رئيس الحكومة الفرنسي دومينيك دوفيلبان من أبرز المرشحين غير الرسميين الذين تعدّهم الغالبية اليمينية الحاكمة لخلافة الرئيس جاك شيراك في انتخابات الرئاسة سنة 2007. ودوفيلبان مولع بالقضايا الدولية ويبدي اهتماماً خاصاً بقضايا العالم العربي وأوروبا، إذ انه ولد في المغرب وله صداقات كثيرة في العالم العربي، مثل شيراك الذي يعتبره أقرب المقربين اليه. أجرت"الحياة"حواراً مع دوفيلبان، عن فرنسا بعد الرفض الشعبي للدستور الأوروبي والسياسة الأميركية في العراق والمنطقة، ولبنان وسورية. وهنا نص الحديث: * شهدت فرنسا سنة صعبة بعد الرفض الشعبي للدستور الأوروبي، هل لديك تقويم الآن لما خسرته باريس نتيجة هذا الرفض وكيف تنوي معالجته؟ - لنكن واضحين، في 29 أيار مايو الماضي لم يقل الفرنسيون لا لأوروبا التي لا يزالون بغالبيتهم الكبرى مرتبطين بها. لكنهم يريدون أوروبا مختلفة، أقرب اليهم وأكثر استجابة لتوقعاتهم. وكل تحرك الحكومة الفرنسية على هذا الصعيد يهدف الى الاستجابة لتوقعاتهم. الاستجابة الأولى تتمثل بإشراك الفرنسيين بشكل أفضل في القرارات الأوروبية. واللجنة الوزارية الداخلية حول أوروبا التي كانت في هذا الاتجاه، تتيح متابعة سياسية حقيقية للمسائل التي يتم بحثها في بروكسيل، وهذا مطلب ديموقراطي اساسي. الاستجابة الثانية هي ما اسميه"أوروبا المشاريع"، أي المبادرات الملموسة الكفيلة بتحسين حياة الأوروبيين اليومية وتعبئة طاقاتهم وحيويتهم. وهذا يصح في كل المجالات: الاقتصاد مع تحديد سياسة أوروبية حقيقية، على صعيد الطاقة وأيضاً بالنسبة الى الشباب مع الخدمة المدنية الأوروبية، والثقافة عبر مشروع المكتبة الأوروبية المعلوماتية أو أيضاً الفضاء مع نجاح مشروع"غاليليو"للتوجيه عبر القمر الاصطناعي. وكما ترين، بعد مضي ستة اشهر على الاستفتاء، استعادت أوروبا نفساً جديداً. وهي تتقدم. والاتفاق الذي حصلنا عليه بشأن الموازنة في 17 كانون الأول ديسمبر الحالي يتيح لنا التطلع الى المستقبل بطريقة ديناميكية. أوروبا التي ترغب بها فرنسا مفتوحة على العالم، خصوصاً على المتوسط، غداة الذكرى العاشرة لمسار برشلونة. * يختلف العالم في تقويمه لنتائج الولاية الثانية للرئيس جورج بوش بالنسبة الى إدارته الشؤون العالمية، ما تقويمكم، وما تأثير ذلك في فرنسا وأوروبا؟ - كان مجيء الرئيس بوش الى بروكسيل في بداية ولايته الثانية، تعبيراً عن رغبته في حوار أكثر كثافة مع الأوروبيين، وهذا ما نؤيده أيضاً. نحن مستمرون في التعاون مع الولاياتالمتحدة في افغانستان والبلقان وساحل العاج والسودان وعلى صعيد مكافحة الإرهاب وانتشار اسلحة الدمار الشامل. ومنذ مدة طورنا علاقاتنا في ما يتعلق بالوضع في الشرق الأوسط ولبنان وهذا أمر جيد. لكن هذا الحوار لا يستثني الصراحة بالنسبة الى مواضيع نختلف في النهج المعتمد حيالها. * تميزت فرنسا في سياستها تجاه القضايا العربية، هل ترى ان هذه السياسة كانت مجدية، والى أي مدى استطاعت ان تؤثر في الهيمنة الاميركية الحالية على كل من العراق وفلسطين واسرائيل؟ - لدى فرنسا منذ زمن بعيد، علاقة جوار، وعلاقة ثقة مع دول المنطقة. وتعرفين الى أي مدى يتمسك الرئيس جاك شيراك بذلك. واستناداً الى هذه الروابط فإن بلدنا ملتزم جميع المواضيع في شراكة حقيقية. وهنا أعطي مثال التطور الاقتصادي وضبط الهجرة ومكافحة الارهاب. أما بالنسبة الى العراق، فمنذ التدخل العسكري لقوات التحالف، طالبت فرنسا دائماً بعودة السيادة الى هذا البلد، في اطار مسار سياسي يشرك كل قوى المجتمع العراقي. المنطق الأمني البحت لا يكفي. وانتخابات 15 كانون الثاني ديسمبر مثلت مرحلة أساسية. ويجب الآن التوصل الى وفاق بين كل الأطراف، مع التزام ايجابي من الدول المجاورة. وهذا شرط لإستقرار العراق وهو من مصلحة كل دول المنطقة. وبالنسبة الى الصراع الفلسطيني - الاسرائيلي، فإن الانسحاب من غزة كان مرحلة ايجابية. واختارت فرنسا والاتحاد الأوروبي المشاركة على الأرض، خصوصاً لتعزيز القدرات الفلسطينية في مراقبة معبر رفح وتقديم الدعم لإعادة هيكلة الشرطة الفلسطينية. وينبغي الآن تحريك المسار السياسي بسرعة بين الأطراف. و"خريطة الطريق"تشكل الإطار لذلك. ونقول بوضوح للإسرائيليين ان استمرار الاستيطان وبناء الجدار الأمني داخل الاراضي المحتلة انتهاك للشرعية الدولية والالتزامات التي تعهدوا بها في إطار"خريطة الطريق". والانتخابات التشريعية المتوقعة في 25 كانون الثاني يناير المقبل لها أهمية اساسية، وستكون هناك بعثة مراقبة أوروبية على الأرض لتتم الانتخابات في ظروف جيدة. * الحرب على الإرهاب وضعت الغرب في شبه مواجهة مع العالم الاسلامي، هل تعتبر ان الطريقة الاميركية في مكافحة الارهاب مجدية؟ - المشكلة لا تطرح نفسها على شكل مواجهة بين الشرق والغرب. الدول العربية الاسلامية، مثل الدول الغربية، ضحية للأعمال الارهابية. وفي مواجهة هذا التهديد الشامل، من واجبنا التوصل الى تعبئة جماعية، تشكل شرط النجاح. وهذا التعاون الذي يشمل التحليل وتبادل المعلومات الأمنية والقضائية، ينبغي ان يتعزز. وقمة برشلونة الأخيرة أتاحت للدول المشاركة تحديد استراتيجية مشتركة لمكافحة الارهاب عبر تبني مدونة سلوك. وينبغي ايضاً ان تتحرك الأسرة الدولية من أجل حل الأزمات الاقليمية، ضماناً للفاعلية، ومعالجة الفقر والمظالم. ويجب ان يكون الحوار مستمراً ومعمقاً بين الأوروبيين والاميركيين ودول المنطقة، وكل شركائنا لتجنب تحويل الحرمان الى رفض للآخر، بل الى كراهية وعنف. * كشفت قمة برشلونة للعرب انحيازاً أوروبياً الى الرؤية الأميركية - الاسرائيلية، اليس هذا مصدر قلق على صعيد مصالح فرنسا في المنطقة؟ - ان نظرتي الى نتائج هذه القمة أكثر ايجابية. بالنسبة الى اسرائيل فإن خصوصية نهج برشلونة، منذ انشائه قبل عشر سنوات، تكمن في طموحه لإعداد سياسة متوسطية حقيقية للاتحاد الأوروبي، بفضل شراكة مع كل دول الضفة الجنوبية: الدول العربية واسرائيل وقبرص وتركيا. وبالنسبة الى المبادرات الأخرى، ومنها الأميركية، فإن مسار برشلونة حريص على صيانة استقلاليته وتعزيز بعده السياسي. قمة برشلونة عبرت عن إرادتها في مواجهة التحديات المشتركة لضفتي المتوسط، بتبنيها خطة عمل وافقت عليها الدول ال35، للسنوات الخمس المقبلة، ومدونة سلوك ضد الارهاب. ومن هذا المنظور، قدمت فرنسا عدداً من الافكار الجديدة، فاقترح الرئيس الفرنسي انشاء أمانة سياسية دائمة، وعلى المدى الطويلة انشاء بنك تنمية متوسطي. * تميزتم عن الفهم الاميركي في العراق وتوقعتم ما يحدث فيه حالياً، فكيف ترى العراق اليوم، وهل مازال التماييز قائماً؟ - كان هناك اختلاف في التوجه بالنسبة الى التدخل العسكري في العراق، لأنه كان يطرح أسئلة أساسية في مجال احترام الشرعية الدولية. ولكن المهم اليوم هو السير قدماً والعمل على ان يكون الهدف هو بلورة عراق مستقر وديموقراطي يتعايش بذكاء مع جيرانه. نحن اليوم نواجه خطرين: الأول هو تقسيم العراق الذي قد يشكل كابوساً حقيقياً للمنطقة، فتزايد العنف والطائفية والقوى العاملة على البعثرة، يلقي بتهديدات كبيرة على وحدة البلاد وسلامتها. والخطر الثاني، هو الدور المتنامي للإرهاب ونتائجه التي تتجاوز البلاد الى حد كبير. لذا على الأسرة الدولية ان تضم جهودها، ونؤيد في هذا الاطار مبادرة الجامعة العربية التي تحاول دعم القوى العراقية الأساسية، والتأكد من ان كل دول المنطقة تعمل معاً من اجل التقدم. * كيف ترى مستقبل لبنان؟ هل تعتقد العلاقات الفرنسية مع النظام السوري بلغت نقطة اللاعودة؟ - بالنسبة الى لبنان، فإن أهدافنا معروفة: الهدف الأول هو البحث عن الحقيقة في الاغتيالات المقيتة التي فرضت الحداد على هذا البلد الصديق، وكان آخرها اغتيال جبران تويني، ومعاقبة المذنبين. والهدف الثاني هو تأييد دعم استقلال لبنان وسيادته عبر التنفيذ الكامل لقرارات الأممالمتحدة، خصوصاً القرار 1559. ولبنان يجتاز حالياً مرحلة اساسية من تاريخه الطويل، فخروج القوات السورية في نيسان ابريل 2005 كان مرحلة أولى أساسية لاستعادة الاستقلال الكامل والسيادة، عبر اجراء انتخابات حرة للمرة الأولى منذ ثلاثين سنة. وفي هذا الإطار، تقف فرنسا بحزم وقوة الى جانب لبنان والشعب اللبناني، لمساعدته تجاوز محنة اليوم ومواجهة تحديات المستقبل والاسرة الدولية معبأة ايضاً لمساعدة لبنان وحكومته، خصوصاً على تنفيذ خطة اصلاح سياسي واقتصادي واستعداد لعقد مؤتمر أصدقاء لبنان في سنة 2006. اما بالنسبة الى العلاقات مع سورية، فإن أمر تحسينها يعود الى سورية، عبر التزامها بواجباتها الدولية، خصوصاً التعاون غير المشروط مع لجنة التحقيق الدولية في اغتيال رفيق الحريري، وفقاً لما طلبه منها مجلس الأمن مرة أخرى. والسلطات السورية تعرف ما الذي تترقبه الاسرة الدولية منها، ونحن نطلب منها الالتزام بذلك.