أحمد فارس الشدياق، من مواليد لبنان 1804، رائد من رواد النهضة العربية الحديثة، درس مبادئ العلوم الإنسانية في مدرسة عين ورقة المارونية، ثم اعتنق البروتستانتية، وتوجه عام 1825 إلى مصر، حيث استوفى ما أتقنه من أصول اللغة العربية، بعد ذلك دعته الإرسالية الأميركية إلى مالطة عام 1834، لتدريس اللغة العربية، وتولى إدارة المطبعة الأميركية، وأقام فيها حتى عام 1848، وكتب عن مشاهداته وانطباعاته عنها كتاب «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، ثم دُعي إلى إنكلترا لتعريب الكتاب المقدس، فسافر إليها في 8 أيلول(سبتمبر) 1848، مارًا في طريقه بفرنسا، وأقام الشدياق في إنكلترا، ثم في فرنسا، حتى استدعاه باي تونس عام 1855. وفي وصف رحلاته الأوروبية وضع عام 1854 كتاب «كشف المخبا عن فنون أوروبا»، وفصولاً عدة من سيرته الذاتية في كتاب «الساق على الساق فيما هو الفارياق»، الذي ألفه في باريس ما بين 1854 و1855، وطبع الكتاب لأول مرة في باريس 1855، ثم ظهرت طبعته الثانية في القاهرة 1919، والثالثة 1920. وأعجب الشدياق بمظاهر الحرية والمساواة التي شاهدها في أوروبا، ومنها حرية النشر، وحرية انتقاد الحكومة، وتساوي الفقير والغني في الواجبات، وأكد أن حرية الصحافة من عوامل المدنية ومظاهرها، ودافع عن حرية الرأي حتى في تأويل الدين، وأكد أن تساوي جميع الإنكليز في الحقوق يخالف العادة في البلاد الشرقية، فإن أصحاب المناصب هم الذين يُخشى بأسهم وشرهم، ولكن الحرية والمساواة التي حبذها ووصف مظاهرها استندتا إلى مبادئ في الفكر السياسي والاجتماعي غريبة عن الشرقيين، وقد عانوا ما عانوا من استبداد الأتراك والحكام المحليين، وعليه أحس بالحاجة إلى تعريف الحرية والمساواة، فقال: «إن الحرية إنما تكون حميدة مفيدة إذا روعي فيها مصلحة عمومية على أخرى خصوصية لا بالعكس» (الواسطة، ص 48). ولعلنا نلحظ أن نظرة الشدياق إلى الحرية والمساواة نظرة أخلاقية، ولعله متأثرًا في ذلك بالاشتراكيين المسيحيين، الذين ظهرت حركتهم في إنكلترا عام 1848، أي سنة وصوله إليها، وقد ذهبوا إلى أن المسيحية والتهذيب الخلقي شرط أساسي لكل مدنية، وأن الحرية تفضي إلى الأنانية والفوضى والاستغلال والظلم ما لم يمارسها أفراد هذبتهم التربية المسيحية والأخلاقية، ولا نستبعد أن يكون الشدياق قد تأثر بهذا المناخ الفكري، فتذبذب في موقفه من الحرية والمساواة، وعليه لعل اتصاله بالغرب قد جعله يتبنى مبادئ الثورة الفرنسية، التي اعتبرها أساس ما أحرز الغرب من مدنية، وربما في نظرته تلك قد تأثر ببعض التيارات الفكرية الغربية. مفهوم الوطن أما مفهوم الوطن في فكر الشدياق، فمن المستبعد أن يكون مبنياً على الإيمان بالأمة الإسلامية الموحدة، ولئن مدح السلطان العثماني، وأيدت مقالاته في «الجوائب» سياسة السلطان العثماني، ودعوته إلى الجامعة الإسلامية، وإعادة الخلافة، فلا نظنه فعل ذلك إلا لأنه كان على علاقة رسمية بالباب العالي، لكن الشدياق ليس مسلم المولد والنشأة والتربية، بل إنه اعتنق الإسلام في ما بعد في تونس عام 1857، ولهذا بات ممكنًا في نظره أن يرى الوحدة السياسية بين المسلمين أمرًا محالاً، ولعل هذا ما يدعونا إلى الشك في أن دعوته إلى تأييد الخلافة والوحدة الإسلامية لم تكن مُخلصة، ولكن على أية حال فقد تأثر بوجوده في إنكلترا وفرنسا بفكرة الوطن بالمعنى الذي كان شائعًا في أوروبا في القرن التاسع عشر، وبدأت الفكرة تتكون في ذهنه لتزاحم فكرة الأمة الإسلامية، وذلك على إثر ما شاهده في الغرب وقرأه من كتب، ولهذا نراه يؤكد أن وحدة اللغة والجنس والأرض شرط أساسي للإحساس برابطة وطنية، وأن وحدة الدين لا تكفي، ومن توضيحه الفوارق بين مسلمي الشام ومسلمي مصر مثلاً نستنتج أنه أحس بأن لكل من الشعبين مميزاته، وإن كان دينهما واحدًا. ولعل الشدياق قد عني عناية شديدة بالمجتمع، لأنه تأثر بالاشتراكيين المسيحيين الذين اهتموا بالقضايا الاجتماعية والأخلاقية أكثر من اهتمامهم بالإصلاح السياسي، وإذا كان الفكر السياسي التقليدي في الإسلام لا يفصل الدين عن الدولة، والإسلام على خلاف المسيحية، بقدر ما هو دين، هو تشريع سياسي واقتصادي واجتماعي وأخلاقي، فإن الشدياق ليس في دين آبائه ما يرتبط بالنظم السياسية من قريب أو من بعيد، بل رجع إلى قول المسيح «أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله» (متى، 22/21)، فما دام المسيح قد أوضح أن لكل من الدين والسياسة ميدانه الخاص، فقد سهل الأمر على الشدياق ليؤمن بوجوب الفصل بين السلطة الزمنية والسلطة الدينية، ودعا إلى سيادة الأولى على الثانية، حين عرض لمحنة أخيه أسعد وهاجم الكنيسة المارونية واتهمها بالخروج عن ولاية السلطان العثماني، وإقامة دولة داخل دولة حين حاكمت أسعد بدلاً من أن توكل أمره إلى حاكم شرعي (الساق، ج1، ص 133)، وعليه وعى الشدياق تمامًا الصراع بين السلطتين الدينية والزمنية، وأكد أن التقدم المدني لا يتم إلا بالفصل بين السلطتين، وإخضاع الدينية للزمنية، بل إنه رآه شرطًا ملازمًا لكل تقدم مدني. وشاهد الشدياق أثناء رحلته إلى أوروبا الفرق الشاسع بين الشرق المسلم المتخلف، ومظاهر التمدن والتطور والثروة والسعادة في أوروبا، وأدهشته قوة الدول الغربية وتفوقها العسكري، فحاول أن يهتدي إلى أسرار هذه القوة، فرأى أن الحكم المطلق هو سبب الظلم في الشرق، ولم يعتبر حسنات الحكم الدستوري مقتصرة على العدل وحده، فإنه حكم مقيد، وليس فرديًا، فوجود مجلس النواب، الذي يسميه «مجلس الشورى» أحيانًا، يحفظ للرعية حقوقها وحريتها، ونبه إلى العدل الناجم عن فصل السلطة القضائية عن السلطة التنفيذية، وأكد أن الإسلام أوجب المشورة، غير أن نشأته وتربيته لم تحوجاه إلى التوفيق بين النظام البرلماني والمشورة الإسلامية، فصرح بأن التمثيل النيابي دخل البلاد الإسلامية بدخول الأجانب، ولكنه علل دخوله تعليلاً ينم عما في نفسه من صراع بين إعجاب بهذا النظام، وكرهه لمبتدعيه الأجانب الذين يستغلون الشرق، وأكد أن الخلفاء الأول لم يحكموا بمساعدة مجالس الشورى، لأن بلادهم خلت من الأجانب، أما الحكام المسلمون في عصره فهم في حاجة إلى مجلس شورى يحضره نواب من الدولة والرعية، لتصدر عنه أحكام مقنعة بالنسبة للأجانب، ولعله تذرع بتلك الحجة ليستر شعوره بضرورة المجلس النيابي، إذ خاف أن يغضب السلطان العثماني الذي كانت «جوائبه» في خدمته. ولم يبال الشدياق كثيرًا بنظم الحكم في أوروبا، وحين التفت إليها قيّمها تقييمًا أخلاقيًا لا سياسيًا، ولم يُقرنها بنضال الشعب من أجل الحرية والمساواة، بل بفكرة العدالة بمعناها القانوني، فرأى، مثلاً أن مظاهر العدل التي شاهدها في إنكلترا جاءت نتيجة اختصاص الموظفين كل بعمله، ومعرفتهم واجباتهم وحقوقهم، ولم يبين أن هذه العدالة كانت ثمرة صراع طويل بين سلطة حاكمة مستبدة وشعب قيدها تدريجيًا، وعليه استنتج أن مظاهر الظلم في الشرق ناجمة عن أن الشرقيين لا يعرفون حقوقهم وواجباتهم ويتدخلون في ما لا يعنيهم، وتحدث عن دور مجالس النواب، في تنظيم الحياة السياسية في إنكلترا في معرض كلامه على وفاء الإنكليز بالوعد واستقامة خُلقهم، وإن كان قد أُعجب بحق الإنكليز في التعبير عن الرأي، وانتقاد الملكة نفسها، وأكد أن الثورة الفرنسية كانت ناتجة من حرمان ملوك فرنسا للرعية الكثير من الحقوق التي يتمتع بها غيرهم، وعلى هذا لا نعجب إن رأيناه يسمي الثورة الفرنسية «فتنة» أو «شغبًا» (كشف المخبا، ص 227، 244، 275)، وإن أشار إلى نتائجها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فقد نوه أيضًا بالمساوئ الخلقية التي كانت الثورة سببًا لها، ولا غرو أن نراه يطبع في «الجوائب» صورة المنشور الذي صدر من الباب العالي بإعلان عصيان عرابي باشا لإثارته نار الفتنة في وادي النيل، ولعل دواعي سياسية عثمانية أو بريطانية هي التي جعلت الشدياق يتخذ هذا الموقف من ثورة عرابي. وإن كان الشدياق قد وصف مظاهر الثروة التي شاهدها في أوروبا، وأحس بأن المدنية تستند إلى أساس اقتصادي مادي لابد منه، قوامه الصناعة والزراعة والتجارة، فإنه قد آمن بضرورة التغيير والتطوير في المضمار الاقتصادي، ووعى تمامًا أضرار الاحتلال الغربي وعلاقته بترويج التجارة، مع أنه كتب «الساق على الساق» قبل الاحتلال الفرنسي لتونس، والإنكليزي لمصر، فلعله تنبه إليه مدة إقامته في مالطة، وإن لم يشر إليه في «الواسطة في معرفة أحوال مالطة»، ولم يجد الشدياق في تطوير الزراعة والصناعة والتجارة ما يناقض تقاليد الشرق، وأعار مشكلة الطبقات في أوروبا والشرق اهتمامًا كبيرًا، إذ وصف مفصلاً كلاً من الطبقات الخمس في إنكلترا في كتابه كشف المخبا (ص 112-113) والفوارق الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية بينها، وأوضح الفرق الشاسع بين سكان المدن والقرويين الإنكليز، وقد ربط بين فقر الشعب والنظام الاقتصادي في إنكلترا، وبيّن أن فقر الطبقات الشعبية يدفعهم إلى الإجرام أو البغاء، وأنه السبب في جهلهم وفساد سلوكهم. وإذا كان القرن التاسع عشر قد شهد الفرق الشاسع بين المرأة الأوروبية المتعلمة المتحررة، والمرأة الشرقية المستعبدة المحجبة الجاهلة، فقد عني الشدياق بالمرأة عناية خاصة، فتهجم تهجمًا عنيفًا على تعدد الزوجات، ورأى في تساهل الإفرنج مع نسائهم وقاية من الخيانة، بل منح الشدياق الزوجة حق التحرر الجنسي إن كان للرجل هذا الحق أيضًا، وهذا ما نستشفه من انتقاده المجتمع الشرقي الذي يشهر بالمرأة إن أحبت غير زوجها، فيما يعذر الرجل الذي يخون زوجته، بل يحملها مسؤولية إعراض بعلها عنها، وبقدر ما تهجم على الكنيسة لأنها تمنع الطلاق، انتقد المسلمين الذين يحرمون المرأة حق الطلاق، ويمنحون زوجها حق نبذها بغير سبب، وآمن بالمساواة التامة بين الزوجين سواء في الحقوق أو في الواجبات. لغات الإفرنج وأكد الشدياق أن لغات الإفرنج، بُنيت في الغالب على التمدن، والتمدن في الشرق بني على اللغة، ولذا كانت لغاتهم تحتوي على أسماء القديم والحديث من المخترعات والصناعات والآلات وغيرها على نقيض اللغة العربية، ذلك أنه أحس بتخلف اللغة العربية في مضمار الفن والعلم، وإلا لما استخدم المفردات الأجنبية في وصف مظاهر العلم والفن والصناعات في أوروبا، وظهر الصراع في نفس الشدياق حين أقر بالنقص في مصطلحات اللغة العربية، ولكنه لم يوافق على أخذ المصطلحات الأجنبية وانتقد من تبناها، وطالب باشتقاق ألفاظ جديدة أو نحتها من ألفاظ أخرى عربية، ما أمكن ذلك، وإن كانت نظرته للغة العربية نظرة علمية حديثة، إذ أنه اعتبرها من الروابط التي تربط بين أبناء الوطن الواحد، وأكد أنها لا تنشأ دفعة واحدة وإنما تنمو وتتطور مع الحياة، ولذلك فهي وثيقة الصلة بأحوال العصر والبيئة المحيطة بها، ورغم ذلك فقد حاول التقليل من منجزات الغرب العلمية مع اعترافه بقيمتها، فقد رأى أن الأطباء في باريس يستغلون المريض ويبتزون أمواله (الساق، ج2، ص 274، 275). ورأى الشدياق أن العقلانية الغربية هي عقلانية علمانية، فاعتبر الدين تشريعًا أخلاقيًا وجد لتهذيب العامة، وبإمكان الناس أن يستغنوا عنه إذا نالوا قسطًا وفيرًا من العلم والأدب، وعليه فلا قيمة للاختلاف بين الأديان والمذاهب، فالأديان كلها متعادلة متساوية، وأن ما قاله في المسيحية يصدق في اليهودية والإسلام وغيرهما من الأديان، وقد منح الشدياق المرء حق تأويل الدين تأويلاً حرًا قد يتنافى وما تُعلمه الكنيسة، وإن كان قد سخر سخرية شديدة ممن يؤمن بالكرامات والمعجزات، ولم يخامره شك في أن العقل مقياس الحقائق الوحيد، والطريق إلى المعرفة، وأخذ على الإنكليز اتكالهم على نشاطهم وسعيهم وحدهما، ولم يشعر بأن في هذا الموقف ما يناقض عقلانيته. وفي موقف الشدياق من الموروث والمستحدث غلبت رغبته في الدفاع عن الموروث في معظم ميادين الفكر، ولم يبين سبل الحفاظ على هذا الموروث الذي دافع عنه مع تطوير المستقبل الذي آمن به، ولعل هذه القراءة السريعة في فكر الشدياق من خلال بعض مؤلفاته، توضح أنه بحق فارس من فرسان النهضة العربية الحديثة.