لأنها العاصمة الثقافية للعام 1999، ولأن وزارة الثقافة غابت عن السمع والتخطيط، ارتجل كثيرون تكريمهم لبيروت "الماسة" المتوسط، بنشاطات استعراضية راحت تضج ب "فحشاء" كلوديا شيفر ونعومي كامبل وقديم فرقة هير ولوتشيانو بافاروتي... ومن هذه "الارتجالات" تكريم معهد العالم العربي باريس لبيروت الثقافة بإصدار كتاب "لبنان: وجوه معاصرة" واهدائه الى قارىء فرنسي "مجهول" ليتعرف الى بعض مبدعي لبنان في القرنين التاسع عشر والعشرين. وهو اصدار شاءه فاروف مردم بك المستشار الثقافي لمعهد العالم العربي، بعد أن انحرف عن البحوث الأكاديمية في كثير منه، وتوجه الى الصحافة يترجم من مقالاتها "ما احترق"، من دون أن ندري ما الدوافع الكامنة وراء اختياراته!! وقد وزع فاروق "وجوه لبنان" بحسب ما تمثله أدبياً وفنياً من دون اغفال ما تمثله طائفياً. وهكذا تناولت الدراسات الموجزة التي لم تتجاوز واحدتها العشرين صفحة كلاً من أحمد فارس الشدياق، بطرس البستاني، رشيد رضا، محسن الأمين، شكيب أرسلان، جبران خليل جبران، أحمد عارف الزين، مارون عبود، ميخائيل نعيمة، عمر الأُنسي، أمين رشيد نخلة، الياس أبو شبكة، عبدالله العلايلي، توفيق يوسف عواد، كمال جنبلاط وعاصي الرحباني. ومن الأسئلة الأولى التي تلح سؤال عن تغييب المراجع عن هذه الدراسات؟ فهل أن المرجع يسيء الى "جماهيرية" الكتاب، ويحوله من "العامة" الى "النخبة"؟ وإلا فما الحكمة من التوكيد على الباحثين بعدم اثقال النص بمراجعه؟ والى أي قارىء فرنسي يتوجه هذا الكتاب؟ وفرنسا الثقافة عاصمة النقد ومبدعة تياراته تقسو ولا ترحم إذ عرفت من كتّاب لبنان الفرنكوفونيين الكثيرين من المتميزين" فلم هذه الاختيارات العشوائية - أحياناً - كتاباً ونقاداً؟ ولِمَ لم يتوجه هذا الكتاب الى المعاقل الأكاديمية بحيث يصبح مرجعاً لا كتاب تزجية يعفّ عنه الأكاديمي ولا يدخل في اهتمامات قراء القطارات! وإذ يستهل فواز طرابلسي الكتاب بدراسة عن أحمد فارس الشدياق 1804 - 1887 لا تتجاوز الأربع عشرة صفحة، يذكر في سطورها الأولى أن الشدياق كان من رجال الأدب والشعر والنحو والصرف والفقه والترجمة والتأريخ الى كونه مؤسس أول صحيفة حديثة تصدر باللغة العربية. فالشدياق الماروني المولد، يغازل البروتستانت، ليعتنق فجأة الإسلام. وهكذا يطل بأوراقه الثبوتية الطائفية، ليلحق بها مولده اللبناني، وتجنسه البريطاني، وعثمانية هواه ومصالحه. ويعود طرابلسي من ثم ليؤكد خروجَ الشدياق عن البطريرك حبيش اثر اصداره "الحرم الكبير" بحق أخيه أسعد الذي اعتنق المذهب البروتستانتي فكان جزاؤه السجن في دير قنوبين حيث توفي سنة 1830 وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وأثر اعتقال أسعد سلك فارس طريق المنفى الذي بدأ في مصر سنة 1825 إذ أنه كان منجذباً الى مشروع محمد علي باشا النهضوي، وفي مصر قضى فارس عقدين من الزمن متنقلاً بينها وبين مالطة. وفي سنة 1846 زار فارس الشدياق لندن حيث استدعته "جمعية نشر الكتاب المقدس" بواسطة الخارجية البريطانية لمعاونة الدكتور صموئيل لي على ترجمة التوراة وكتاب الصلوات الى العربية. ثم ما لبث الشدياق أن غادر لندن الى باريس سنة 1848 في ظل حكم نابليون الثالث، وهناك اجتمع بالشاعر الفونس دي لامارتين واتصل بالأمير عبدالقادر الجزائري، وكتب أهم مؤلفاته "الساق على الساق في ما هو الفارياق" و"سر الليال في القلب والإبدال" و"الجاسوس على القاموس" و"منتهى العجب في خصائص لغة العرب". ومن المعروف أن "الساق على الساق" حرَّر العربية من السجع الذي كان يعتبره الشدياق "ساقاً خشبية"، وفيه أيضاً كانت الريادة للشدياق الذي سبق قاسم أمين في دعوته لتحرير المرأة، إذ قال "لن تكون نهضة ولن يكون تحرير في الشرق قبل نهضة المرأة وتحريرها". هذه هي بعض ملامح الشدياق المجدد والمصلح الداعي الى تحرير المرأ، والناقد الاجتماعي والصحافي وهي ملامح استغرقت صفحات سبعاً من مقالة فواز طرابلسي، وقد ترجمها عن مقدمة كتابه "سلسلة الأعمال المجهولة لأحمد فارس الشدياق" الصادر عن مؤسسة رياض نجيب الريس سنة 1995. وبانتقالنا من الشدياق الى تلميذه مارون عبود يخفت الضوء ويزداد قتامةً، فإذا كان في سيرة الشدياق بعض إثارة، فإن في مقالة حسن داوود عن مارون عبود الكثير من الاستخفاف والتجريح. فحسن داوود لم يكلف نفسه عناء قراءة عبود تكريماً لذكراه، وكأنه اختاره ليدلي بأحكام المراهقة المسبقة وصورها الباهتة المنطبعة في ذهنه. فلمَ اختار داوود أن يهاجم من لا يستحق التكريم طالما أن عبود لم يتجاوز فهم التلميذ الذي كانه حسن داوود الواقف خاشعاً أمام عظمة طه حسين والذي يتطلب منه اعادة القراءة لأنه "أقرب الى عالم الكبار منه الى عالم التلاميذ". وهكذا تصبح حال عبود كحال نعيمة الذي أهمله حسن داوود" لسبب يتعلق بالمزاج الشخصي أكثر مما يتعلق بالمزاج الأدبي". فمارون عبود - كما يرى حسن داوود - الذي أخفق في كتابة الرواية كما أخفق في أسلوبه ونقده ليس بإمكانه أن يكون موضوع مقارنة بطه حسين لا من حيث تكوينه الثقافي ولا من حيث جرأته "الديكارتية" ولا من حيث موقفه الأزهري أو التراثي ولا من حيث دعوته "لأوروبية" مصر لا "لعروبتها". والسؤال هل كان يجرؤ مارون عبود حتى لو تحصلت له عدّة طه حسين أن يقف مواقفه؟ وكيف يقارن "رهين عين كفاع" بمن خاض ضريراً عوالم اللاتين واليونان وحضارات أوروبا والمتوسط؟ وهل يعتبر حسن داوود وفاروق مردم بك أن ما كتب في مارون عبود هو تكريم لمارون عبود وللبنان النهضة والريادة؟ فلمَ تمَّ هذا الاختيار؟ ويبقى لنا أن نسأل الأستاد فاروق مردم بك عن أهمية ما ترجمه من أعداد جريدة الحياة في 26 و27 شباط فبراير 1999 واللذين صدرا قبل صدور الكتاب التكريمي لوجوه لبنان الثقافية حتى لا نقول "الطائفية"!! أما في ما يتعلق بمقالة رغداء الزين عن الشيخ أحمد عارف الزين 1884 - 1960 فنحن نتعرف الى الرائد النهضوي في جبل عامل، والذي يعد من أبرز الشخصيات التي أصدرت في البيئة الشيعية العاملية مجلة العرفان، وهي مجلة لعبت دوراً أساسياً على مدى ثلاثة عقود في انفتاح بيئته الريفية المعزولة على التطورات الثقافية والعلمية والسياسية لمحيطها القريب والبعيد. وقد كان أحمد عارف الزين أحد أركان التيار الوطني السوري العروبي الذي كان قد بدأ يتبلور في المناطق العربية من السلطنة في العقد الأخير من حياتها وسط التوترات التي ظهرت بين العرب والأتراك، كما أنه احدى الشخصيات العاملية الرئيسية التي شاركت بعد الحرب العالمية الأولى في المواجهة السياسية ضد الانتداب الفرنسي. ومما ألَّفه الزين اضافة الى مقالاته في مجلة العرفان كتب طبعت على مطابع العرفان كان منها "تاريخ صيدا" 1913، و"مختصر تاريخ الشيعة" 1914. وإذ كان الزين هو العثماني والعربي والسوري والعاملي والشيعي حتى نهاية الحرب العالمية الأولى فإنه مع تأسيس دولة لبنان الكبير بدأ هاجس "اللبنانية" يحتل حيزاً كبيراً من اهتماماته بهوية الدولة الناشئة. وهكذا حملت "العرفان" الى قلب بعض بيئات معزولة هموم واشكاليات القضية الرئيسية لموضوع عصر النهضة العربية التي لا تزال مطروحة بجوهرها على حاضرنا في نهاية القرن: علاقة الإسلام بالحداثة. وإذا شئنا تصويباً لصورة لبنان الإبداع في نماذجه وخياراته، فما التصويب إلا بالوقوف عند مقالة الشاعر عباس بيضون في "الياس أبي شبكة 1904 - 1947". فهو مقال ذو نكهة لبنانية، كما أنه ذو نكهة تكريمية، إذ أنه من المقالات القليلة التي لم تبدأ بمصر تأريخاً لنهضة العرب، بل بدأ بما هو محور الكتاب حتى ولو استغرق جبران المقدمة ليعلن إيمانه بنبوءة نيتشه وابن عربي، وليحارب التقليد الديني ودوغمائيته. ففي "النبي" و"حديقة النبي" كان جبران نبويّ الصوت كما كان ميخائيل نعيمة في "مرداد" وأمين الريحاني في "كتاب خالد". فهؤلاء الثلاثة كانوا من أبناء لبنان المنفنيين، ومن تركيبته الثقافية التي كانت الى وقت قريب تركيبة مسيحية بمعظمها كما يقول عباس بيضون. أما إذا كانت الرومنطيقية قاسم هؤلاء الكتاب فإن أبا شبكة وان قاسمهم هذا التيار، يبقى أن طموحه لم يكن "نبوياً" ولا "صوفياً" كطموحاتهم وصوفياتهم. فهو الشاعر "النحات". كما يسميه عباس بيضون - الى جانب كل من أمين نخلة وصلاح لبكي الذين تميزهم دقة الأسلوب وشفافية الكلمة. وقد رأى عباس بيضون أن عذابات أبي شبكة حادة وملموسة كأنها الجراح، كما رأى أن أبا شبكة المتمرد على جبران هو أول شاعر لبناني يحمل بصمات الشعر الفرنسي من راسين الى الفرد دو فينيي انتهاء ببودلير. مسكوناً بالتوراة صارت معاناة أبي شبكة نزعاً ورهبة: انه الخاطىء الذي يسحقه ثقل آثامه، وثقل معانيها ومضامينها. ولغته هي لغة "جسدية" بامتياز، ولغة "سدومية" بامتياز، فأبو شبكة يعرف كيف يرجم ويلعن في عوالمه الجحيمية التي تنضح بالقرف والشهوات. فهو كما عرف الإثم عرف الخلاص وكما عرف الخطيئة احتفل بعرس التوبة والتطهر. وهذه الدرامية جعلته فريداً بين شعراء اللعنة والإثم. هذه بعض ظلال قراءة الشاعر عباس بيضون لشعراء الحداثة اللبنانية الذين رأى أنهم - إذ أضافوا الى تراثهم العربي مؤثرات غربية وأساليب توراتية وانجيلية - جعلوا لأدبهم خاصية مميزة هو أنه "أدب عربي غير إسلامي" أو ان شئت قل هو "أدب خارج الخطاب الإسلامي". وحيث يسأل عباس بيضون عن شياطين أبي شبكة وأبالسته يجيب قائلاً: لقد صار هؤلاء بعيدين جداً جداً، إذ يكفي أن نلامس الصليب ليتلاشوا ويضمحلوا. أما نحن فإذ وقفنا عند مقال الشاعر عباس بيضون فقد اكتفينا بقراءته نموذجاً لا تجنياً، وحباً لا تجريحاً. فوحده الشاعر المجروح يقرأ جراح الشعراء، ويشفّ حرمةً لا انتهاكاً، ويقف بتهيب في هياكل حساسيتهم وتفردهم. انه الشاعر الموجوع والمتغرب والمنفي الذي يجيد لغة الوجع والغربة والمنافي. هو عباس بيضون الذي أيقن أن العربية من بعض وجه هي لغة الشعر التي حملت الحنين والتعب كما حملت الآثام والنبوءات وتجرأت على الاقتحام. أخيراً يبقى أن نقول في "مغامرة" الكاتب فاروق مردم بك - المشكورة - ان لبنان الثقافة والإبداع هو الأكبر والأبقى ولو أجحف المجحفون في التوكيد على فولكلور طوائفه، بحيث جاء هذا الكتاب ظلاً من ظلالها.