صباح الأحد الأخير من سنة 2005: يستيقظ رجل في مدينة يغمرها المطر. الدروب شبه فارغة. مصابيح البلدية ما زالت مشتعلة. نور النهار يطلع على العمارات لكن المصابيح لم تطفأ بعد. الرذاذ يبرق والكهرباء تبرق. ماذا يصنع في هذا الصباح الساكن؟ المدينة فارغة. سهروا أمس طويلاً. الآن ينامون. لا سيارات تقطع هذه الشوارع. يسير تحت مظلة زرقاء وينظر الى عمارات تتوالى. المتاجر مقفلة. في الواجهات زينة الميلاد. أضواء تسطع ثم تموت ثم تسطع من جديد. أمام مدخل بناية عاملة فيليبينية تحمل مظلة بيضاء. الهواء بارد. بنطلونها أبيض. وبلوزتها زهرية اللون. لماذا لا تلبس معطفاً؟ تبرد واقفة في المدخل والكلب المربوط بحبل يتحرك أمام قدميها. كلب غريب المنظر. أذناه أذنا أرنب. وجهه أبيض وأسود. ماذا تصنع واقفة هكذا في البرد بلا معطف؟ الشارع ينحدر الى وسط المدينة. الرذاذ ينهمر منتظماً. الساسة ليسوا في الشاشات الصغيرة الآن. المدينة نائمة. لا يُرى إلا رجال الأمن. الرجل ينظر الى العمارات. لون الحجارة يتبدل تحت المطر. الغيوم الرمادية بطانيات تغطي السماء. الأبراج الزجاج تذوب في هذا المطر. حدودها تتغير. تخرج الغيوم من برج وتدخل في برج آخر. الغيوم ليست طائرات. لن تتساقط هذه الأبراج وهو ينظر اليها. هل تتساقط؟ يعبر الدروب ويحصي البنايات وتقاطعات الطرق ويتأكد انها لم تختفِ وهو نائم. المدينة تدهش أهلها دائماً. إذا انتبهوا. المدينة مسألة غامضة. كل هذه الطرقات والمتاجر والسيارات. كل هؤلاء البشر يتوزعون شققاً تعلو شققاً. بنايات تتلاصق وأحياء تتداخل. بنايات قديمة باقية من قرون بائدة وبنايات جديدة لم تكتمل إلا قبل ايام. فقراء وأثرياء. من الفقير ومن الثري؟ الحدود غير مفهومة. خصوصاً في هذه الساعة، تحت المطر، والناس في الأسرة. المدينة فارغة. لا الأحياء هنا. ولا الموتى. على الحيطان صور الموتى. لكنها صور. ليست بشراً. جنب الجامعة المقفلة بيت قديم موصد. العشب يأكل الحديقة. وشجرة الأكيدنيا تقطر ماء. هنا انفجرت سيارة قبل شهور. صورة الرجل الذي مات. تنحدر الطريق والماء يكرج في القناة. أثر أسود على حافة الرصيف. زجاج محطم في طبقات الحارة القديمة العالية. لم تُقرع الأجراس بعد. ولعلها قُرعت. المدينة هاجعة. ينظر الى البنايات ويكرر الأسماء. للبناية اسم. للشارع اسم. وللمتجر اسم. ينظر ويتأكد انها لم تختفِ في الليلة الفائتة. كل ليلة يبتلع الظلام المدينة. وكل صباح تخرج المدينة من جوف الحوت سالمة. امرأة جاوزت السبعين تقطع الدرب تحت مظلة سوداء بالية. المطر يتساقط على العجوز ويتساقط على كيسها. ماذا تحمل في كيسها؟ أين تذهب في هذا الوقت الباكر؟ تولستوي انتبه وهو يكتب"الحرب والسلم"ان العجائز يستيقظون باكراً. عظامهم تتعب من الرقود الطويل. كأنهم يخشون الرقود طويلاً. تنظر اليه بعينين كبيرتين. تجاعيد عميقة تغطي الوجه. تجاعيد كثيفة.يسمع صلاتها وهي تعبر جنبه. يرى حركة شفتيها. المدينة هاجعة. تعبر سيارة أو سيارتان ثم تفرغ الساحة مرة أخرى. قبّة السينما الباقية من أزمنة الخراب تسودّ تحت المطر، تصير قاتمة. مجمع الأبنية المجاور يفتح لونه. الحجارة طباعها غريبة. البشر ايضاً. هوثورن كتب عن الأسلاف حتى صار يتعب من صحبة المعاصرين. بورخيس خاف أن يجف الروح في أعماقه. صداقة الموتى أجدى من صداقة الأحياء؟ الميت لا يطرح خبزاً وملحاً على تراب. لا يُخيب ظناً. الميت وفيّ. الى الأبد. لكن الميت ميت. لا يضحك ولا يتكلم. هل يضحك؟ هل يتكلم؟ رجال الأمن عند التقاطع ينظرون الى قمة برج قديم باقٍ من أيام الحرب. البرج لم يُسكن يوماً. قمته ظاهرة من فوق مبنى الأممالمتحدة. يطل على الشارع وعلى الكاتدرائية وعلى مآذن الجامع الجديد. البرج مظلم النوافذ ينظر بعيون غول الى المدينة. صفحة مطر تسقط والغيوم تتباعد. النور يخترق عيون البرج. لم تعد النوافذ مظلمة. ترى الفضاء يلمع في الجانب الآخر. رجال الأمن في المعاطف الواقية من المطر يتبادلون الكلام والسجائر. رعد بعيد مكتوم. فوق البحر اللانهائي. عند تقاطع آخر جنود يتحلقون حول سيارة. لماذا يتحلقون هكذا؟ السيارة ليست ناراً صغيرة. ليست موقد حطب. الرجل يُسرع. في شارع آخر يرى قطة ميتة. ماتت هذه الليلة. المطر بلّل فروتها. الماء يقطر عن حواف المظلة. عند أنف القطة قطرة قاتمة. ترانيم تخرج من نافذة. أنوار تزين شجرة على شرفة عالية. موسيقى من زقاق مجاور. المدينة ليست كلها نائمة. المطر يتساقط في الجانب الآخر من المدينة. أثناء الحرب انقسمت المدينة نصفين. بعد الحرب أزيل خط التماس. كيف تزيل خط التماس؟ كيف تزيل خط غرينتش مثلاً؟ الخط غير حقيقي. المدينة أيضاً خيالية. أين أهلها؟ المدينة فارغة. سهروا طويلاً أمس. الآن ينامون. بيوت ساكتة. بنايات ساكتة. شوارع ساكتة. والمطر يتساقط على الشرق الأوسط. لا يقطع الرجل مدناً في هذا الصباح. ليس ابن بطوطة. يقطع مدينة واحدة. لكنه قبل خروجه فتح التلفزيون ورأى المطر يقع على الشرق الأوسط. هذا الأحد الأخير هذه السنة. في بيت لحم تُقرع الأجراس. على الجبال تتساقط الثلوج. رقائق الثلج تندف من الأعالي، تغطي الجلول والأشجار، تغمر السطوح والقرميد الأحمر. الثلج لا يقع على هذه الشوارع. ها هو البحر. رمادي اللون مضطرب الصفحة. ها هي المنارة. ستائر تتطاير من فندق نصف مهدم. درج طويل يطلع من طريق البحر الى أحياء عالية. شلال ماء يتساقط على الدرجات. أكياس وعلب وورق يابس. مستنقع صغير وحياة تنمو على حافة المستنقع. صيادو السمك في صف عند الدرابزين الأزرق. كعكات زعتر وسماق. أكواب شاي ساخنة. الكلام يمتد. الصوت هامس. الأسماك قد تسمع. السنة تحتضر. هذه أيامها الأخيرة. العالم تحكمه انقسامات. عنف يلد عنفاً. الاغريق تأملوا الطبيعة البشرية فتضايقوا. لا أحد يفهم أحداً. لا أحد يستوعب أحداً. الصنارة ترتفع والسمكة تختلج في الرذاذ الفضي. هذه سمكة لن تبلغ السنة الجديدة. تضطرب على حافة. مثل المدينة هذه السمكة. مثل العالم هذه السمكة. لكن العالم ليس سمكة. أين تأخذنا سنة 2006؟ ماذا فعلت السنة السابقة؟ من أخذت ومن أبقت؟ السنوات تتوالى. مطر يتساقط على البحر. مدن راقدة على حافة البحر يغسلها المطر. بيوض الموج تفقس. الصيادون يستيقظون قبل المدينة. وبعد قليل تستيقظ المدينة. الشوارع طويلة. المتاجر مقفلة. تعبر سيارة. ولد ينظر من زجاج النافذة. ينظر الى البحر وينظر الى رجل على الرصيف. إذا أغمض الولد عينيه يختفي البحر ويختفي الرجل وتختفي المدينة.