عندما وقعت هزة النفط عام 1973، وقفزت الأسعار قفزة كبيرة من دولارين وربع الدولار الى نحو تسعة دولارات في غضون أشهر قليلة، بدأ العالم يعاني ظاهرة أطلق عليها الاقتصاديون آنذاك اسم"الكساد التضخمي". وهي دورة اقتصادية لم يتحدث عنها أحد من الاقتصاديين الكلاسيكيين أو من مدرسة"كينز"، عالم الاقتصاد الذي أدخل في ثلاثينات القرن الماضي تعديلات على فرضيات النظرية الكلاسيكية، حتى تستطيع أن تقدم تفسيراً ومن ثمّ حلولاً لأزمة الكساد الاقتصادي الكبير الذي ضرب العالم بدءاً من عام 1929، بعد هبوط الأسهم المُدوي في شارع"وول ستريت"في نيويورك في العام نفسه. وبحسب نظريات كينز الاقتصادية وتلاميذه المخلصين مثل ه. ر. هيكس وهارود وستيغلر وغيرهم، فإن ظاهرة الركود الاقتصادي أو ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل لا تجتمع على الاطلاق مع ظاهرة التضخم، او الارتفاع في الأسعار. وقد أجرى أحد اتباع نظرية الاقتصادي كينز Keynes، واسمه فيليبس، دراسة احصائية عن بريطانيا قارن فيها بين التغير في معدلات البطالة من ناحية، والتغير في معدلات الأسعار خلال ستين عاماً، فوجد ان العلاقة بين الاثنين سالبة ومنحدرة. وبمعنى آخر، فإن الخط أو المنحنى الرابط بين تغير الأسعار وتغير معدلات البطالة هو منحنى سالب ومنحدر. ولذلك استنتج فيليبس ان ارتفاع الأسعار يؤدي الى انخفاض معدلات البطالة. وان انخفاض الأسعار يزيد من نسبة البطالة. أما ان يزيد الاثنان معاً في الاتجاه نفسه، فهذا أمر ظن الاقتصاديون انه غير ممكن. وبقيت هذه الفكرة سائدة ومسيطرة على الفكر الاقتصادي، وأثرت في صنع القرارات الاقتصادية، حيث كان صناع القرار يسمحون للتضخم بالارتفاع كثمن، في مقابل التخلص من بعض البطالة أو زيادة عدد فرص العمل. ولكن ارتفاع اسعار النفط عام 1973 بهذا الشكل المفاجئ والكبير بعد استقرار دام منذ العشرينات من القرن نفسه، أخذ اقتصادات العالم على حين غرة. فوجدت ان معدلات الأسعار ترتفع فيها لمواجهة التكاليف الاضافية، من غير ان يؤدي هذا الارتفاع الى إغراء المنتجين لزيادة إنتاجهم، ومن ثم توفير فرص عمل إضافية. بل حصل عكس ذلك، إذ ان تكاليف الانتاج الاضافية استنفذت الموارد المخصصة للانتاج الحالي، ما دفع بعض المنتجين الى تقليل حجمه لاحقاً والتخلص من بعض العمالة لديه. وقام الاقتصادي فريدريك فون هايك باستعادة الأفكار السابقة، ووضعها ضمن إطار نظري جديد، حتى يفسر لنا هذه الدورة الاقتصادية الجديدة التي لم يعرف لها العالم قبل ذلك نظيراً. وفي السنين الأخيرة من القرن الماضي، شهد العالم أكثر من أزمة اقتصادية. ومنها على سبيل المثال هبوط أسعار الأسهم، ثم عملات بعض دول جنوب شرقي آسيا مثل تايلاندا وأندونيسيا وماليزيا، امتدت الى بعض الدول المجاورة بدرجة أقل، مثل سنغافورة وتايوان ومنطقة هونغ كونغ. ولكن العالم كان أدرك أهمية وضع الآليات المشتركة للاستجابة لمثل هذه الطوارئ. ولا ننسى أيضاً ان هذه الدول التي عانت النكسة الاقتصادية كان لديها قاعدة انتاجية قوية مكنتها من النهوض السريع. ومن منا ينسى تلك المناظرة الحامية في دافوس عام 1997 بين رئيس وزراء ماليزيا آنذاك، مهاتير محمد، ورجل الأعمال المضارب جورج سوروس. لقد كشفت تلك المناظرة أن الاقتصاد العالمي بحاجة الى بعض الأخلاق وسلوكيات الشرف في التعامل. وان القواعد الاقتصادية الاستعمارية التي تمكن دولة ما من الإثراء على حساب إفقار جاراتها، أو الهروب والتمترس خلف أبواب الحمائية عند وقوع الكارثة ليس من الأعمال النافعة ولا المقبولة. وحصلت بعد ذلك أزمة التراجع الكبير في سوق بورصة نيويورك في نهاية القرن العشرين، ومع قدوم الألفية الجديدة بدأت الأحلام الوردية والغنى المستمر الأبدي تتلاشى عندما بدأت أسعار أسهم الشركات ذات الدم الأزرق بالتراجع، مُذيبة معها الجيوب والقلوب. ولكن الوسائل التصحيحية التي ابتكرها العالم، والاجراءات الأخرى المتمثلة في السياسات النقدية والسياسات المالية قد وفّرت للعالم المتصاغر زماناً ومكاناً، الوسائل الحديثة لمواجهة الطوارئ. وفي حين برزت خلال أزمات التسعينات من القرن الماضي كتب متشائمة محذرة مثل"موت الاقتصاد"و"نهاية التاريخ"وپ"سقوط القوى العظمى"، وكثرت التنبؤات الدينية عن قرب يوم الساعة أو الحشر، أو"النفير الأكبر"، بدأ العالم يتأقلم مع دنيا الفقاعات والبالونات الاقتصادية. بدأت الجامعة العربية سنة حميدة في عقد ندوة متخصصة في القاهرة يوم الأحد الماضي عن ظاهرة الفقاعات الاقتصادية. وكتب الورقة الرئيسة لها الدكتور محمود عبدالفضيل، الاقتصادي المصري العربي المميز، وقد كنت أحد معلقين اثنين عليها. وكان هنالك نقاش وحوار واستنتاجات، تستحق بحثاً آخر. خبير اقتصادي لدى "البصيرة" للاستشارات.