كان لبنان منذ صدور القرار 1559 في الثاني من أيلول سبتمبر 2004عنواناً لأزمة اميركية - سورية مضمونها العراق. وبين 14 شباط فبراير 2005 اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري و26 نيسان أبريل منه الانسحاب السوري من لبنان، دفعت دمشق فاتورة سياستها العراقية في بيروت أمام"البلدوزر"الأميركي الزاحف على المنطقة، ولو كان ذلك عبر اشتعال حطب لبناني أتى من نقمة غالبية المجتمع اللبناني على الممارسات السورية. بعد ذلك، اتت"مرحلة ديتليف ميليس"، المحقق الالماني في اغتيال الحريري، لتظهر استمرار الأزمة بين واشنطنودمشق. تثير الدول العظمى أزمات كبرى مع الآخرين، غالباً ما تكون عناوينها غير مضامينها ومراميها، كما حصل من ألمانيا عام 1939مع بولندا من خلال"قضية دانزيغ"التي كان موضوعها أبعد من الحدود البولندية ليشمل أزمة برلين مع كل من باريس ولندن وموسكو حول تصور العالم الأوروبي. وما حصل من واشنطن، بعد احتلال العراق، مع عواصم القرار الإقليمي، القاهرةوالرياضوطهرانودمشق، عبر طرح مواضيع"الإرهاب"و"الديموقراطية"و"ضبط حدود الجوار العراقي"و"تخصيب اليورانيوم الإيراني"، لا يخرج عن هذا الإطار، اذ انه يعبر عن تغير التصور الأميركي للمنطقة في مرحلة ما بعد سقوط بغداد قياساً إلى ما قبل الحضور العسكري المباشر إلى قلب منطقة الشرق الأوسط تماماً كما عنى سقوط كابول تغيراً في رؤية واشنطن الى دور باكستان مقارنة بدورها في زمن ضياء الحق، ما أدى إلى تغير الرؤية الأميركية لأدوار الدول الإقليمية الرئيسة في المنطقة. هذا التغير عبرت عنه لائحة المطالب التي قدمها وزير الخارجية السابق كولن باول لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد، وكانت مؤشراً الى نظرة أميركية جديدة للدور السوري في المنطقة يختلف عما كانت عليه الحال بين عامي 1976 و1990. إلا أن ما نقل الأمور إلى مرحلة الأزمة بين واشنطنودمشق هو الدور الذي لعبته سورية في العراق المحتل، عندما وجد السنَة العرب، ككتلة اجتماعية، في دمشق جداراً حامياً، ليس بحكم سياسات النظام وإنما بسبب الامتدادات الاجتماعية العابرة للحدود. في الأسبوع الثالث من تشرين الثاني نوفمبر الماضي عقد"مؤتمر الحوار العراقي"في مقر الجامعة العربية في القاهرة بموافقة أميركية، وفي الأسبوع الرابع منه حصلت التسوية بين واشنطنودمشق حيال"أزمة ميليس". لا يمكن فك الارتباط بين الحدثين، اذ ان الأول يدل على تنازل من"الدولي"الآتي إلى الشرق الأوسط لمصلحة"الإقليمي العربي"في العراق عبر تخليه عن انفراده بالأخير. وهذا لا يشمل القاهرةوالرياض فقط، وإنما أيضاً دمشق التي أصبحت لها الكلمة الأولى لدى الشيخ حارث الضاري الذي يبدو أنه يأخذ دور"جيري أدامز العراق"، والذي من دونه ما كان لمؤتمر القاهرة ان ينجح، ولا للانتخابات ان تجرى منتصف الشهر الجاري، على رغم عدم مشاركة"هيئة علماء المسلمين"فيها، فاكتفت - وهي القوة السنية الكبرى في العراق - بالموافقة الصامتة على انخراط العرب السنّة في الانتخابات. كان ما جرى في القاهرة، والأجواء الانتخابية الجديدة في الفلوجة والرمادي والموصل والأعظمية، على ارتباط بما جرى في فيينا استجواب الضباط السوريين المشتبه بعلاقتهم في اغتيال الحريري، وبما تضمنه القرار1644 مقارنة بالقرار1636، وما أعقب ذلك من تنحي ميليس عن الملف. ولا يمكن عزل ذلك عن عودة الحرارة مجدداً إلى مثلث القاهرة ? الرياض - دمشق، وهو ما تزامن مع مؤشرات عدة على بداية ادراك واشنطن مغزى تصريح العاهل الأردني عبدالله الثاني نهاية عام 2004 عن"الهلال الشيعي"، ولتحذير الأمير سعود الفيصل في أيلول الماضي من مدى استفادة طهران من الأجواء العراقية الجديدة التي أعقبت الاحتلال الأميركي للعراق. كما ترافق ذلك مع صعود نجم المتشدد محمود أحمدي نجاد ووصوله الى سدة الرئاسة في ايران واستئناف طهران تخصيب اليورانيوم، الذي كان قرار وقف تخصيبه خريف 2003 متوازياً مع ذروة التعاون الإيراني - الأميركي في عراق ما بعد صدام حسين. ويبدو أن الاتجاه الأميركي الجديد لإعطاء عواصم اقليمية دوراً في العراق لا يخرج عن هواجس واشنطن حيال ايران، سواء عراقياً أو نووياً، فيما يبدو أن ارضاء دمشق لا يبتعد من رؤية استراتيجية أميركية تهدف إلى إحداث شرخ في التحالف السوري - الإيراني، أولاً في العراق، لكي ينعكس ذلك في ما بعد في الأجندة الأميركية المطروحة حيال"حزب الله"، بخاصة بعدما أثبتت دمشق بأن ورقتها اللبنانية في مرحلة ما بعد الانسحاب، لا تعتمد على عنجر، وإنما هي أبعد من ذلك بكثير. وربما أعطى هذا تفسيراً لعصبية أحد أذكياء السياسة اللبنانية المعدودين الزعيم وليد جنبلاط وحنقه. إلا أن الأمر على ما يبدو يؤشر إلى أمور أبعد من النطاق اللبناني، وربما دل على حصول انعطاف كبير في سياسة واشنطن في المنطقة، تقدم بموجبه تنازلات كبرى للعامل الإقليمي العربي في الموضوع العراقي الذي أصبح الشغل الشاغل لجورج بوش الذي يدرك أن الفشل في العراق يعني تقويضاً للقطب الواحد في مقابل تعاون العرب، وتتخلى عن كباشها اللبناني مع دمشق بعدما وصلت طبختها العراقية إلى حافة الاحتراق. هذه الانعطافة، إن صحت، ستقلب السياسة الأميركية، في المدى المنظور والمتوسط، حيال طهران، وأيضاً تجاه النجف والسليمانية وأربيل. ولكن ألن يؤدي ذلك إلى تحريك التسوية في رام الله والقدس، وأيضاً الجولان، بعدما غطّى دخان الحريق العراقي كل هذا؟ هذا ما يبدو أن آرييل شارون وشيمون بيريز، من خلال حزبهما الجديد، يدركانه ويتحسبان لملاقاته عبر توازنات اسرائيلية داخلية جديدة يريدان إحداثها عبر الانتخابات المقبلة، من خلال تقديرهما بأن يمين بنيامين نتنياهو وعوزي لانداو، ويسار عمير بيريتس ويوسي بيلين، لا يمكنهما الوقوف في وجه الرياح الآتية، والتي ربما كانت شبيهة بتلك التي أثارها مؤتمر مدريد، بعدما أجبرت واشنطن تل أبيب على حضوره بعد شهور من دخول مثلث القاهرة - الرياض - دمشق في التحالف ضد الرئيس العراقي صدام حسين عقب غزو الكويت. كاتب سوري