يوم 16 تشرين الثاني نوفمبر الجاري، أعلنت وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس في مؤتمر صحافي عقدته في القدس عن توصل الطرفين الفلسطيني والاسرائيلي الى"اتفاق المعابر"ينظم حركة الافراد والبضائع من والى قطاع غزة. وبينت وقائع اللقاءات الفلسطينية - الاسرائيلية التي سبقت الاتفاق انه لولا جهود الوزيرة رايس وتدخل الرئيس الاميركي بوش لما توصل الطرفان اليه. وكان رئيس الحكومة الاسرائيلية شارون وأركان المؤسسة الأمنية أبقوا، بعد تنفيذ"خطة الانفصال من جانب واحد"في قطاع غزة، ملفات أمنية كثيرة حساسة معلقة لمساومة القيادة الفلسطينية وابتزازها، أهمها: ملف الحركة في معبر رفح وادارته، دور طرف ثالث في تشغيل المعبر، بناء ميناء غزة وتشغيله، إعادة تشغيل"مطار عرفات"جنوب القطاع، تشغيل الممر الآمن بين الضفة الغربية وقطاع غزة... الخ. وبذريعة مقتضيات أمن اسرائيل، أمر موفاز المؤسسة الأمنية بإغلاق المعابر التي توصل قطاع غزة بالعالم الخارجي وباسرائيل والضفة الغربية. ورفض شارون الاستعانة بطرف ثالث، مصراً على رقابة اسرائيلية مباشرة على الحركة من القطاع وإليه، وطرح نقل معبر رفح الى منطقة"كيريم شالوم"عند ملتقى الحدود المصرية - الاسرائيلية - الفلسطينية. طال الاغلاق وتعقدت حياة الغزيين أكثر، ولم يتمكن المرضى والتجار والطلاب من قضاء حاجتهم خارج القطاع. وتأكد الناس ان هذ النوع من الانسحابات لم ينه الاحتلال، وحملوا السلطة مسؤولية تدهور أوضاعهم المعيشية وتحول قطاع غزة الى سجن كبير. ولم يكترث شارون لتشنج علاقة اسرائيل مع مصر ولا بالخسائر السياسية والمعنوية التي لحقت بالسلطة ورئيسها. ونجحت"حماس"والمعارضة الفلسطينية في تحميل السلطة مسؤولية استمرار الاغلاق وما ينتج عنه من عذاب للناس. واتهم بعضهم عباس بالتهاون في قطف ثمار انتصار غزة على الاحتلال، الذي تحقق بالعمل العسكري والعمليات"الانتحارية"، حسب رأيهم. في حينه لم تفلح جهود عباس والقيادة المصرية وملك الأردن عبدالله الثاني، ولا جهود اللجنة الرباعية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي في ثني شارون وأركانه عن موقفهم، وظهروا كأنهم يريدون اضعاف الرئيس عباس والتيار الواقعي، وتعزيز مواقف"حماس"والاتجاه الفلسطيني المتطرف. وشددوا الحصار والاغلاق بأمل انفجار الوضع الفلسطيني الداخلي واندلاع حالة من الفوضى في القطاع، تبرر لهم وقف التنسيق مع الجانب الفلسطيني وعزل القطاع عن العالم. وحمل عباس هذا الملف الى واشنطن مصارحاً الرئيس الاميركي بأن الموقف حرج وصعب بالنسبة الى السلطة. وأشار الى ان استمرار شارون في مواقفه المعادية للسلطة وعرقلة الانتخابات التشريعية الفلسطينية ومنع حماس من المشاركة، واستمرار الحصار واغلاق المعابر... الخ تضعف السلطة وتحرجه شخصياً، وتعزز الاتجاهات المتطرفة في الشارع الفلسطيني. وسمع أبو مازن في البيت الابيض وعوداً مهمة، وقرر الرئيس بوش ارسال الوزيرة رايس للمساعدة في معالجة الأزمة. وفي رام الله سمعت رايس من عباس واركانه عرضاً مفصلاً لممارسات حكومة شارون المدمرة للمجتمع الفلسطيني والسلطة وبذور السلام. وشرح ابو مازن خطورة موقف شارون وشروطه بشأن تشغيل معبر رفح، وبين أهمية الاستعانة بطرف ثالث في تشغيل هذا المعبر والمعابر الأخرى وضمنها الميناء والمطار. وبذلت رايس جهداً كبيراً وعقدت لقاءات كثيرة مع شارون وأركانه، وأجلت سفرها الى آسيا 24 ساعة، وساهم موفاز وبيريز في بلورة الاتفاق الذي اعلنته قبل ان تكمل رحلتها. وسجل لها المراقبون فوزاً مهماً يمكن الرئيس بوش توظيفه في تحسين شعبيته المتدهورة وكسب بعض النقاط الايجابية في سياسته الشرق أوسطية المثقلة بسلبيات التورط في المستنقع العراقي والملطخة بدماء الجنود الاميركيين والمواطنين العراقيين الابرياء. ومنذ الاعلان عن الاتفاق انقسم أطراف النظام السياسي الفلسطيني حوله، ورأت فيه"حماس"وقوى اخرى في المعارضة سابقة خطيرة تتضمن تنازلاً كبيراً عن حقوق فلسطينية. ويعتقد آخرون انه كان بالإمكان تحقيق اتفاق أفضل من ذلك بكثير. وهناك من يرى في الاتفاق انجازاً مهماً للفلسطينيين في مرحلة صعبة، ودعا الى التعاطي مع الموضوع بواقعية، والى مراقبة سلوك اسرائيل، معتبراً ان الاتفاق مرشح لتلاعب اسرائيلي وان تنفيذه لن يكون سلساً في عهد شارون. واعتقد ان المصالح الفلسطينية العليا تفرض على الحركة الوطنية التعامل مع الاتفاق بصورة موضوعية، والاقرار بأن الأمنيات والرغبات الذاتية شيء وامكان تحقيقها الآن أو غداً شيء آخر. وعليهم ان لا ينسوا انه نتاج موازين قوى وظروف دولية. الى ذلك، ارى ان لا مصلحة لاي طرف فلسطيني في تجميل الاتفاق واخفاء عيوبه، وهو مليء بالثغرات ويجحف بالحقوق الفلسطينية. ويعرف أشد المتحمسين له انه ناقص وغير منصف ولم يحقق المطالب الفلسطينية كلها، ولم يؤمن الحقوق الطبيعية للانسان الفلسطيني كاملة. واعتقد ان على السلطة واجهزة الاعلام الفلسطينية ان تسمي الأمور بأسمائها وأن تعترف بأن المفاوض الفلسطيني اضطر للتراجع عن مواقف ظل يتمسك بها، ووافق مكرهاً على مسائل تفصيلية وأخرى تمس بالسيادة الفلسطينية منها وجود الأمن الاسرائيلي في غرفة رقابة تلفزيونية مشتركة يقودها الطرف الثالث، ويجب عدم التردد في القول ان"اتفاق رايس"لم ينه الاحتلال للقطاع، ولا يزال الاحتلال يتحكم بكثير من مناحي حياة الغزيين. وتخطئ السلطة أكثر ان هي اشاعت، او تصرفت، كأن مشكلة المعابر قد انتهت، وكذلك ان تراخت في ملاحقة الحقوق الواردة في الاتفاق فلا أحد يضمن التزام شارون باتفاق رايس. في المقابل لا يستطيع ألد أعداء"اتفاق رايس"انكار انه يحسن ظروف حياة الناس في قطاع غزة ويخفف معاناتهم ويعزز ثباتهم في الارض في زمن غياب الحلول السياسية. ولا يمكن لأحد تلبيسه تهمة اغلاق الطريق وتعطيل امكان انتزاع حقوقه المغتصبة. وأكد وهم الفرضية التي راجت بعد اوسلو وقالت لا ضرورة لطرف ثالث ذي رأي ملزم ويمكن للطرفين حل نزاعهما وحدهما. ونسف مقولة آلية عملية السلام كفيلة بمراكمة طاقة ذاتية وخلق ثقة متبادلة تضمن تواصل العملية وتوصلها الى محطتها النهائية من دون تدخل ميداني من طرف ثالث. وبين الاتفاق ان اقتصار دور الراعي على مهمات فوقية والاكتفاء بتقديم نصائح ومساعدة الطرفين في الوصول الى طاولات المفاوضات غير كاف لحل قضايا الخلاف الجوهرية. في المقابل، ليس صحيحاً القول ان الجانب الاسرائيلي حقق مطالبه وشروطه كاملة، فالمؤسسة الأمنية الاسرائيلية تراجعت عن نقل معبر رفح الى"كيريم شالوم"، ولم تحصل على البث المباشر لكل حركة في المعبر على مدى ال24 ساعة، وتخلت عن مطلب اعتقال المشتبه بهم والمطلوبين للأمن الاسرائيلي، كما تراجع شارون عن رفض دور"الطرف الثالث". ووافقت اسرائيل والادارة الاميركية للمرة الأولى على دور ميداني للاتحاد الأوروبي في معالجة النزاع. وقبل الاتحاد الأوروبي"مشكوراً"القيام بمهمة ميدانية حساسة. وحسناً فعل الاوروبيون عندما عينوا ضابطاً ايطاليا لقيادة المهمة. فالموقف الايطالي من النزاع يحظى باحترام الفلسطينيين. وتقدر منظمة التحرير عالياً موقف الطليان المساند للنضال الفلسطيني. وتكن القوى الوطنية الاحترام والتقدير للجنود ورجال الأمن الايطاليين، ولم ينسوا دورهم النزيه في حماية المخيمات في بيروت بعد مجازر صبرا وشاتيلا عام 1982، وعملهم الانساني في تضميد جراح المخيمات، ودورهم الأمني الحيوي في المحافظة على حياة من بقي من كوادر الثورة في بيروت بعد رحيل المنظمة الى تونس. لا شك ان هذا التطور في الموقفين الاميركي والاسرائيلي من الدور الأوروبي يمثل سابقة مهمة يمكن البناء عليها، ويؤكد خطأ المفاوض الفلسطيني الذي ظل يتصرف على قاعدة استحالة قبول اسرائيل دوراً ميدانياً لطرف ثالث حتى لو كان هذا الطرف"أعز حلفاء اسرائيل". وأظن ان تكرار هذه السابقة في المعابر بين الاردن وفلسطين فكرة واقعية ممكنة التحقيق تستحق تعاوناً هادئاً فلسطينياً - أردنياً في العلاقة مع الادارة الاميركية والاتحاد الأوروبي واللجنة الرباعية. فتكرار اتفاق رفح على الجبهة الأردنية فيه مصلحة لأربع جهات ويخدم فكر السلام: يريح الأردنيين سياسياً ومعنوياً، ويخفف معاناة الفلسطينيين، ويوفر الأمن للاسرائيليين ويقلص الاحتكاك السلبي الذي يراكم الحقد في النفوس، وأظن انه يساعد الادارة الاميركية في تحسين صورتها في الشارع العربي، خصوصاً الأردني والفلسطيني. وشارون الذي وافق على منح أوروبا دوراً في رفح لا يستطيع رفض منحها الدور ذاته في المعابر على نهر الأردن. وفي كل الحالات يبقى، في هذا الزمن الرديء ان اتفاقاً ناقصاً يخفف من عذاب الناس خير من لا اتفاق اطلاقاً. والسؤال المطروح ليس هل ينتقص الاتفاق من السيادة أم يصونها كاملة، بل هل يخدم الاهداف المباشرة والاستراتيجية البعيدة المدى؟ وحسب مقولة"الامور تقاس بنتائجها"يفترض ان لا يكون هناك خلاف على أن"اتفاق المعابر"حسن الموقف الفلسطيني وخفف معاناة الناس، ويساهم في تثبيتهم في الأرض. كاتب فلسطيني، رام الله.