القصيم.. بيئة مثالية للاستثمار    نائب وزير الخارجية يستقبل السفير الأمريكي لدى المملكة    المملكة تدين القصف الإسرائيلي على مدرسة أبوعاصي في غزة    الحكومة الرقمية تطلق كود المنصات توحيدا للهوية الرقمية    إحباط 3 محاولات لتهريب 645 ألف حبة محظورة وكمية من الشبو    وزير الصحة: 10 % نموي سنوي لقطاع الأدوية بالمملكة    مشاركة عربية قياسية محتملة في أمم أفريقيا 2025 وغياب غانا والرأس الأخضر أبرز المفاجآت    أكثر من 6 ملايين عملية إلكترونية عبر «أبشر» في أكتوبر 2024    الهيئة العامة لمجلس الشورى تعقد اجتماعها الرابع من أعمال السنة الأولى للدورة التاسعة    شراكة إعلامية سعودية صينية تطلق برامج تنفيذية مع القطاعين العام والخاص    تدشين 3 عيادات تخصصية جديدة في مستشفى إرادة والصحة النفسية بالقصيم    محافظ الطائف يلتقي مديرة الحماية الأسرية    مقتل المسؤول الإعلامي في حزب الله اللبناني محمد عفيف في قصف إسرائيلي على بيروت    رئيس مجلس الشورى يرأس وفد السعودية في الاجتماع البرلماني بدورته ال 29 لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في باكو    انتظام اكثر من 389 ألف طالب وطالبة في مدراس تعليم جازان    "سعود الطبية" تستقبل 750 طفلاً خديجًا خلال 2024م    "وزارة السياحة": نسبة إشغال الفنادق في الرياض تجاوزت 95%    "دار وإعمار" تختتم مشاركتها في "سيتي سكيب جلوبال" بتوقيعها اتفاقياتٍ تمويليةٍ وسط إقبالٍ واسعٍ على جناحها    نمو سجلات الشركات 68% خلال 20 شهراً منذ سريان نظام الشركات الجديد    "الأرصاد"سماء صحو إلى غائمة على جازان وعسير والباحة ومكة والمدينة    وزير الرياضة يشهد ختام منافسات الجولة النهائية للجياد العربية (GCAT)    المكسيكي «زوردو» يوحّد ألقاب الملاكمة للوزن الثقيل المتوسط لWBO وWBA    شمال غزة يستقبل القوافل الإغاثية السعودية    «الطاقة»: السعودية تؤكد دعمها لمستقبل «المستدامة»    اللجنة المشتركة تشيد بتقدم «فيلا الحجر» والشراكة مع جامعة «بانتيون سوربون»    بيولي ينتظر الدوليين قبل موقعة القادسية    «إعلان جدة» لمقاومة الميكروبات: ترجمة الإرادة الدولية إلى خطوات قابلة للتنفيذ    5 فوائد صحية للزنجبيل    اختلاف التقييم في الأنظمة التعليمية    المتشدقون المتفيهقون    الإستشراق والنص الشرعي    بيني وبين زوجي قاب قوسين أو أدنى    أهم باب للسعادة والتوفيق    إطلاق النسخة الرابعة من «تحدي الإلقاء للأطفال»    السخرية    المؤتمر العالمي الثالث للموهبة.. عقول مبدعة بلا حدود    أمن واستقرار المنطقة مرهون بإقامة دولة فلسطينية مستقلة    اكتشاف تاريخ البراكين على القمر    البيان المشترك الصادر عن الاجتماع الثاني للجنة الوزارية السعودية- الفرنسية بشأن العُلا    تجاوز الدحيل القطري.. الخليج ينفرد بصدارة الثانية في «آسيوية اليد»    محافظ محايل يتفقد المستشفى العام بالمحافظة    14% نموا في أعداد الحاويات الصادرة بالموانئ    وزير الدفاع ونظيره البريطاني يستعرضان الشراكة الإستراتيجية    الحكمة السعودية الصينية تحول الصراع إلى سلام    الابتسام يتغلّب على النصر ويتصدّر دوري ممتاز الطائرة    دخول مكة المكرمة محطة الوحدة الكبرى    رحلة قراءة خاصة براعي غنم 2/2    وطنٌ ينهمر فينا    المرتزق ليس له محل من الإعراب    حكم بسجن فتوح لاعب الزمالك عاما واحدا في قضية القتل الخطأ    «الجودة» في عصر التقنيات المتقدمة !    ألوان الأرصفة ودلالاتها    خطيب المسجد الحرام: احذروا أن تقع ألسنتكم في القيل والقال    أمير تبوك يطمئن على صحة الضيوفي    ختام مسابقة القرآن والسنة في غانا    أمير الباحة يكلف " العضيلة" محافظاً لمحافظة الحجرة    مركز عتود في الدرب يستعد لاستقبال زوار موسم جازان الشتوي    عبدالله بن بندر يبحث الاهتمامات المشتركة مع وزير الدفاع البريطاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هل تحدث تقنية المعلومات ثورة في المعايير الاقتصادية المألوفة ؟
نشر في الحياة يوم 15 - 11 - 1999

مدرسة "الاقتصاديين الجدد"، او اقتصاديو "الحقبة الجديدة" في الولايات المتحدة، يملأون الكون ضجيجاً: لقد انتهت مفاعيل القوانين الاقتصادية القديمة، لا سيما الانتكاسة الدورية التي لا بد ان تتلو كل صعود. وهذه انما انتهت لأن الاقتصاد التقني وثورة المعلومات وضعا لها حداً.
ومثل كل كلام عن "الجديد"، هناك رؤيوية تبعث على القلق، قابلة دوماً لهذا القدر او ذاك من الاسفاف الشعبوي. لكن يبقى من اللافت النجاح الباهر للاقتصاد الأميركي "الجديد"، وخيبة سائر التوقعات المتشائمة التي تنذر، منذ فترة، بالويل والثبور.
هذا لا يلغي بالطبع ضرورة الانصات الى وجهات نظر المنتقدين، مع ملاحظة الضمور الذي يصيب بعض انتقاداتهم كما يصيب اعدادهم: فبعد ان كان "التفاؤل" يقتصر على رجال الأعمال والمصارف والموظفين في المؤسسات المالية والاقتصادية، بدأ اقتصاديون كانوا قد اعتصموا قبلا بحبل الشك، يميلون الى القبول بالفرضيات الجديدة.
وما تراه وجهة النظر النقدية التقليدية ان ثمة حدوداً تم تجريبها والتيقّن منها في ما خص مدى الانخفاض الذي يمكن ان تبلغه البطالة، او مدى سرعة نمو الاقتصاد من دون اطلاق تضخّم متسارع. وهذه الحدود هي: نسب بطالة ما بين 5 و6 في المئة، ونسب نمو في حدود 3 في المئة. الا ان الاقتصاد الاميركي تجاوز هذه النسب كثيراً.
واذا لاحظ التقليديون ان ضبط التضخم على هذا النحو انما حصل بفعل عناصر خاصة وعارضة، كالأزمة المالية الآسيوية وهبوط أسعار السلع وتراجع الضغط عن الأجور الأرفع للعمال، فالواضح ان مراجعهم الأساسية هي دروس الماضي: فهم يستشهدون بمعظم التوسعات الاقتصادية التي جرت منذ الحرب العالمية الثانية، وانتهت جوهرياً هكذا: انفاق من قبل البيزنس والمستهلكين، وتجاوز الحكومة لطاقة الاقتصاد على الانتاج، ومن ثم اطلاق التضخم والركود والسياسات المالية المقيّدة. اما في ما خص الثورة التقنية نفسها، فهي، في رأيهم، لم تُحدث نمواً في الانتاجية يعاكس الوجهة التي بدأت مطالع السبعينات.
بيد ان التحليل تبعاً لدروس الماضي هو ما تعرّضه التغيرات المتسارعة لتحديات جديّة: ذاك ان تحرك الاقتصاد واتجاه النمو والانتاجية في خط صعودي، وانكماش البطالة والتضخم، تعني مجتمعةً أن الآثار التي طال انتظارها لثورة الكومبيوتر، بدأت تنقشع وتتجسد. وفي هذا المعنى يعترف أغلب أطراف السجال الأميركي الراهن بأن حجج مدرسة "الحقبة الجديدة" تقوى يوماً بيوم، فيما يلقى حديثهم عن ان تكنولوجيا المعلومات وثورة المواصلات والعولمة تغير جذريا طرق اشتغال شركات البيزنس الاميركية، قبولا اكبر ولو على مضض احياناً. فتقنية الكومبيوتر مصحوبة بالسوق الكونية، ستسمح للاقتصاد الاميركي بان ينمو بسرعة اكبر بما لا يقاس من دون ان يصاب بالالتهاب والحماوة.
والحال ان التوسع الاقتصادي البادىء منذ نيسان ابريل 1991 هو اطول توسّع في أزمنة السلم عرفته اميركا، واذا ما استمر حتى شباط فبراير 2000 سيصير الأطول في التاريخ الأميركي كله، بحسب ما كتب روجير ألكالي في "نيويورك ريفيو أوف بوكس".
وما يراهن عليه الجدد يستند الى مقدمات كامنة في طبيعة الاقتصاد التقني نفسه. ففي ظل تنافس مفتوح لسوق عالمية مفتوحة، لا بد من "الاختراع الدائم" لحقول جديدة في الاستثمار والبحث والانتاج، وهذا ما يجعل القوانين الصالحة لاقتصاد قائم على العمليات التكرارية غير صالحة لاقتصاد جوهره التجديد والتوسع.
والواقع انه حتى قبل انفجار الثورة التقنية، كان يلاحظ ان الطاقة التوليدية للنمو في قطاع التقنية تفوق مثيلتها في سائر جوانب الاقتصاد وقطاعاته. فالصناعات المستدعية للأبحاث، اي الطيران والكيماويات والمواصلات والكومبيوتر والمواد الصيدلية والادوات العلمية وقطع الغيار والحاسبات، كانت نمت في العقدين الماضيين ضعف معدل نمو الاقتصاد ككل. وهذا مع العلم ان المؤسسات والشركات الاشد استخداماً للتقنيات المتقدمة هي الاشد انتاجية وربحية، وفي الآن نفسه هي الاعلى اجورا ومرتبات، لكنها، وهذا هو الاهم، الاكثر توليدا لفرص عمل جديدة.
هكذا فحجم السلع والخدمات الذي ينتجه الاقتصاد الأميركي، اي الناتج المحلي الخام، نما منذ 1996 بمعدل سنوي يقارب ال4 في المئة، بعدما اقتصر اكثر الاقتصاديين تفاؤلاً على توقع 3 في المئة. اما انتاجية العمل، اي ثمرة الاقتصاد في ساعة عمل وبالتالي مصدر مستوى المعيشة، فنمت مذاك بمعدل سنوي يتعدى ال2 في المئة، و3 في المئة في الأشهر الأخيرة، وكان الشائع أنها لن تنمو. وبدورها وقفت نسبة البطالة عند 3،4 في المئة، اي ادنى مما كانت عليه منذ اي وقت في الستينات. ومع نمو الطلب على العمل صارت فرص العمل اكثر استقرارا، ما فرض ارتفاعا في الاجور. وبالنتيجة شرع تفاوت المداخيل يضيق بعدما كان اتسع اتساعا دراميا في الثمانينات. وذوى التضخم، فلم ترتفع اسعار الاستهلاك في العام الماضي الا 2 في المئة.
ولأن وتائر النمو البطيئة التي بدأت مع مطالع السبعينات، انتهت بقيام العصر المعلوماتي الجديد، يبدو معظم اميركا اليوم متفائلاً وواثقاً بعد طول تشكيك بالمؤسسات وبمستقبل الوجهة العامة. ذاك ان التباطؤ الاقتصادي المديد كان ولّد قناعات واسعة بأن الحكومة كفّت عن العمل، لا سيما برامجها الاجتماعية، فيما كانت العائدات الفيدرالية تكفّ، بدورها، عن الارتفاع معززةً الصورة التي اشاعتها الريغانية عن الدولة بصفتها عبئاً فحسب. كذلك ففي الفترة الماضية زادت الجريمة وزاد التوتر الاجتماعي والتصدع العائلي، خصوصاً في دواخل المدن وبين الملوّنين، وراحت الفوارق في الاجور بينهم وبين البيض تتسع بعدما ضاقت خلال 1965 - 1975.
والآن عاد فقراء دواخل المدن الى العمل وراحت الجريمة تنخفض. وحتى بعض الشكاكين الذين يردون التقدم الحاصل الى اعتبارات ظرفية، ملتقطين بعض حججهم من الارتفاع الطفيف الذي شهدته معدلات التضخم مؤخراً ومن تراجع الدولار امام الين، يقولون ان شكوكهم قد لا تؤلّف وجهة يُعتد بها، خصوصاً في ظل الاطمئنان الذي توفره نسبة البطالة المنخفضة.
وفي مناخ "الحقبة الجديدة" تظهر الأدبيات بوتيرة يومية لتقطع بأن الاقتصاد الاميركي لم يحقق فقط تحسينا كبيرا في مستويات المعيشة خلال السنوات الثلاث الماضية، بل ان معظم الاميركان، بمن فيهم الفقراء، تتحسن اوضاعهم منذ السبعينات. ويرى كتّاب هذا الأدب ان الآراء المعاكسة المستندة الى تجارب الماضي، انما تقوم على اساءة تأويل للأرقام والمعطيات، والى تأثّر برضّات الثمانينات وأوائل التسعينات، إن لم يكن بالكساد الكبير الذي لم يبرأ منه الاقتصاد السياسي حتى اللحظة.
ومن محطات السجال طعن الجدد بطرق القدامى في الحسبة الاقتصادية. اذ يرى الأخيرون ان الاجور الحالية لا تزال، رغم كل التحسن، اقل بحوالي 10 في المئة مما كانت عليه في 1973 رغم كل التحولات الايجابية للسنوات الماضية. ويستغرب الجدد اعتماد هذا المعيار الذي يعني ان مَن عمره اليوم 30 سنة يتمتع بدخل اقل من دخل مَن كان عمره 30 سنة في 1973! فالحسبة البديل انما تقوم على قياس الصحة الاقتصادية للأمة بالدخل الفردي: اي مجموع ما يربحه مِن ابناء البلد كل رجل او امرأة معطوفاً على ما يعود بالنفع على الاطفال والصغار. فهذا القياس انما يغطي الدخل كله بما في ذلك فوائد البنوك والأرباح والايجارات، كما يقيس افضل المكاسب التي يوفّرها العمل كالضمان الصحي.
ولئن أقر القدامى بان الدخل الفردي ارتفع فعلا ارتفاعا معتدلا ولو بوتيرة ابطأ بوضوح مما كانت عليه الحال في الخمسينات والستينات، فانهم يُرجعون سبب الارتفاع الى ما يتغافل عنه المتفائلون: فنسبة العاملين من الاميركان اعلى بكثير مما سبق وهذا من ثمار موجة انفجار الولادات بعد الحرب الثانية ممن دخلوا سوق العمل مطالع السبعينات. ثم ان 57 في المئة من النساء يعملن الآن قياساً ب36 في المئة مطالع السبعينات. وبالنتيجة فان 52 في المئة من مجموع السكان لديهم الآن أشغال قياساً ب38 في المئة خلال معظم التاريخ الصناعي لاميركا. وهذا ما يفسر كيف ان الدخل الفردي ارتفع اكثر من الاجور، لكنه لا يعني اننا افضل حالا. انه يعني، فقط، انه بات علينا ان نعمل اكثر للحصول على حاجاتنا، والا لكان ارتفاع نسبة العاملين كفيلا بتحسين مستوى المعيشة اكثر بكثير مما تحقق. والحال انه لو لم يكن اثنان يعملان في العديد من العائلات الاميركية لانخفض كثيرا دخل العائلات على مدى السنوات الماضية. يضاف الى ذلك، كما يرى النقاد، ان تحسن الدخل حصده الميسورون عموماً، أكان في الأفراد أم في العائلات. فال5 في المئة الأغنى بين العائلات كسبوا 6،15 في المئة من مجموع المداخيل عام 1969، الا انهم في 1996 كسبوا 3،20 في المئة منها، بحسب الارقام والنسب التي يوردها جيف مادريك في "نيويورك ريفيو اوف بوكس".
وبدورها فجماعة "الحقبة الجديدة" لا تنكر ان المداخيل تتوزّع الآن بصورة أشد تفاوتاً، لكن جوابهم ان حِراك الدخل لا يزال مرتفعاً جدا في أميركا. اي ان نسبة عالية من اولئك الذين يبدأون فقراء وفي اوضاع اقرب الى الهشاشة الاجتماعية، لا يلبثون ان يصعدوا الى مستويات دخل ارفع. وهذا ما توجد كتابات وارقام كثيرة تؤكده تأكيدها على تجاوُر التفاوت الراهن مع وفرة لا سابق لها في التاريخ.
ثم ان الحسبة، هنا أيضاً، لا بد من تغييرها: فشراء نصف غالون حليب استغرق في 1997، 7 دقائق عمل، بعدما كان يستغرق 10 دقائق في 1970. وشراء مكيّف لغرفة صار يستغرق 23 ساعة قياسا ب45 في 1970، وبعدما كان شراء سيارة فورد غالاكسي يستغرق 1400 ساعة في 1978، اصبح شراء فورد تورس لا يستغرق، في 1997، الا 1365 ساعة. فحتى الأميركان الذين يجنون معدل الأجور الوسطي غدوا قادرين على ان يشتروا اكثر مما كان في وسعهم قبلا، على رغم تدهور متوسط الاجر. ذاك ان الكثير من السلع غدا يُنتَج بشكل اقل تكلفة واكثر انتاجية مما كان قبلا، والشيء نفسه يصحّ على بعض الخدمات.
مع هذا، وكما يرى الشكّاكون، لا تصح هذه المعادلة على السلع والخدمات جميعاً، لا سيما منها الشيئين الأهم، اي التعليم والصحة حيث تضاعف الانفاق عليهما للشخص الواحد قياساً بما كان الحال في 1970.
وهنا يبرز مجدداً بين حجج المتفائلين والجدد موضوع الاختراع والتجديد. فالتقدم لا يتوقف، والكثير الكثير من السلع الجديدة والمثيرة صار مطروحاً بأسعار متيسرة حتى للفقراء نسبياً. وفي كتاب اصدره عام 1997 وليم سيشل، وهو اقتصادي يعمل في البنك المركزي، باسم "ثورة الكومبيوتر"، حاجّ بأن الاستثمار في الكومبيوترات وقطع غيارها وما يتصل بها لا يزال غير كاف الى الحد الذي يولّد النمو المتوقع. فالاستثمار هذا لا يزال، في رأيه، يشكل القليل من رأسمال الأمة، وهذا ناتج عن قابليته للتقادم السريع وصيرورته خارج الاستخدام. لكن سيشل اضاف في مقالة لاحقة نشرها في "بيزنس ويك" ان الاستثمار في الكومبيوتر زاد كثيرا في السنتين الماضيتين، ومن ثم فان الكومبيوترات غدت تضيف قيمة واهمية لا سابق لهما الى البيزنس، بحيث صارت مساهمة الكومبيوترات في النمو اكثر من ملحوظة. وكانت وزارة التجارة اصدرت مؤخراً تقريراً يقول ان صناعة تكنولوجيا المعلومات باتت تؤمّن ثلث اجمالي النمو في السنوات القليلة الفائتة. لكن يبقى، كما يضيف القدامى، ان السلع ذات النوعية الارفع والاشد تنوعاً، لا تزال تتجه عموما الى الاغنى ممن يتدبّرون اثمانها بسهولة. وهذا ما يقود الى ان مدلولات "الطبقة" تتعدل بسرعة توازي سرعة التقدم الحاصل: فليست نوعية التقدم وحدها ما يهم، بل ايضا نسبة التقدم ووتيرته. ذاك ان اضافة ثلاثة انواع جديدة من صنف معين الى السوبر ماركت تصبح قليلة الاهمية اذا كان هناك اصلا 20 صنفا موجودا، لكنها تغدو شديدة الاهمية حين لا يكون هناك الا صنفان.
والحقيقة ان متطلبات الانضمام الى الطبقة الوسطى تتواصل ارتفاعاً، لا سيما وان نسبة صغيرة من الاميركان الذين ارتفعت مداخيلهم بسرعة لا يزالون يرفعون المستوى على قدم وساق. فاذا صح، بالتالي، ان كثرة متعاظمة من الاميركان باتت قادرة على اقتناء سلع الماضي بيسر، وهذه علامة تقدم مؤكد، الا ان من يستطيع فقط ما كانت الطبقة الوسطى الاميركية في الخمسينات تستطيع اقتناءه الثياب، حاجيات البيت، بعض الأدوات الكهربائية، العطلة، لا يجوز الآن اعتباره في عداد الطبقة الوسطى. وهذا مع العلم بأن عناصر عدة تحيط تعريفاً بهذه العملية كانت افضل كثيرا في السابق: هواء انظف، اوتوسترادات اقل ازدحاماً، نسب جريمة اقل بكثير... وبهذا المعنى فان الطبقة الوسطى انكمش حجمها، تبعاً للنقاد، عما كانت في الستيات والسبعينات.
ووراء هذا التحفظ يكمن، بحسب النقاد، سبب أوجه لا يلبثون ان يعودوا اليه مرةً بعد اخرى في مساجلتهم: ففي عرفهم ان ما يفسّر انخفاض التضخم، بالدرجة الاولى، الانخفاض السريع للاستيراد ولأسعار السلع بعد الازمة المالية الآسيوية، وهذا ما يوحي لهم ان الأمر موقت، وان قدرة اميركا على خفض البطالة مرهونة جزئياً، والبعض يقول أساساً، ب... الحظ. فالأمم الآسيوية المضطربة والمأزومة خفضت كثيرا اسعار صادراتها للمساعدة على انقاذ اقتصاداتها. ودفق الرساميل العائدة من آسيا الى اميركا زاد في رفع الدولار الى الاعلى جاعلا الواردات اقل فاقل كلفة.
وهناك تفسير متشكك، بدوره، للمستويات العالية للاستثمار في تكنولوجيا المعلومات، اقل تفاؤلاً بكثير من تفسير المتفائلين. فالانخفاض الدرامي لسعر الكومبيوتر يوحي بامكان استخدامه المربح في نشاطات لا تُحصى. اذن ليس الامر ان الكومبيوترات باتت تنتج اكثر فاكثر، بل انها صارت ارخص بكثير من كافة البدائل وعلى نحو تصاعدي. وهكذا فالتكنولوجيا الرفيعة عموماً قد تصير قطاعا ديناميا يستقطب الاستثمار ويخلق مئات آلاف فرص العمل، الا ان هذا لن يخلق بالضرورة تحويلا طويل الامد في الاقتصاد. فاذا لم تستمر اسعار الكومبيوتر في الانخفاض بالوتيرة السابقة نفسها، فعند ذاك قد تهبط دراميا نسبة الاستثمار الجديد فيه.
وهناك كثيرون يحذّرون من المبالغة في الكلام على تغير تقني. فثمة من يقول، كروبيرت برنّير في "نيو لفت ريفيو"، ان النمو القوي وانبعاث الانفاق الرأسمالي في الولايات المتحدة ربما كانا اساساً نتيجة قدرة اميركا على كبح نمو الأجور، الشيء الذي لا يستطيعه منافسوها. لكن اذا كان منافسوها في العالم غير قادرين على كبح الاجور، فضلا عن اعتمادهم طرقاً بالية في الاستثمار الرأسمالي والتقنيات، فمع الارتفاع الحالي للاجور في الولايات المتحدة، لن يلبث ان يتبدد الامتياز الاميركي فيما تلعب قوة الدولار دورها.
بيد ان الكثيرين من المدافعين عن الاقتصاد الجديد يرون ان الكمبترة computerisation لها آثار اعمق من هذا. فمدّ سكك الحديد سبق له ان جعل المواصلات اقل كلفة بكثير، وحفّز على توسّع في الاستثمار في الصلب والآلات. إلا انه ايضاً حوّل اميركا الى سوق بالغ الكفاءة والجدوى والفعالية على نطاق وطني، وهو ما افاد كل اصناف المنتجات الاخرى متيحاً نقلها وتسويقها بشكل اكثر انتاجية بكثير. وهكذا فخطوط الحديد انتجت ما يسمّيه الاقتصاديون "عوائد اجتماعية" مرتفعة، لا اقتصادية فحسب.
ونحن، بحسب هذا التحليل، نعيش الآثار المشابهة للكومبيوترات. فالانترنت، مثلا، يحل محل الكثير من تجارة المفرّق ومن الموزّعين من خلال سوق كهربائية انتاجية. وهو ايضاً يطلق تنافساً في الأسعار بين المنتجين في مناطق نائية من العالم، مجبراً كل المشاركين في السوق على ان يصيروا اشد فعالية كيما يبقوا على قيد الحياة.
لكن السؤال ليس عما اذا كانت هناك منافع اجتماعية جديدة للاستثمار في الكومبيوتر، وهذا ما لا ينكره النقّاد، بل: الى اي حد تبلغ اهمية هذه المنافع؟ فثمة من يرى ان الانترنت انما يعيد جعل الاشياء التي سبق ان جُعلت من قبل، انما بكفاءة ارفع، وهو المبدأ الذي يصح في الاعلان وتجارة المفرّق وغيرهما. اكثر من هذا فالكثير من استخدامات الكومبيتر يكتفي بان يعطي الشركات الكبرى امتيازا تنافسيا موقتا لا يلبث ان يتوقف بمجرد ان يلجأ اليه المنافسون، كالطرق الجديدة في تقديم السلع للتسويق. وهكذا فما تفعله يقتصر على تحويل الثروة وتحريكها في ما بين الشركات، من دون ان ينطوي الأمر على خلق ثروة جديدة. ولهذا فالعوائد على الشركات تبقى في آخر الأمر صغيرة ومحدودة.
وفي السجال هذا تتقدم من الحلبة وجهة نظر ثالثة يعبر عنها روبرت سولو في كتابه "التضخم والبطالة والسياسة النقدية" حيث يعترف بأن هناك حدوداً للنمو والعمالة "الا اننا لا نعرف ما هي".
فمعظم الاقتصاديين اعتادوا على التفكير بموجب الطريقة القائلة: ما ان يقارب اقتصاد ما استنفاد طاقته على الانتاج، حتى يرتفع التضخم تدريجاً فيما تصبح السلع والخدمات نادرة وتهبط البطالة. وميل التضخم هذا للارتفاع في موازاة هبوط البطالة هو ما سبق ان وصفه في فقرة باتت كلاسيكية الاقتصادي الانكليزي أ. دبليو فيليبس، بحيث سميت هذه الحالة "منحنى فيليبس". واذا صحت هذه النظرية، بحسب سولو، فهذا يعني ان الحد موقتا من العمالة سيكون ثمنا صغيرا يُدفع لتجنب المخاطرة بتضخم دائم التسارع. لكن هذه النظرية، كما يضيف، هي ما تبرهن خطؤها اذ، منذ 1995، وبموجب سياسة جديدة اتبعها الاحتياطي الفيدرالي، هبطت البطالة والتضخم معاً.
ولا يوازي السجال الذي تشهده أميركا اليوم، في صخبه وضوضائه، الا الحيرة التي يعبّر عنها اقتصاديون كروبرت سولو. والأغرب أنها ليست حيرة بين احتمالين متشابهين، بل بين عبور الى ضفة تاريخية تتغير قوانينها الاقتصادية، وبين... كارثة.
* كاتب ومعلّق لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.