يمثل كتاب أحمد فارس الشدياق "الساق على الساق في ما هو الفارياق" الصادر في باريس عام 1855 محطة مهمة ومميزة من محطات الفكر النهضوي العربي. فهذا الكتاب هو أبرز نص أدبي في القرن التاسع عشر ومنعطف في الكتابة العربية الحديثة، على ما يصفه عزيز العظمة وفواز طرابلسي. ويشكِّل في رأي عماد الصلح وثبة نوعية في الأدب بالقياس الى عصر الشدياق وأزهى كتبه وأغناها في تصوير عبقريته الأدبية، وأول سيرة ذاتية بمفهومها الحديث في عصر النهضة العربية. وهو طراز فريد من التأليف العربي، لا يقع حتماً في نوع من الفنون الأدبية المتعارفة، على حد تعبير أنطون غطاس كرم. لكن الكتاب على رغم ذلك كله لم يلقَ رواجاً، ولم يُعامل مؤلفه بما يستحق من الاهتمام مع انه "أبو الكتاب الأدبي في النهضة العربية الحديثة، وباني دولة أدبية شرقية غربية، وأول من كتب المقالة الصحافية" على ما رأى مارون عبود، وشخصية مذهلة في تعدُّد وجوه نشاطها كما يصفه جبور عبدالنور. وقعت كتابات الشدياق ضحية التعتيم والرقابة والمنع وحتى التحريم، حتى أن القارئ اليوم لا يجد أياً من مؤلفاته الخمسين، إذ فقد بعضها، وبعضها لا يزال مخطوطاً. أما "الساق على الساق" التي أُعيد طبعها في بيروت في السبعينات من القرن الفائت، فلم تدخل أكثر البلدان العربية، وعندما تُرجمت مقتطفات منها الى لغات أجنبية، لم تسلم من الحذف والرقابة. لماذا إذاً هذا الإهمال والعقوق اللذان لقيهما "الساق على الساق" وما هو سر تلك المعاملة الجائرة التي لحقت بفارس الشدياق ومؤلفاته؟ الجواب لا شك يكمن في سيرة الشدياق الشخصية والعائلية وفي توجهاتها الفكرية الثورية. فقد كانت حياته سلسلة عاصفة ومتواصلة من التحدي والمواجهات مع التسلط والاستبداد في عصر كان التحدي نوعاً من الانتحار، وكان العقل السلطوي يحيل التفكير الى التفكير، والرأي الآخر الى التمرُّد والزندقة. من هذه الزاوية بالذات فسَّر جبور عبدالنور الجحود الذي لحق بالشدياق، فالأعاصير الدينية التي عصفت بحياته، واستثارت العصبيات ورسخت الحقد عليه، حاولت طمس مواهبه وفتوحاته الثقافية والفكرية، فما كان من أعدائه وأبنائهم وأحفادهم وأنصارهم، إلا أن حاربوه، وانتقموا لأسلافهم بإسدال الصمت على كل ما يتعلق به، محاولين قدر استطاعتهم, سدّ منافذ الطريق الموصلة اليه. في عودة الى حياة هذا الكاتب الفذ نجد انه ولد سنة 1801 في حارة الحدث قرب بيروت في كنف عائلة ذات وجاهة مرموقة وإن لم تكن من العائلات الاقطاعية. كان والده يوسف من ذوي النباهة والصلاح، يمتلك مكتبة غنية، لكنه كان يناصب الأمير بشير العداء وقد أسهم في عاميتي انطلياس ولحفد في العامين 1820 و1821. وكانت والدته من بيت مسعد وهي عائلة ذات نفوذ وعراقة. وعلى أثر مواجهة بين الأمير بشير وخصومه وقف فيها والد الشدياق الى جانب الخصوم، ثم لاذ بالفرار مع أولاده طنوس ومنصور وغالب الى دمشق حيث مرض وتوفي. أما فارس ووالدته وأخوه أسعد فقد اختبأوا في الحدث ثم عادوا ليجدوا أن منزلهم قد نُهب ودُمّر. هنا تبدأ مأساة الشدياق الذي لم يلبث أن مُني باعتقال أخيه أسعد ثم وفاته في ظروف مأسوية بسبب انتمائه الى البروتستانتية، ما اضطره هو أيضاً الى الفرار الى مالطة لئلا يلاقي المصير نفسه. ولكنه عاد منها الى القاهرة ليعمل في تحرير جريدة "الوقائع" المصرية ويكون أول عربي يمارس الصحافة. وإذ يعود الشدياق الى مالطة مجدداً، بعد أن تزوج في مصر، يعمل في ترجمة الكتب الدينية والتعليم. ثم يغادر الجزيرة الى لندن تاركاً زوجته التي عاد ليفاجأ بخيانتها له، ما أثر في حياته ونفسيته تأثيراً عميقاً عبر عنه في "الساق على الساق". ويعود الشدياق الى لندن حيث يعمل على ترجمة الكتاب المقدس عن لغات الأصل. ولكنه لم يلبث أن غادرها الى باريس بعدما فجع بموت ابنه ومرض زوجته وفشله في الحصول على منصب في إحدى الكليات الانكليزية. وإذ يشتد المرض على زوجته في باريس، يرسلها الى اسطنبول مع أصغر ولديه سليم. ويبدأ مرحلة من حياته تميزت بالاستسلام للنزوات، فقامر وتبطّل وعاش في غرفة صغيرة في بناء عالٍ عيشة بائسة، ما اضطره الى طلب العون من الوزير التونسي مصطفى الخازندار كي ينقذه من أزمته. نقف عند هذا الحد من سيرة الشدياق، كونها تكشف اللحظة التاريخية التي ألَّف فيها سيرته الذاتية "الساق على الساق" بكل ما فيها من معاناة القهر والنفي والتشرُّد والمآسي، وذلك في أواخر عهده في باريس مطلع سنة 1853. في "الساق على الساق" أودع الشدياق أفكاره في الإنسان والدين والمرأة والمجتمع والسياسة بأسلوب يقرب من التورية والرمزية، مما يجعل من الصعب فهمها إذا لم يتتبع المرء دقائق سيرة الشدياق ولم يتفهم أحاسيسه وانفعالاته للولوج من ظاهر عباراته الى باطنها ومضامينها الحقيقية، حيث تتفجر شخصيته بكل ما ازدحم فيها من مؤثرات ومعارف مستمدة سواء من التراث العربي والحضارة العربية أو من الفكر الغربي والحضارة الغربية، حتى جاء كتابه نقطة التقاء حضاري بين الشرقوالعربي والثقافة الغربية بحدود القرن التاسع عشر. ومع أن الشدياق يقول في مقدمة كتابه إن كل ما أودعه فيه مبني على أمرين: إبراز غرائب اللغة ونوادرها وذكر محامد النساء ومذامهن، إلا ان مضامين الكتاب تتعدى ذلك لتشمل قضايا ومسائل فلسفية وسياسية واجتماعية، لكن الاشكالية المركزية التي تشكل محور "الساق على الساق" وعصبه الأساس هي الحرية من مختلف جوانبها ووجوهها. ف"الساق على الساق" هو كتاب حرية على حد تعبير عزيز العظمة وفواز طرابلسي، يبلغ فيه الشدياق ذروة إبداعه بمقدار ما يبلغ ذروة الجرأة والمقدرة في التصدي للمحرمات الدينية والاجتماعية والجنسية، يرفده في ذلك عقل لا يقبل المسلّمات من دون تبصُّر واستكناه، وعزيمة صلبة في البحث عن الحقيقة. أول ما يتجلى فيه توجه الشدياق العقلاني الرافض للمسلّمات والمحرمات موقفه من تزمت رجال الدين وتسلطهم بعد سجن أخيه أسعد والتنكيل به ثم موته في قنوبين، حيث أنكر حق هؤلاء في التسلط على النفوس ومنع حرية الاعتقاد واضطهاد الناس بسبب آرائهم وأفكارهم, إذ ان الأديان، في رأيه، لا تتوخى سوى الحض على مكارم الأخلاق والأمر بالبر والدعة والسلم والأناة والحلم، ولا تبيح اضطهاد المخالف في الرأي والتفكير. أما ما خالف القوانين السياسية والاجتماعية فللمحاكم المدنية الشرعية وحدها حق النظر في شأنه. بهذا يكون الشدياق أول من دان التعصب الديني وشدد على الاعتراف بالآخر ونبذ التفرقة الدينية والمذهبية، ونادى بفصل الديني عن السياسي والفلسفي في فكر النهضة العربية. وبالقدر ذاته من الجرأة والشجاعة النقدية يدافع الشدياق عن حرية المرأة، حتى أن مارون عبود رأى فيه "نصير المرأة قبل أن يهب شرقي لنصرتها والمطالب بحريتها قبل قاسم أمين"، وفي "الساق على الساق" تتجلى رؤية الشدياق الى الغرب وحضارته، فقد أُعجب بما تميز به من مساواة الناس في الحقوق البشرية، ومن احترام للوقت والعمل، ومن تقدير لذوي العلم وحرية الرأي، ومن اعتراف بدور المرأة ومكانتها في المجتمع. ولكنه في الوقت نفسه دان كثيراً من وجوه حضارة الغرب، وإن كانت كفة محامدها ترجح كفة مذامها. فقد سخر من بعض عادات الغربيين في الأكل والشراب، وأبدى تأثره واشمئزازه لبؤس فلاحيهم وجهلهم، وتميُّز حياتهم الاجتماعية بالعزلة والأنانية، وخلوِّها من المودة والأنس المميزين للعلاقات الاجتماعية في العالم العربي. ويبدي الشدياق في "الساق على الساق" تعاطفه مع الطبقة العاملة التي هي في نظره، أساس تمدن الغرب وصنائعه البديعة وتحفه العجيبة وآلاته الطريفة، مع انها محرومة بائسة. بالحدة نفسها دان الشدياق شقاء فقراء باريس واصفاً إياها ب"أرض الجحيم" لما في ساحاتها من "شقيين ومناحيس". ولكن هذا التعاطف لا يمكن البناء عليه للقول إن الشدياق هو أول عربي يعتنق الاشتراكية ويذهب الى أبعد حدود الالتزام في مذهبه الاشتراكي، كما يرى العظمة وطرابلسي. فهذا الاستنتاج يُسقطه مفهوم الشدياق للمساواة بالمعنى "الروسوي" الذي لا يلغي انقسام الناس الى أغنياء وفقراء، وإنما يدعو فقط لإزالة الفوارق الفاحشة في ما بينهم، وقد أفصح الشدياق عن مقاصده في ما بعد في "الجوائب" حيث دعا فقط الى الزكاة بمقتضى الشرع ودان كومونة باريس 1871 إدانة حادة. يبقى أن في قراءة "الساق على الساق" بعد مئة وخمسين عاماً على صدوره، حافزاً على استعادة رؤية الشدياق النهضوية المتنورة مع انبعاث العقل التسلطي من جديد، وباعثاً على التأمل في سيرته الشخصية بصفتها صورة لطلائع ضحايا الاستبداد والتسلُّط في فكرنا الحديث.