مما لا شك فيه ان السلطات الفرنسية كانت في غنى عن عودة الحديث عن "توجيه بولكشتاين" الأوروبي، في وقت تواجه حملة مطالب تقودها الاتحادات العمالية التي ستنزل مجدداً الى الشارع اليوم للمطالبة بدفع الأجور، وفي وقت يركز المسؤولون جهدهم على اقناع الناخبين بالتصويت ايجاباً على الدستور الأوروبي الجديد، في الاستفتاء المقرر في 29 أيار مايو المقبل. وفحوى هذا التوجيه الذي يحمل اسم واضعه المفوض الأوروبي السابق فريتس بولكشتاين هولندي هي ازالة العقبات القائمة داخل السوق الأوروبية أمام التنافس الحر في قطاع الخدمات. ويجيز التوجيه لمؤسسة تتخذ من احدى الدول الأوروبية مقراً لها، تنفيذ خدمات في دولة اخرى واخضاعها لتشريعات الدولة حيث يقع مقرها. ونظراً الى كون التشريعات الأوروبية في هذا المجال غير متجانسة على الاطلاق خصوصاً في ما يتعلق بالدول العشر الحديثة العضوية في الاتحاد الأوروبي، فإن التوجيه يثير جدلاً حاداً في فرنسا، في الوسطين السياسي والنقابي. اذ يرى فيه معارضوه تهديداً بإغراق سوق الخدمات الفرنسية بأيد عاملة رخيصة تتعذر منافستها خصوصاً من بعض دول أوروبا الشرقية. كما يعتبرونه بمثابة "حصان طروادة" لليبرالية الأوروبية، تسعى الى وضعهم في حالة منافسة عشوائية وغير منصفة، على رغم البطالة والانحسار في النمو الذي تواجهه فرنسا حالياً. ويخشى هؤلاء من ان يؤدي التوجيه الذي لا يزال في مرحلة المراجعة والدرس، في حال اقراره، الى المزيد من الضائقة في سوق العمل التي تعاني حالياً من ظاهرة انتقال المؤسسات الانتاجية من فرنسا الى دول أخرى، غالباً آسيوية، سعياً لتقليص كلفة منتجاتها. وعلى ضوء مواقف الشجب السياسية والنقابية اضطر الرئيس الفرنسي جاك شيراك أخيراً، للمطالبة بإعادة بحثه، باعتبار ان ما ينص عليه في صيغته الحالية غير مقبول، في حين أكد رئيس الحكومة جان بيار رافاران ان فرنسا ستستخدم كل الوسائل لرفض "توجيه بولكشتاين" لأنه "يتنافى مع مفهوم فرنسا للتنظيم الأوروبي". وأثير الجدل مجدداً حول التوجيه، عقب المؤتمر الصحافي الذي عقده المفوض الأوروبي للسوق الداخلية تشارلي ماك كريفي، قبل أيام، ليبدد اشاعات ترددت في أروقة البرلمان الأوروبي حول سحبه من التداول. وأكد ماك كريفي ان التوجيه لا يزال مطروحاً ويسلك طريقه ضمن الأطر الاجرائية الطليعية، معتبراً ان تحرير قطاع الخدمات الأوروبي "يشكل مجالاً كبيراً لخلق فرص عمل وثروات". وتقول مصادر مطلعة في باريس، ان التوجيه يندرج في امتداد انشاء السوق الأوروبية المشتركة لاضفاء تجانس على حرية تنقل الأفراد والرساميل والبضائع بين الدول الأوروبية وانه يسعى لتأمين النوع نفسه من التجانس على صعيد الخدمات. وتشير الى ان بولكشتاين سعى من خلال التوجيه الذي وضعه الى حمل الدول الأوروبية "الجديدة" على تنويع نشاطها الاقتصادي، عبر السماح لها بتصدير الأيدي العاملة لديها المنخفضة الأسعار. وتنذر اعادة طرح "توجيه بولكشتاين"، الذي يستدعي اقراره سلسلة من الاجراءات المعقدة عبر الأطر الأوروبية المختلفة، بتعزيز الريبة حيال أوروبا عشية الاستفتاء الفرنسي حول الدستور الجديد، كما ينذر بالمزيد من التلبد للأجواء الاجتماعية المتوترة نتيجة الضائقة المالية.