يعيش في بيروت نحو مليون نسمة. كيف يحيا هؤلاء؟ ملحق "آفاق" نشر خلال العامين الماضيين تحقيقات عن مدن عربية وعالمية: نيويورك وكابول والقاهرة والاسكندرية ومكة المكرمةوجدة وعمان وجنين وبغداد وباريس ودبلن و... بعض هذه التحقيقات أثار جدلاً وبعضها عَبَر بسلام. لكن في معظم الأحيان اجتمعت المعلومة المفيدة الى الأسلوب السردي البسيط. كيف صارت العاصمة اللبنانية الى حالها الحاضرة؟ سنة 1820 كانت بيروت بلدة زراعية صغيرة لا يجاوز عدد سكانها خمسة آلاف نسمة. بعد الفتح المصري لبلاد الشام 1831 - 1840 وتطور صناعة الحرير ونمو التجارة مع اوروبا وتوسيع المرفأ في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تحولت بيروت - في عبارة شاعر غربي - الى "مدينة عالمية". رواية "بيروت مدينة العالم" تصدر قريباً عن المركز الثقافي العربي/ بيروت والدار البيضاء التي ننشر هنا صفحاتها الأولى ترسم - عبر قصة عائلة بيروتية - سيرة هذا الصعود الصاخب خلال قرنين من التحولات. وضع الكونت كوب الماء من يده، وسألني متى أنتهي من تأليف الكتاب. نور الثالثة بعد الظهر سطع على سطح الطاولة، على زجاج المطاعم، على برج ساعة العبد، على رصيف ساحة البرلمان. بعيداً، في أسفل شارع "عزيز الأحدب" المنحدر، بانت غيومٌ بيضٌ تعبر نوافذ "بلدية بيروت" وتلقي ظلالاً سابحة على شارع "ويغان" المرصوف بالحجر البركاني الأسود. خرير المياه في نوافير الحديقة المواجهة للبلدية كان يبلغنا خافتاً. الكونت، بأعوامه ال98، لم يثقلْ سمعه بعد. فكرت في معنى أن تستيقظ كل صباح وتغادر سريرك الى الحمام مدركاً أنك ولدت قبل 98 عاماً. حين رجعت من شرودي انتبهت أن اللون الأزرق الذي يملأ النوافذ في هذا اليوم الربيعي ينعكس كحلياً قاتماً على خشب المناضد، وعلى اليد القديمة الملقاة أمام عينيّ. رأيتُ شعراً ناصعاً كالثلج يغطي المعصم، ظاهراً من تحت الكمّ الأنيق الخالي من أي تجعيدة، زاحفاً على الأصابع القديمة بعظامها المسنّنة. سحب يده عن الطاولة وتنحنح مستقيماً في جلسته. خيّل إليّ أنني أسمع فقرات عموده الفقري تطقطق وترتب نفسها في صف منضبط. بذلة زرقاء سماوية. قميص أبيض بياقة منشاة عالية مزرّرة بقسوة على جوزة عنقه. وجاكيتة من الكشمير الرمادي. شعره الأبيض، ونظاراته بإطارها الفاحم السواد. كل ذلك يعود إليّ الآن. لم أحدق الى وجهه إلا نائماً. وهذا أعطاني أن أحفظ ملامحه. كل تلك التجاعيد الغائرة في الجلد الذي تتجدد خلاياه منذ 98 عاماً، كل تلك التجاعيد لم تجعله عجوزاً... بدا، في ذلك الغروب الربيعي، خالداً. بدا رجلاً صقله الوقت فأخرجه الى عالم التماثيل من دون أن يقتل الروح في جسمه، من دون أن يطفئ النور في عينيه. كان، حين يحدثني في الهاتف، يقول ما يريد بإيجاز، ثم يلفظ "شكراً" صلبة خاطفة كرصاصة، ويقفل الخط. أبقى وحيداً في مكتبي في "الحياة"، أنظر الى السمّاعة الباردة، انظر الى شاشة الكومبيوتر، انظر الى أوراق تزحف عليها الكلمات كالنمل، ولا أدري الى أين يذهب في تلك اللحظة، لماذا يحتاج الى إقفال الخط سريعاً هكذا، وهو في القصر القديم الفارغ الردهات، من الصباح الى المساء، يوماً تلو يوم تلو يوم، لا يفعل شيئاً غير التحديق عبر زجاج النافذة، أو من خلال باب الشرفة المشغول المُطرق، الى أشجار سوّد جذوعها الهرمة الفطرُ، وأيبس أغصانها اللبلابُ الشائك. لم أسأله مرة عن ذلك. ولن أسأله. كان ذلك اللقاء بيننا، في ساحة البرلمان في وسط بيروت التجاري، لقاء أخيراً. وما كنت أعلم حينئذ أنه كذلك. ولو علمت لما سألته شيئاً. ماذا أسأله؟ استطيع الآن ان أحدد الزمن بدقة: الأيام الأولى من نيسان ابريل 2003، ذلك أنه في كلامه أتى على ذكر الحرب الجارية في العراق، واقتراب قوات التحالف الأميركية - البريطانية الحثيث من حدود بغداد. تحدث عن حصار بيروت عام 1982، قال شيئاً عن انقطاع الماء والكهرباء، وعن تكاثر الطيور غير المسبوق في الحديقة. ثم غابت عيناه الصغيرتان وراء زجاج النظارات السميك، وحين تكلم من جديد، أخبرني عن دمياط أثناء الحرب العالمية الثانية، عن حيفا بعد ثورة 1936، عن برلين عام 1945، وعن حريق وكالته في "اللعازارية" المجاورة خلال "حرب السنتين". اعتدت - في البدء - أن أسجل حديثه، بعد كل لقاء، في دفاتري. أسجل أحاديثه لئلاً تخونني الذاكرة، وأقول إن الوقت لم يحن بعد لترتيب كل ذلك في رواية. أجرب أحياناً أن أبدأ ثم أقرر أن هذا مستحيل. هناك شيء ناقص، محورٌ أفشل - مرة تلو الأخرى - في الوقوع عليه. أمامي الآن حديث قديم، من زمن يسبق 11أيلول الذائع الصيت. الحديث الذي جرى على شرفة بيته المطلّة على البحر لا أستطيع استعادته هنا. أقرأ الكلمات وأنتبه أنني عاجز عن التعبير. وقع صوته. أسلوبه في القص. حركة جسمه. الحنين في نظرته. وأثر كل ذلك فيّ. بينما يحكي كنت أحسّني خارج العالم. كأنني غادرت عصورنا السريعة الصاخبة ومضيت مستدلاً بصوته الى تلك الأزمنة البائدة، الى مدن قديمة زالت ولن تعود. ذات أصيل، في نهايات خريف 2001، تمشيناً معاً في وسط بيروت، ودلّني - بينما يحكي عن اخوته وعن جدّه لأمه وعن أ بيه - الى موقع "باب السراي" القديم جنب جامع منصور عساف، أو "جامع السراي"، القائم حتى اللحظة بين "بلدية بيروت" ومبنى "فيرجين ميغاستور". قطعنا شارع "ويغان"، وانحدرنا في "فوش" صوب البحر. ارتفعت ذراعه اليسرى ورسم حدود "حارة البارودي" التي أُزيل سورها وهُدمت بوابتها أثناء أعمال توسيع دروب بيروت القديمة عام 1915. قرأت أسماء الشوارع الجديدة، تلك الصفائح الحديد الزرقاء المستطيلة المطروقة الى الحيطان المرممة، وأحسست بالبرد. نسائم الخريف، البحر الذي يبعد رمية سهم، وظلال الحيطان الحجر الصفراء. كل ذلك أشعرني بالبرد. وصوت الكونت. كان يحكي الى جانبي وكنت أشم رائحة جسمٍ متعبٍ قديم، وأسمع في الصوت المتموج - كما يتموج الهواء في عشب الحقل - صدى بارداً يأتي من حيث لا أدري. حكى عن جده لأمه عبدالغني البارودي. حكى عن جده لأبيه ميشال... حكى عن خالاته وعن عمه ابراهيم وآل طرازي شركاء عمه ابراهيم. حكى عن بيروت طفولته، عن "حارة البارودي" قبل زوالها، عن جامع الدباغة والمخازن في أسفله كنا نقف أمام "جامع الصدّيق" أسفل "فوش"، وقال لي: هذا كان جامع الدباغة قبل 1932، مئذنته كانت خشباً، الى المعصرة في القبو تحته كنا نجيء مع أمي لشراء السمسم والطحينة. حكى عن ركوبه السفينة "علياء" الى يافا مع الموسيقار محمد عبدالوهاب. قال كلمات لم أسمعها بينما نقطع شارع "سعد زغلول" بكل تلك المتاجر الفخمة والفارغة عن جانبيه. لم أسمع لأنني كنت غارقاً في رأسي. تكفي حكاية أحياناً، يكفي ظل جدار في غروبٍ باردٍ مثل هذا الغروب، يكفي سكونٌ مقتطعٌ في قلب ضجيج بيروت المزدحمة بمليون نسمة، يكفي إحساسٌ عابرٌ بالزمن القديم النائم في الحجارة، في الطحلب بين بلاطات الطريق، في العشب الذي ينمو في "التل الأثري" أطلال الحصن البحري بالحائط المتداعي والدرج الذي يصعد الى الفضاء، يكفي نسيمٌ بحريٌ يحمل صوت سيارة عابرة الكورنيش، يكفي شعاع شمس ذابل ينطرح بين بنايتين، تكفي ذكرى بعيدة غامضة من زمن الطفولة، لكي ينتابك الإحساس انك عشت هنا قبل وقت طويل. أنك كنت تعرف هذه الدروب قبل الحروب، وقبل أن تتغير المدينة وتصير الى ما صارت عليه. تحس أحياناً أنك عشت في بيروت القرن التاسع عشر، أو بيروت الانتداب الفرنسي والنصف الأول من القرن العشرين. لا تقول ذلك لأحد. لكنك تفكر فيه. "دفتر اليوميات. 12 حزيران يونيو 2000: زيارة طويلة ظهراً الى بيت الكونت. الخدم، كالعادة، يستقبلونك بابتسامات مهذبة، بحركات مرتبة، بسكون. كل شيء يعطيك الشعور ذاته: ليس الرهبة، ليس الوقار، بل الثقل. الأثاث الضخم، الدرج الداخلي برخامه العريض ودرابزينه المشغول، الثريات الكريستال، السجاد العجمي، الكراسي الخشب المذهبة، المرايا المؤطرة العالية، خشب الجوز المحفور المجدول، التماثيل البرونز، الأعمدة ذات التيجان، الموزاييك بين أحواض الزرع، الأبواب الثقيلة... كل شيء يوحي بركود الزمن بين هذه الحيطان العالية المزدانة بصور الأسلاف واللوحات الزيتية القاتمة. الستائر المخمل تضاعف ثقل الهواء في ارجاء القصر. وجدته على الشرفة المطلة على البحر يقرأ صحفاً فرنسية. كانت الصحف ملقاة على البلاط، وعلى الأرجوحة، وعلى الطاولة الأسطمبولية الواطئة. جلست على الكنبة المقابلة لكرسيه الهزّاز الإنكليزي. بينما يحكي وجدتني أتأمل صباطه اللامع الطلاء وأتذكر إحدى قصصه عن سليم سلام. حدّقت الى عصاه الأبنوس المستقرة على الأرجوحة، بين الصحف، وفكرت في حياة اميلي فرعون. نظرت الى سرب حمام يحلّق فوق شجرات السرو قبل ان يختفي وراء مباني الجامعة، وتذكرت رحلته مع فارس نمر الى الخرطوم. أحسست بالتعب. كل تلك الحكايات والأخبار! المادة تتراكم في هذه الدفاتر. وكل هذه الكتب والصور والوثائق والوصايا واليوميات والرسائل التي أغرق في تفاصيلها تأخذني، يوماً بعد يوم بعد يوم، الى متاهة لا أعرف كيف سأتمكن من تنظيمها، لا أدري هل أستطيع. بينما أغادر القصر غمرتني ظلال الشجر الأسود، وسمعت أزيز الحشرات في العشب. عند المساء وقفت في "ويغان"، مواجهاً مبنى البلدية. فكرت في الكونت، وفكرت في حياتي. ربما لن أكتب هذا الكتاب ابداً، قلت في نفسي. مشيت في الشوارع المضاءة بالكهرباء، فوصلت الى هنا عند العاشرة. الوقت يجاوز الآن منتصف الليل". منذ زمن بعيد أحاول تأليف هذه الرواية، وأفشل. قلت للكونت إنني أشرف على الانتهاء من الكتاب. كنت أكذب. ما قيمة رواية لا تحملك الى عالمها؟ أردت دائماً أن أسحب القارئ الى عالم الأسلاف: لكي يرى ما أراه، لكي يحسّ بما أحسّ. كأن ينظر الى مبنى بلدية بيروت المرمم الجديد الآن فيرى في باطن هذا المبنى الحديث النظيف الزجاج ذلك المبنى الآخر الحائل اللون، غير المرئي، والمطابق له في طرازه العثماني، كما أنشأه المهندس يوسف افتيموس في زمن الانتداب الفرنسي، وكما حفظته لنا تلك الصورة الفوتوغرافية التي التقطها الأرمني اوزونيان عام 1928. لكني أريد ما هو أصعب أيضاً: أريد من القارئ ان ينظر الى مبنى البلدية الذي أحرقته حروب لبنان بين 1975 و1990 ثم رمّم، وأن يحفظ المبنى في خياله، ثم أن يزيله كاملاً بتلويحة يد لكي يرى في مكانه، خلفه تماماً، في زمن غير مرئي لكنه موجود، أن يرى تلك الحارة القديمة، "حارة البارودي" البائدة. في ذلك اللقاء الأخير في ساحة البرلمان في وسط بيروت نظرت الى اليد القديمة على الطاولة وسألت نفسي ماذا يعني حقاً ان تكون يدك مثل هذه اليد، أصابعك مثل هذه الأصابع. تخيلت الكونت ينظر في المرآة عند الصباح. الوجه الذي يحمل 98 عاماً في تجاعيده، العينان اللتان أبصرتا كل تلك المناظر، كل تلك المدن والعمارات، كل تلك الوجوه... طيور الحمام على رصيف البرلمان تقافزت تنقر الحبّ. ظُلُّ البرج يدور في الساحة كأننا في لوحة من لوحات دي شيريكو. الغيوم تعبر قرص الشمس. كل هذا الوقت الذي يسيل في الشوارع، الذي يرتجف في الهواء وبين الجدران، أكاد اسمع طنينه النحاسي. كل ما أقوله يتلاشى، لا يبقى. وكذلك كل قصص الكونت. يضمحل كل شيء. كل شيء يضمحل. جد الكونت لأمه. وجد الكونت لأبيه. قصص آل البارودي وبسترس والبكري والسكاكيني وطرازي وفرعون. بيروتونيويوركودمياط وحيفا وبوينس آيرس والبندقية ونابلس والاسكندرية واسطنبول والقاهرة ونابولي. أغمض عينيّ. أتخيل بيروت القديمة، البلدة المحاطة بسورٍ مستطيلٍ سنة 1821 أو 1822، يسكنها خمسة آلاف نسمة. أرى مطراً يهطل على "سهلات البرج" حيث مبنى "فيرجين" اليوم. أسمع صوت المطر، النشيج المتواصل، وأرى نوراً يتلامع في أبراج الحراسة فوق السور القديم.