سياسية من مختلف ألوان الطيف، بمن فيهم قادة المعارضة الإسلامية المنظمة، التزامه بالدستور الذي يضمن نظاماً نيابياً، وراثياً ملكياً. البخيت، المحافظ سياسياً، يستعد لبدء حوار وطني شامل حول قانون الانتخاب، بعد أن يجد طريقة «قانونية» لسحب القانون الموقت الذي أجريت بموجبه الانتخابات الأخيرة، من اللجنة القانونية التي كانت تعتقد بأنها ستكون الجهة الأهم في عملية التشريع. أمامه الآن خياران: إما التقدم بطلب لسحب القانون من مجلس النواب أو التوصل إلى تفاهمات ترد اللجنة القانونية بموجبها القانون الموقت إلى الحكومة، التي ستشرع لتحضير مشروع قانون جديد ترسله إلى المجلس لإقراره. على الأرجح سيظل الصوت الواحد عماد القانون الجديد، وفق مسؤولين. لكن بيد اللجنة الوطنية قيد التشكل اقتراحات منها توسيع تقسيمات الدوائر وإدخال آلية صوتين لكل نائب: للمرشح المفضل (مناطقي، عشائري، حزبي، مستقل) ولوائح نسبية موازية على مستوى الوطن، قادرة على اجتذاب أصوات مؤيدة لبرامج عمل واضحة تحملها التحالفات السياسية. يساعد ذلك على مأسسة مجلس سياسي قوي قادر على فرز حكومات مدعومة من تكتلاته الأساسية، بدل استمرار آلية تدوير الوجوه والمقاعد والمناصب بعد تعيين رئيس الوزراء من قبل الملك، وتشجيع الحكومات على استمرار الاختباء خلف القصر. كذلك يصبح تنافس المرشحين على أساس برامج وتيارات، بدلاً من انحصاره بشعارات خدمات مناطقية. هناك فئات تعتقد بأن الأوان آن للحديث عن عقد اجتماعي جديد لمراعاة مصالحها الضيقة وطمأنة مخاوفها، عبر ضمان حصّة أكبر في الكعكة السياسية من دون أن يمس ذلك حق العودة والتعويض في حال قامت الدولة الفلسطينية. ويطالب مكون رئيسي آخر بتجديد العقد الاجتماعي لأنه بات يشعر بأن المسلمات التي كان يعيش في كنفها في دولة «الرعية والعطايا» لم تعد قائمة، وأنه لم يعد مصدراً رئيسياً في قوة الدولة وشرعيتها أو المستفيد الأكبر من تركيبة سياسات الأمر الواقع. هذه الشريحة تطالب بتأجيل استحقاق الإصلاح السياسي الحقيقي لحين حل القضية الفلسطينية واستعادة الفلسطينيين حقوقهم على أرضهم. في المقابل، يطالب جزء ثالث بعقد جديد يضمن محاصصة سياسية وعدالة تمثيل لجميع دافعي الضرائب وحاملي الرقم الوطني مهما كانت أصولهم. ويقول وزير سابق إن الإصلاح السياسي لن يتحقق من دون تحقيق المواطنة، والعدالة، والمساواة والأمان لكل من يحمل رقماً وطنياً. ويؤكد أن «من مصلحة النظام أن يسير نحو المواطنة على أساس عقد جديد». الآلية المطلوبة للعقدين المقبلين، قد تتمحور حول إعادة الاعتبار للسلطة التشريعية واستعادة روح الأجندة الوطنية التي صيغت عام 2005 في محاولة جادة من الملك لإحداث تغيير تدريجي خلال عقد. لكن الأجندة ولدت فاقدة الشرعية، بعكس الميثاق الوطني لعام 1990، لأن الشخصيات التي وضعت الأجندة فشلت في ايجاد حال من التوافق الوطني حولها. بغير ذلك، سيبقى المجتمع مقسوماً حول شكل الأردن الجديد وهويته مع انسداد أفق إقامة دولة فلسطينية مستقلة غرب النهر كان الأردن يراهن عليها لحماية استقراره. مهمة البخيت صعبة وهو أصلاً صاحب مشروع إصلاح سياسي تدريجي يمتد على ثلاثة عقود. لذا يعمل اليوم على استعادة ثقة الشارع وانتزاع الشرعية الضرورية لمواجهة أكوام من التحديات، وذلك من خلال توضيح موقفه من مكافحة الفساد وملفين ساخنين عاصرهما كرئيس للوزراء بين 2005 و 2007: القضية الأولى تتصل بملف منح ترخيص كازينو لشركة يملكها مستثمر بريطاني من أصول عراقية. والثانية إجراء أسوأ انتخابات بلدية وتشريعية في تاريخ البلاد في عهده أواخر 2007 بسبب تزوير واسع ضمن إستراتيجية قيل وقتها إن مراكز صنع القرار كافة ساهمت في وضعها لضرب نفوذ التيار الإسلامي الموالي ل «حماس» المدعومة من إيران. لذلك، قرّر مجلس الوزراء في جلسته الأولى يوم السبت تحويل ملف اتفاقية الكازينو وما تم في شأنها من إجراءات إلى رئيس هيئة مكافحة الفساد. كما قرر المجلس عكس سلسلة قرارات غير شعبية اتخذها الرفاعي، المقرب من النخب الاقتصادية وعالم رجال الأعمال، بما فيها وقف العمل بحجب المواقع الإخبارية الالكترونية عن الدوائر الحكومية، ودعم إنشاء نقابة المعلمين، ومراجعة مدونة السلوك من اجل تنظيم علاقة الحكومة بالإعلام وتفعيل قانون منع الاحتكار لضمان حماية المستهلك. من دون كسب ثقة الشارع، لن يصمد البخيت أمام الضغوط، وأيضاً أمام مجلس النواب الذي انتخب نهاية العام الماضي ويصر اليوم على استعادة صورته الشعبية المدمرة بسب تداعيات منح ثقة شبه عمياء لحكومة الرفاعي.