كان 2005 عاماً حاسماً فى السودان اذ شهد احداثاً جساماً سيكون لها تأثيرها ووقعها البالغ على مستقبله. فقد اعتبر السودانيون توقيع اتفاق السلام فى جنوب البلاد، الذى طوى اكثر من 21 سنة من الحرب والدماء والدموع، هو الأهم منذ استقلال بلدهم قبل نحو خمسين عاماً، وبعد خمس سنوات ستكون البلاد امام خيارين فاما ان تظل موحدة او تنشطر الى دولتين. ولكن غياب احد صناع السلام وهو زعيم"الحركة الشعبية لتحرير السودان"جون قرنق الذى قتل فى تحطم مروحية بعد 21 يوماً من توليه منصب النائب الاول للرئيس، خطف بريق الاتفاق خصوصاً ما رافق ذلك من احداث دامية اظهرت ازمة الثقة بين شمال البلاد وجنوبها. ويعتقد قطاع واسع من النخب والساسة ان الاتفاق على رغم انه اوقف الحرب، وضع البلاد تحت وصاية دولية اذ ان عدد القوات الدولية التي تراقب تنفيذ السلام والافريقية التي تحفظ الامن فى دارفور يفوق عدد القوات البريطانية التي كانت تحتل السودان. لكن التغيير الكبير الذي جاء به الاتفاق والذي سيغير شكل الدولة السودانية الموروث منذ الاستعمار، رتب حزمة من الاجراءات كفيلة باحداث التغيير اذا ما خلصت النيات وترجم الاتفاق الى واقع. تاسس اتفاق السلام على نظرية"دولة بنظامين"وتكرس ذلك فى الترتيبات السياسية والقانونية والامنية، اذ صار جنوب السوادن كياناً سياسياً يسمى اقليم الجنوب له حكومة وبرلمان ودستور مستقل يحكم به نفسه، كما له نظام مصرفي تقليدي مختلف عن شمال البلاد الذي يعمل بنظام المصارف الاسلامية ويطبق التشريعات الاسلامية. وللجنوب ايضاً جيشه وهو"الجيش الشعبي لتحرير السودان"الى جانب قوات مشتركة من الجيش الشعبي والجيش الحكومي. وإضافة الى ذلك له نصيبه من عائدات النفط 50 في المئة، وتبدلت ايضاً عملة السودان من الدينار الى الجنيه الذي سيكون متداولاً فى حزيران يونيو المقبل. اولى خطوات تنفيذ الاتفاق، كانت وقف اطلاق النار الشامل، وقد بدأ منذ التوقيع على الاتفاق النهائي. وقسمت عملية وقف اطلاق النار الشامل في الاتفاق الى مراحل وتتضمن إعادة انتشار القوات الحكومية من الجنوب الى الشمال، وكذلك اعادة انتشار"الجيش الشعبي لتحرير السودان"من شرق السودان الى داخل الجنوب، وعملية نزع السلاح من المليشيات المسلحة الاخرى. والمرحلة النهائية تبدأ بنهاية السنة السادسة الاخيرة للفترة الانتقالية، وتستمر لمدة ستة شهور وتتضمن تأسيس جيش سوداني وطني موحد في حال الوحدة. وبحسب الاتفاق أُقر دستور جديد للبلاد ثم تشكيل مجلس وزراء جديد لفترة ما قبل الانتخابات العامة ستجرى في منتصف الفترة الانتقالية. ويتألف المجلس من 30 وزيرا و34 وزير دولة. وقسّمت حقائب مجلس الوزراء وفق معادلة عامة يشغل بموجبها الشماليون 70 في المئة والجنوبيون 30 في المئة. وجرى ايضاً تشكيل البرلمان من غرفتين، الاولى مجلس وطني من 400 عضو بالنسب نفسها التي شكل مجلس الوزراء والاخرى مجلس للولايات من خمسين عضواً يمثلون ولايات البلاد ال 25. ولا تزال القضية العالقة هي ادارة العاصمة الخرطوم من طرفي اتفاق السلام. وستنشئ الرئاسة لجنة خاصة للتأكيد على حماية حقوق غير المسلمين في العاصمة القومية. ولكن طرفي الاتفاق لا يزالان مختلفين في امر ادارة الخرطوم. وفشلت لجنة مشتركة بينهما في حسم خلافاتهما مما اعتبر تحدياً يواجه تنفيذ الاتفاق. ومن القضايا العالقة ايضاً اعادة تشكيل الاجهزة الامنية وتعديل اكثر من ستين قانوناً، وكذلك ادارة منطقة آبيي الغنية بالنفط وهي احدى المناطق المهمشة الثلاث التي شملها اتفاق السلام بعدما اوصت لجنة دولية باعادة ترسيم المنطقة ومنح الجنوب اجزاء منها. رحيل مفاجئ وقيادة جديدة ويعتقد شركاء السلام والمراقبون الدوليون ان تنفيذ اتفاق السلام يمضي ببطء ويواجه اختباراً يتمثل في ان بعض القضايا اتفق عليها في شكل غير مفصل الامر الذي يجعل ترجمتها سبب خلاف بين طرفي الاتفاق. ولكن اكبر تحد واجهه الاتفاق تمثل برحيل زعيم"الحركة الشعبية لتحرير السودان"جون قرنق في تحطم مروحية اوغندية في نهاية تموز يوليو الماضي بعد ان قاد التمرد المسلح في جنوب السودان اكثر من 21 عاماً وحل نائباً اول للرئيس في قصر الرئاسة 21 يوماً. وكان رحيله المفاجئ صدمة للجنوبيين الذين كانوا يعلقون عليه امالاً كبيرة لتغيير حياتهم. ويجمع المتفقون والمختلفون معه انه كان شخصية كارزمية تتمتع بصفة الزعامة وان رحيله سرق الاضواء من الاتفاق وقلل من الآمال بإحداث تحول دراماتيكي كما كان متوقعاً. وعززت ذلك الاحداث الدامية التي وقعت في الخرطوم ومدن اخرى فى جنوب البلاد بعد اعلان مقتل قرنق، وراح ضحيتها نحو 130 مواطناً واصيب المئات في صدامات بين الشماليين والجنوبيين اكدت ان توقيع اتفاق السلام على الورق ليس كافياً وحده لازالة ازمة الثقة التي خلقتها اطول حروب القارة الافريقية. عام السودان في مجلس الأمن شكل السودان حضوراً لافتاً في اجندة وقرارات ومداولات مجلس الامن الدولي الرسمية وغير الرسمية خلال العام 2005، إذ كان من نصيبه 21 اجتماعاً رسمياً صدرت خلالها 6 قرارات في مقابل 4 قرارات العام المنصرم انصبت حول الوضع في دارفور والجنوب. واستمع الى 7 تقارير من الامين العام للامم المتحدة كوفي أنان متعلقة بالسودان وعدد آخر من التقارير قدمها مبعوثو الامين العام للامم المتحدة الى السودان، وبلغت قمة الاهتمام بالشأن السوداني خلال الجلسة التي انتقلت الى نيروبي، واخرى عقدها المجلس في 8 شباط فبراير 2005 وتكلم فيها النائب الاول للرئيس حينذاك علي عثمان محمد طه وزعيم"الحركة الشعبية"وقتذاك الدكتور جون قرنق. وصدر القرار 1585 في جلسة مجلس الأمن فى 10 اذار مارس الماضي واعاد تأكيد استعداده لدعم عملية السلام في السودان. ونص القرار ايضاً على تمديد ولاية بعثة الاممالمتحدة في السودان ينمس والتي شكلت بموجب القرار 1547 لعام 2004 الى 17 اذار 2005. و في جلسة المجلس فى 24 آذار الماضي صدر القرار 1590 وهو من اطول القرارات التي صدرت المتعلقة بالسودان، اذ جاء القرار في 6 صفحات واحتوى بين طياته 18 قراراً انشئت بموجبها بعثة الاممالمتحدة في السودان والتي تتكون من نحو 10 آلاف عسكري من بينهم 715 من المدنيين ورجال الشرطة لفترة ستة اشهر قابلة للتجديد، والطلب من هذه البعثة التعاون والتنسيق ومساعدة قوات الاتحاد الافريقي من اجل اعادة الامن وحفظه في دارفور ودعم الاتحاد الافريقي لإنجاح مفاوضات ابوجا. أما القرار 1591 فصدر في 29 اذار الماضى ونص على ان حكومة السودان والمجموعات المتمردة في دارفور لم تلتزم بشكل كامل بمطالب وقرارات مجلس الامن الدولي الرقم 1556 لعام 2004 والقرار الرقم 1564 لعام 2004 والقرار 1574 لعام 2004. ودان قرار المجلس خرق اطراف النزاع اتفاق وقف اطلاق النار الموقع بين الحكومة السودانية ومتمردي دارفور في إنجامينا بتاريخ 8 نيسان ابريل 2004 والبروتوكول الموقع في آبوجا بتاريخ 9 تشرين الاول اكتوبر 2004. ودان المجلس في هذا الاطار مهاجمة الحكومة لبعض المناطق ومهاجمة الحركات المتمردة لعدد من القرى في كانون الثاني يناير 2005 وكذلك عجز الحكومة السودانية عن تجريد مليشيات"الجنجاويد"المتحالفة معها من اسلحتها. وصدر القرار 1593 في جلسة مجلس الامن فى 31 اذار الماضي واحتوى 9 بنود ابرزها احالة الوضع في دارفور الى محكمة الجنايات الدولية في لاهاي وطلب من الحكومة السودانية وجميع اطراف النزاع في دارفور التعاون التام وتقديم المساعدات المطلوبة للمحكمة الدولية والمدعي العام للمحكمة مع اقراره بأن الدول غير الاعضاء في اتفاق روما الذي شكلت على اساسه محكمة الجنايات الدولية ليست ملزمة بها. وطالب القرار جميع المنظمات والدول تقديم الدعم والمساندة لمحكمة الجنايات الدولية. وطالب القرار المدعي العام للمحكمة الدولية بتقديم تقرير للمجلس بعد ثلاثة اشهر عن سير التحقيقات التي اجراها واحاطة المجلس بتقرير كل ستة اشهر. أما القرار 1627 فقد صدر في جلسة المجلس في 23 ايلول سبتمبر الماضي ونص على تمديد ولاية بعثة الاممالمتحدة في السودان"ينمس"حتى 24 اذار عام 2006 مع امكان تجديدها لفترة اخرى. وتعتقد القوى السياسية المعارضة بأن رفض الحكومة التفاهم معها واجراء مصالحة في البلاد وتشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة اغرى القوى الدولية للتدخل في شؤون السودان وممارسة ضغوط على السلطة والاستفراد بها مما ادى الى ميلاد اتفاق سلام منقوص لم يشمل غرب البلاد وشرقها، ووضع الوطن كله امام مخاطر التمزق والتشظي. ولكنها تتفق على ان اتفاق السلام وضع السودان في اعتاب مرحلة جديدة من التحول الديموقراطي وحسم الخلافات عبر صناديق الانتخابات التي ستجرى بعد ثلاث سنوات بدلاً من الاحتكام الى البندقية.