فيصل بن بندر يرعى حفل الزواج الجماعي الثامن بجمعية إنسان.. الأحد المقبل    المملكة واليمن تتفقان على تأسيس 3 شركات للطاقة والاتصالات والمعارض    اليوم العالمي للغة العربية يؤكد أهمية اللغة العربية في تشكيل الهوية والثقافة العربية    الصحة تحيل 5 ممارسين صحيين للجهات المختصة بسبب مخالفات مهنية    قمر التربيع الأخير يزين السماء .. اليوم    "الوعلان للتجارة" تفتتح في الرياض مركز "رينو" المتكامل لخدمات الصيانة العصرية    القبض على ثلاثة مقيمين لترويجهم مادتي الامفيتامين والميثامفيتامين المخدرتين بتبوك    نائب وزير الخارجية يفتتح القسم القنصلي بسفارة المملكة في السودان    "سعود الطبية": استئصال ورم يزن خمسة كيلوغرامات من المعدة والقولون لأربعيني    طقس بارد إلى شديد البرودة على معظم مناطق المملكة    أسمنت المنطقة الجنوبية توقع شراكة مع الهيئة الملكية وصلب ستيل لتعزيز التكامل الصناعي في جازان    تنفيذ حكم القتل بحق مواطنيْن بتهم الخيانة والانضمام لكيانات إرهابية    اختتام أعمال المؤتمر العلمي السنوي العاشر "المستجدات في أمراض الروماتيزم" في جدة    "مجدٍ مباري" احتفاءً بمرور 200 عام على تأسيس الدولة السعودية الثانية    إقبال جماهيري كبير في اليوم الثالث من ملتقى القراءة الدولي    200 فرصة في استثمر بالمدينة    «العالم الإسلامي»: ندين عملية الدهس في ألمانيا.. ونتضامن مع ذوي الضحايا    إصابة 14 شخصاً في تل أبيب جراء صاروخ أطلق من اليمن    «عكاظ» تنشر توصيات اجتماع النواب العموم العرب في نيوم    التعادل يسيطر على مباريات الجولة الأولى في «خليجي 26»    «الأرصاد»: طقس «الشمالية» 4 تحت الصفر.. وثلوج على «اللوز»    ضبط 20,159 وافداً مخالفاً وترحيل 9,461    مدرب البحرين: رينارد مختلف عن مانشيني    فتيات الشباب يتربعن على قمة التايكوندو    «كنوز السعودية».. رحلة ثقافية تعيد تعريف الهوية الإعلامية للمملكة    وفد «هارفارد» يستكشف «جدة التاريخية»    حوار ثقافي سعودي عراقي في المجال الموسيقي    ضيوف برنامج خادم الحرمين يزورون مجمع طباعة المصحف الشريف    رينارد: مواجهة البحرين صعبة.. وهدفنا الكأس الخليجية    «مالك الحزين».. زائر شتوي يزين محمية الملك سلمان بتنوعها البيئي    5 حقائق حول فيتامين «D» والاكتئاب    هل يجوز البيع بسعرين ؟!    «يوتيوب» تكافح العناوين المضللة لمقاطع الفيديو    مدرب الكويت: عانينا من سوء الحظ    سمو ولي العهد يطمئن على صحة ملك المغرب    التعادل الإيجابي يحسم مواجهة الكويت وعُمان في افتتاح خليجي 26    السعودية أيقونة العطاء والتضامن الإنساني في العالم    الحربان العالميتان.. !    معرض وزارة الداخلية (واحة الأمن).. مسيرة أمن وازدهار وجودة حياة لكل الوطن    رحلة إبداعية    «موسم الدرعية».. احتفاء بالتاريخ والثقافة والفنون    رواية الحرب الخفيّة ضد السعوديين والسعودية    لمحات من حروب الإسلام    12 مليون زائر يشهدون أحداثاً استثنائية في «موسم الرياض»    رأس وفد المملكة في "ورشة العمل رفيعة المستوى".. وزير التجارة: تبنّى العالم المتزايد للرقمنة أحدث تحولاً في موثوقية التجارة    وزير الطاقة وثقافة الاعتذار للمستهلك    وفاة مراهقة بالشيخوخة المبكرة    المؤتمر الإعلامي الثاني للتصلب المتعدد: تعزيز التوعية وتكامل الجهود    وصول طلائع الدفعة الثانية من ضيوف الملك للمدينة المنورة    أمير القصيم يرعى انطلاق ملتقى المكتبات    محمد بن ناصر يفتتح شاطئ ملكية جازان    ضيوف خادم الحرمين يشيدون بعناية المملكة بكتاب الله طباعة ونشرًا وتعليمًا    المركز الوطني للعمليات الأمنية يواصل استقباله زوار معرض (واحة الأمن)    الأمر بالمعروف في جازان تفعِّل المعرض التوعوي "ولاء" بالكلية التقنية    شيخ شمل قبائل الحسيني والنجوع يهنى القيادة الرشيدة بمناسبة افتتاح كورنيش الهيئة الملكية في بيش    الأمير محمد بن ناصر يفتتح شاطئ الهيئة الملكية بمدينة جازان للصناعات الأساسية والتحويلية    السيسي: الاعتداءات تهدد وحدة وسيادة سورية    رئيس الوزراء العراقي يغادر العُلا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عون وجعجع أمام التجربة المستحيلة ... ولبنان يبدو سائراً نحو الفيديرالية
نشر في الحياة يوم 22 - 11 - 2015

لبنانيصدر قريباً في بيروت كتاب جديد لفايز قزّي عنوانه «مواطن سابق لوطن مستحيل» (منشورات سائر المشرق)، وفيه ذكريات عربية ولبنانية للمؤلف، تحيل على بعض جذور أزماتنا الراهنة. هنا حلقة ثانية أخيرة من الكتاب.
فايز قزي *
كتبتُ تجاربي في محاولات سابقة للتذكّر. خسرت بعض الأصدقاء. واستعضت عن ذلك بكثير من القراء. وفي هذه المحطّة بالذات، شعرت بأنّ ما أكتب هو أشبه بمادّة لكتاب، يوقّعه مواطن سابق، ربّما هو غير صالح للنشر أو على الأقلّ مؤجلّ إلى حين تحوّل الحالات الوجدانيّة إلى مواقف سياسيّة. أخذني هذا الشعور بعيداً، فامتنعت عن كتابة المقال الملتزم الذي بات تطفّلاً على إعلام أكثره لا يجيد الكتابة لشعب ربّما بات لا يجيد القراءة أو يكرهها.
ولمناسبة ما ظهر من اتجاهات الدستور الفيديراليّ العراقي بحماسة استثنائيّة شيعيّة وكرديّة، ولمناسبة خروج الدكتور سمير جعجع من السجن، وتبرّع الدكتور فارس سعيد وحماسته لإبعاد الدكتور جعجع عن مشروعه المسيحيّ بإسقاط منطق الفيديراليّة من أدبيّات «القوّات اللبنانيّة» وقائدها، الذي «دخل السجن زعيماً مسيحيّاً وخرج بعد 11 سنة زعيماً وطنيّاً»، بعكس الجنرال عون الذي عاد من منفى 15 سنة «زعيماً مسيحيّاً بعد أن غادره زعيماً وطنيّاً». وعلى رغم علاقتي الوثيقة بالجنرال عون منذ عشرين سنة، فأنا لم أكتب يوماً إليه بل كانت لقاءاتنا مستمرّة النقاش من بعبدا إلى مرسيليا إلى هوت ميزون HAUTE MAISON إلى باريس فإلى الرابية.
أما اليوم فأخاطب الجنرال عون بالكتابة فقط، لانقطاع كامل الاتصالات المباشرة بيننا، وليسمع الدكتور سمير جعجع والآخرون أيضاً، أنّ لبنان سيتبع العراق بخيار صياغة جديدة لدستور يراعي المستجدات باتجاه لا مركزيّ – فيديرالي بعد أن تسبقه دول عربيّة أخرى كثيرة.
تعرّفت إلى الجنرال عون سنة 1985 يحمل الوجع والدمع الذي أحمله وخاصّة الغضب ضدّ وعود عبدالحليم خدام (نائب رئيس الجمهوريّة السوريّة السابق) وحكمت الشهابي (رئيس أركان الجيش السوريّ السابق أيضاً) اللذين وعدا بعدم السماح باجتياح إقليم الخروب وشرق صيدا (في 28 نيسان- أبريل - 1985)، لكنّهما لم يلتزما بالوعد والعهد، فأخذت على عاتقي إعادة ترميم العلاقة مع قائد الجيش، فكنت رابطة الوصل بينه وبين سورية. وقد ساهمت تدخّلاتي مع خدام والشهابي بمنع إسقاط سوق الغرب حتّى لا تكتمل الإمارة لجنبلاط. كانت الغاية عندي تنحصر في إعادة المهجّرين واستعادة هيبة الدولة من الميليشيات.
ورافقت عون سياسيّاً في استرداد سوق الغرب عسكريّاً صيف 1989 وإسقاط أحلام الإمارة الدرزيّة- الجنبلاطيّة. وكنت معه حين رفض الاستجابة لمنطق خدام والشهابي بضرب «القوّات اللبنانيّة» لقاء الاعتراف له وحده بزعامة المنطقة المسيحيّة، وكان الردّ إصراراً على معاملة واحدة لكلّ الميليشيات (أمل– الاشتراكيّ– القوّات). وكانت حرب التحرير (14 آذار- مارس 1989) التي فشلت في إسقاطه، بعد أن خُطِّطَ لها لتكون حرب الإلغاء الأولى، ففوجئ السوريّون بانقلاب الصراع بين القوّات وعون إلى تحالف.
ثمّ كان اتفاق الطائف، الذي خصّص لعزل الجنرال مع منطقه الوطنيّ «المتمرّد»، ولوضع لبنان تحت الوصاية، ونقل السلطة إلى مجلس الوزراء، لتصبح قواعد مقسّمة ومنفصلة لهرم ملتبس أصلاً. فكانت حرب الإلغاء الثانية في 30 - 12 - 1989 التي طبّقت فيها «القوّات اللبنانيّة» خطّة الدفاع متهمةً عون بإشعالها.
اكتملت حروب عون العسكريّة، بخسارة حرب 13 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1990 (حرب الإلغاء الثالثة) ضدّ السوريّين من دون قبول ولا تسليم للسيادة والحرّيّة والاستقلال. بدأ عون مرحلة النفي والعزلة، تاركاً القصر في ملالة إلى السفارة الفرنسيّة ومنها في فرقاطة إلى مرسيليا ومنها إلى HAUTE MAISON ثمّ باريس. فسقطت الجمهوريّة الثانية، التي رسمها الطائف، في القبضة السوريّة التي تحوّلت من وصايةٍ مرتجاة إلى احتلالٍ قاهر ومغتصب، على رغم لجوء المتعاملين مع الاحتلال إلى وصفه بالوجود الشرعيّ والموقّت.
بعد عودته، ركب الجنرال مجدّداً قطار صراع التيّارات السياسيّة وكأنّها استمرارٌ لحروب الإلغاء الثلاث. وقد وصفه وليد جنبلاط ب «التسونامي» قبل أن يحطّ بطائرته. ولم يلقَ الحفاوة التي توقّعها خلال زيارته قبر رفيق الحريري. فاستغلّه بالردّ الفوريّ والمباشر في خطاب 7 أيّار، معلناً «الرفض للإقطاع الماليّ والسياسيّ». ولاحقاً رفض كلّ «تشكيلات لوائح الانتخابات التي اقترحتها معارضة البريستول، كما المعارضة الرباعيّة الأطراف الملتبسة الأهداف والرؤوس»، التي اعتبرها غير شرعيّة وتزوِّر إرادة «الشعب العظيم»، بالضغوط الماليّة والعاطفيّة المغمّسة بألوان الطائفيّة والمذهبيّة، والفتاوى والتكاليف الشرعيّة. وقد أدّت محاولات الجنرال للتفاهم مع الحريري بعد الانتخابات على حصّته من الوزراء إلى رفضه المشاركة في الحكومة شكلاً وأساساً «لالتباس مهمّاتها ومشاريعها وأشخاصها».
وأعترف أنّني في هذه الرحلة، بدأ ينتابني الشكّ في حسن قراءة الجنرال ولمرّتين: الأولى يوم استمرّ التفاوض بينه وبين موفدي الحريري وجنبلاط فترة أسبوع تقريباً، لتركيب تحالف انتخابيّ وفشل. والمرّة الثانية يوم أعلن تحالفه وقبوله المشاركة بالوزارة من قريطم، وقد أعلن على أثره أنّه تمّ الاتفاق على 95 في المئة من النقاط مع سعد الحريري لتشكيل الوزارة قبل أن يعلن لاحقاً أنّ الاتفاق لم يتمّ، وفعلاً أحسن. وتوهّمت أنّ الجنرال عاد إلى منهجه القديم ونجا بنفسه وبمؤيّديه من التجربتين وضغوطهما الخارجيّة وإغراءاتهما الداخليّة. ولمت نفسي على التشكيك لمرّتين. واعتذرت.
ورحت أدقّق أكثر في قراءته، بعد أن انتقل «الضابط المتمرّد» و «القائد العنيد» و «الزعيم الوطنيّ» إلى مجلس النوّاب. وبادر في إثارة قضايا حسّاسة بدأها أولاً بالمطالبة بتسهيل وتبنّي عودة «الهاربين» إلى إسرائيل من أهل الجنوب. وثانياً بمطالبته المقاومة الإسلاميّة في الجنوب بكشف هويّتها الأساسيّة وحدود أهدافها. وثالثاً محاسبة وإسقاط الطبقة السياسيّة اللبنانيّة المتعاونة والفاسدة المسؤولة عن فشل الأجهزة المدنيّة والعسكريّة، وتوزيعها مغانم على المتعاونين، وظننت أنّه عاد إلى كتاب: «الجيش هو الحلّ».
لكنّ عون الذي استعجل بالأمس فرح توحيد لبنان، فكان نصيبه النفي، هو اليوم أمام استحالة التوحيد ولا يعطى له سوى آية الفيديرالية أو ما شابهها... ولو في بطن الحوت؟ اليوم ونحن نشهد تحوّل التيّار العونيّ إلى حزب، نسأل مع شعب لبنان عن الحلّ– النموذج، الذي سيجترحه الجنرال عون من نظريّاته وتجاربه لواقع الوحدة الوطنيّة المستحيلة. فهل يدعونا إلى مواجهة أو قبول القدر؟ وهل لا يزال يرى أنّ قيادته الوطنيّة، والتي دفعته للتمسّك بالشعارات الشاملة، تصلح لساحات وإقطاعات ومناطق متنافرة سياسيّاً واقتصاديّاً وأمنيّاً؟ ألا تشير الدلائل إلى استحالة استرداد الدولة المركزيّة لوطن مقسّم إن لم يكن بات وطناً سابقاً!
واليوم أيضاً، ونحن نراقب تحوّل «القوّات اللبنانيّة» إلى حزب، نسأل الدكتور سمير جعجع، وبعد 11 سنة من السجن بسبب قناعاته المسيحيّة الفيديراليّة، عن النموذج الذي سيقدّمه للتعبير عن قناعاته الجديدة التوحيديّة والوطنيّة؟ وهل تصحّ أفكار فارس سعيد العروبية المكويّة لتفادي التوجّه المعاكس التصادميّ بين عون وجعجع؟ أم هي قراءة خاطئة وسيلتقي الرجلان في محطّة ما؟ أم إنّ «التقسيم شرّ كلّه، والتوحيد خير جلّه»؟ وهل نبحث عن برنارد شو جديد، ليحدّد لنا صيغة بين الوحدة والفيديراليّة، الملبننة ولو بقناعٍ لامركزيّ.
كثيرون يؤمنون وأنا منهم أنّ عون نُفِيَ، ولم يهرب وفقاً لمزاعم الآخرين، وذلك بسبب تمسّكه بشعاره الوطنيّ للجمهوريّة الواحدة. فأخرج من لبنان لأنّه «وحدويّ»، أمّا سمير جعجع الذي وافق في حينه على الطائف، فاتُّهِمَ بالتمسّك بمشروع التقسيم أو الفيديراليّة، وأُدخل السجن في لبنان لأنّه «تقسيميّ». وخرج يبحث عبثاً عن التوحيد؟!
وكانت عقوبة واحدة «مناسبة» أو «استنسابيّة» لعون المتمسّك بالوحدة وجعجع الطامح إلى الفيديراليّة، وكلاهما نفّذ عقوبته حتّى الثمالة وعاد إلى قيادته مجدّداً. ولكن، إلى أين سيقودنا؟
لقد فَقَدَ لبنان- الوطن اليوم قياداته المارونيّة، بخاصّة كميل شمعون وريمون إده وبيار الجميّل، والدرزية كمال جنبلاط ومجيد أرسلان، والسنّية صائب سلام وتقي الدين الصلح، والشيعية موسى الصدر ومهدي شمس الدين، وكذلك قيادات فلسطينيّة (أبو عمار وجورج حبش)، وعربية (عبدالناصر وحافظ الأسد). وفي العراق، قام دستور فيديراليّ يحميه جيشا الأكراد والشيعة بمظلّة الديموقراطيّة الفيديراليّة. أمّا سورية فهي تترنّح أمام ضغوط خارجيّة ومقاومة إسلاميّة داخليّة، بانتظار اكتمال دستور فيديراليّ مناسب لعلويّيها وسنّتها ودروزها أيضاً.
فهل تنتهي «الخيارات» الوحدويّة التي انطلق منها ميشال عون منذ 1985 إلى «قدريّة» الفيديراليّة أمام فراق شيعيّ شرعيّ انطلق من الضاحية صعوداً إلى البقاع ثمّ باتجاه الحدود والوجود؟ مع بروز نظريّة جديدة: مقاومة العدوانيّة الإسرائيليّة، وطلاق سنّيّ علنيّ ظاهر في تشكيل الحكومة والبحث عن رئاسة الجمهوريّة، وضمنيّ ملتبس في تشكيل حالات سلفيّة لبنانيّة وفلسطينيّة في بؤر وجزر معبّأة وجاهزة لمنع وزعزعة تجارب الوحدة والعلمنة والحداثة؟ وهل أنّ عون أمام خصومة حصريّة درزيّة جنبلاطيّة دائمة أو ربّما موقّتة في زعامة الجبل؟ فتصبح حينها الفيديراليّة حلاً وحيداً مفروضاً لتجاربه المستعصية أو المستحيلة للتعايش في الوحدة؟ فيفرض عليه «شرّ الفيديراليّة» أو التساكن اللامركزيّ خياراً وقدراً وحيدين؟!
وهل تنتهي «القوّات اللبنانيّة» التي تبنّت بالأمس «شرّ الفيديراليّة»، وسمير جعجع الذي دخل السجن 11 عاماً لتمسّكه بمشروع الفيديراليّة ليقبل اليوم «خير الزعامة» الوطنيّة الظاهريّ، والالتحاق بدولة الوحدة الملتبسة والمستعصية، حلاً مفروضاً وبديلاً لتجاربه الصعبة أو المستحيلة للتعايش في الفيديراليّة؟ فيمتطي جعجع «خير الوحدة» المتوهّمة خياراً وقدراً ليسعد بسَبَق الرئاسة الهاربة إلى محطّتها الأخيرة والنهائيّة؟!
أم إنّ تبدّل الزمن والمعطيات الداخليّة والإقليميّة والدوليّة سوف تجعل عون وجعجع يلتقيان في تقاطع ما بين التوحيد المستحيل خياراً والفيديراليّة الممكنة قدراً؟ أم إنّنا سنستعيد كاريكاتور إيلي حبيقة (قائد «القوّات اللبنانيّة» الأسبق) الذي خلال لقائي الأوّل به، بعد أن طُرِدَ إلى باريس وانقلاب «القوّات اللبنانيّة» عليه وعلى الاتفاق الثلاثيّ الذي وقّعه مع وليد جنبلاط ونبيه بري في دمشق، لاحظ في نظراتي استغراباً. فسألني: «هيئتك مش عاجبك حكيي»؟ فأجبت: «إنّها ليست قصّة عجب وإعجاب بل مفاجأة ونكء جراحٍ عندي تعود إلى أكثر من ثلاثين سنة، عندما كنت ملتزماً بحزب البعث وكنت أستعمل العبارات والأفكار نفسها التي أسمعها منك الآن». فاستطرد إيلي حبيقة فقال لي «أنتم العروبيّون واليساريّون ناضلتم زمناً طويلاً بدور المومسات والآن بعد ارتدادكم عن العروبة ترغبون بممارسة دور الراهبات»، فنبّهته إلى «أنّ المومس تستطيع أن تتحوّل إلى راهبة ناجحة مستفيدةً من تجاربها، أمّا الراهبة فإنّ تجاربها السابقة لا تحوّلها ولا تساعدها أن تصبح مومساً ناجحة». ويبدو أنّ حبيقة حمل هذا الردّ واقتنع به. وقد التقيته بعد ذلك مراراً وأكّد لي هذه القناعة.
الوحدة العصيّة
من موقعي وتجاربي المتواضعة، سابقاً كقوميّ عربيّ يساريّ مع ميشال عفلق وأبو عمار، وطنيّ لبنانيّ مع كمال جنبلاط، متابع ومشارك لمسيرة الحرب وتجربة ميشال عون، مهجّر أقف على حدود المواطنة السابقة، أشهد أنّ الوحدة التي كانت عصيّة في التجارب الوطنيّة اللبنانيّة والقوميّة العربيّة، لا تزال حتّى اليوم عصية وأبعد منالاً، ولو كان لبنان صغيراً على التقسيم في حجمه، فإنّ مجموعاته المختلفة أو المتميّزة والمتصارعة لن تحقّق ذاتها إلا في شكل أو نموذج لامركزيّ فيديراليّ. وقد كان ذلك أكثر إمكاناً في السابق، وقد أحسَّ به نوّابنا في الطائف لكنّ جرأتهم توقّفت عند الدعوة إلى لا مركزيّة إداريّة. أمّا اليوم فنحن نعيش حالات استحالة داخليّة أكثر افتضاحاً من السابق. حتّى بتنا نقرأ في شوارعنا لافتة: «الرأي والمشورة، القرار والإمرة، الطاعة والولاء لإيران أو لسورية»، ونراقب أجزاء ومناطق نشأت وكانت محرّمة على الغير بمجموعاتها المتعدّدة المنهج ولكنّها حكماً لغير الوطن اللبنانيّ، ولكنّها موحدّة في السلفيّة مختلفة ومتناقضة في الولاءات. بعضها يبحث عن الخلافة ونظمها الشرعيّة وبعضها الآخر ينتمي إلى الولاية الشرعيّة المطلقة والشاملة، لتسقط عندها نظريّة دولة الحقّ الحديثة والعلمانيّة، ماسحة في «ثورتها» وبرياح رمل ربيعها خرائط القوميّين العرب من المحيط إلى الخليج، بعواصف تحصد حدودنا وتعجننا بوحلة المزابل التي تراءت لنا أحلاماً قوميّة حيناً مع حزب البعث وحركة القوميّين العرب، وأحياناً علمانيّة ماركسيّة مع أحزاب اليسار وأفكار النهضة. وتتساقط وتتحكّم «طيراً أبابيل» على المجتمع المدنيّ والسياسيّ، الفتاوى والتكاليفُ الشرعيّة، المكّيّة والمدينيّة، وكأن الوحي عاد ينزل على الأنبياء الصغار المزوّرين.
اليوم يعزفُ لنا رجالُ دين ودور العبادة، ما لا يطرب مسامعنا من نماذج جديدة للتعايش ومواجهة التحدّي والإصلاح والتغيير، ببناء تجربة الحقوق المدنية المسندة إلى مشاريع طائفيّة ذات أبويّتين خارجيّة وسلفيّة.
كفانا تعذيباً لأنفسنا
بل إنّهم يقدّمون ما هو أسوأ من التجربة المستحيلة مرّة جديدة. كما كانت سابقاً. فهل يقرأ ميشال عون ويعتبر، فيتراجع ويترجّل عن حصانه الوطنيّ الجامح ركضاً وراء سراب الصحراء السياسيّة ويتوقّف عن مطاردة الجمهوريّة المستحيلة؟ وهل يتريّث جعجع قبل مغامرة ومطاردة الوحدة والجمع الملتبس بين زعامة مسيحيّة سابقة محقّقة وزعامة وطنيّة مرتجاة، ليلتقي الاثنان وبقناعة مع كلّ تكوينات المجتمع اللبنانيّ، على صيغة عيش في مجتمعات تشبه في أنظمتها المدنيّة أهل هذا الكيان، حتّى لا نستمرّ في صراعات العيش المشترك إلى أن يقدّر الله تحقيق التوافق والتشابه الفعليّ في قوانيننا المدنيّة بعيداً عن تقسيماتنا المكّيّة والقدسيّة، بأنّ ملكوت الآلهة ليس على هذه الأرض. كفانا كفراً بآلهتنا وتعذيباً لعقولنا العاجزة حتّى نهاية الزمن عن حلّ خلافات ميراث السماء.
وبكلّ تواضع وصدق لنعتبر ونتّعظ، فإنّ وحدتنا ليست أقوى من وحدة أرض الرافدين التي بدأت تفسح المجال لنموذج فيديراليّ جديد. وإذا كان ميشال عون وجعجع وغيرهما سيتخلّون عن رؤية واجتراح نموذج جديد، فإنّهم لا شكّ سوف يستمعون غداً إلى صوت اللبنانيّين المقيمين، وخاصّة المهجّرين يقول لهم: «اليوم أتيتم! لقد تأخرتم كثيراً». لقد خسرتم الفيديراليّة في تشبّثكم بالوحدة، بينما كانت الفيديراليّة ربّما الطريق الأصوب والمحطّة الأخيرة إلى الوحدة لاحقاً. فلم تعقلوا ولم تتوكّلوا حتّى تربحوا رهان برنارد شو بانتزاع إذن الصلاة (الوحدة) وأنتم تدخّنون (الفيديراليّة).
ومرّة جديدة ليقف عون وجعجع أمام التحدّي «المستحيل» بشجاعة القائد ليبحثا عن وطن وجمهوريّة وليس عن مقعد وسلطة، وعن قُطر ولا ولاية، يبحثان عن شعب لا رعيّة. ومهما كانت الصعوبات كبيرة وكثيرة وحتّى حدود الاستحالة، فإنّ القائد الحقيقيّ لا يستسلم أبداً، حتّى إن أخطأ وأنكره شعبه وتَعِبَ من قيادته، فرسالته أن يبقى واقفاً ومُتْعِباً لشعبه، لمتابعة النضال من أجل الوطن وحرّيّته وديموقراطيّته. «وما نفع القائد إن لم يكن متعباً لشعبه».
أمّا الفيديراليّون، فأنا أتوجّه إليهم مرّة جديدة ألّا تجلدوا أنفسكم، لأنّ استحالة الوحدة والاندماج الوطنيّ هي بالدرجة الأولى مسؤوليّة الأكثريّة التي حالت دائماً دون قبول الأقليّة، التي لم يبقَ أمامها سوى تحقيق ذاتها في نموذج ذاتيّ مناسب.
«وبما أنّ العلمنة صعبة والطائفيّة مستحيلة»، كما بَشَّرَ المفكر اليساريّ محسن إبراهيم (خطاب الأونيسكو لمناسبة ذكرى جورج حاوي)، فإنّ القدر المحتوم الباقي يصبح الصراع العنيف بمنطق الأصوليّات المتنامية كالفطر لتحصر الحلول بثلاثة: الموت أو الذمّيّة أو الهجرة. إنّ اقتراح الحل البديل هو أن نحلم بالوحدة ونحن نعيش تجربة الفيديراليّة بدلاً من أن نَحْلم بالفيديراليّة ونحن نموت خيبات نموذج الوحدة الحاليّ، أو حروب التقسيم والخلافة المستقبليّة أو الولاية المقنّعة حالياً!
يعيدنا التذكّر اليوم إلى مطالبة الأباتي شربل قسيس صدام حسين سنة 1977 بنسخة عن مشروعه لتقسيم العراق والذي أصبح اليوم دستوراً مكتوباً بدمه.
جريمة 14 شباط (فبراير) 2005 ما كانت في بيروت سوى مجرّد إعلان لحالة عنف قائمة، ولصراع الوجود في لبنان كما كانت 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في نيويورك مجرّد إعلان عنيف لصراع الحضارات. في الجمهوريّة الأخيرة، كانت انتفاضة 14 آذار الشعبيّة إعلاناً وطنيّاً مدوّياً، وربّما يكون الأخير، والأكثر تعبيراً عن رغبة شعبيّة واسعة لطرد المحتلّ، وحبّة حنطة زُرِعَتْ في بطن سنّة لبنان، ليحصدها ربّما لقاء تعثّر كثيراً، قبل أن يعلن تباشيرها عون وجعجع في ورقة النوايا الخجولة، رغم تردّد موقف كبار المستقبل وتقلّبات وبهلوانيّات وليد جنبلاط. لكنّ هذه الحبّة لم تعطِ سنبلتها الكاملة وربّما لن تكمل نموّها لتعود وتنضمّ كتجربة مضافة ومستحيلة إلى تجارب المحاولات المستحيلة السابقة.
مصير 14 آذار
لبنان اليوم يلامس مرحلة سقوط 14 آذار كحركة شاملة لأنّ حبّاتها لم تنضج لتتحوّل عجيناً يختمر فيه عيش مشترك أو تعايش. وسيستمرّ مستحيلاً وهو في مرحلة تكريس استحالته ورسم آخر حروفها بالدم والشهادة والتهجير والهجرة. ويصرّ بعض المتفائلين على البحث عن مشروع تأسيسيّ يُطلَقُ من سكون الموت ومن مدارس قُمْ وأصفهان يحمله ويحميه ويصونه ويرعاه فيلق القدس وبالسلاح. وإذا طرحنا السؤال: هل يمكن الوصول إلى مشروع مدنيّ علمانيّ وكامل لكلّ لبنان وشعوبه؟... (وهذا كان في خانة المستحيلات) إلّا بالخروج إلى صيغة جديدة في اللامركزيّة والفيديراليّة ترعى التنوّع وتقوننه في صيغة تنفتح لاحقاً لانضمام الآخرين المختلفين أيضاً، بمثابة بطاقة دعوة مجّانيّة للخروج من الاختناقين: العربيّ– الشوفينيّ، والسلفيّ– المتخلّف.
هذا الخيار هو لسعادة الإنسان- المواطن، في جمهوريّة الوجود المنفتح لا جمهوريّة الحدود المغلقة. الجمهوريّة التي تحفظ المواطنة الكاملة لكلّ مكوّنات الشعب، مهما بلغ تعدادها. فلا تسقط في الذمّيّة الشرعيّة أو العزل «الديموقراطيّ العدديّ». وليعذرنا كلّ من يرفض العلمنة في مجتمعنا من «أبطال التحرير والتوحيد» والمقاومة ومنطق التخوين السهل والمعمّم على الآخرين المختلفين، فإذا رفضنا بالعقل والفعل تجربة إلغاء الطائفيّة السياسيّة ورفضنا التجارب والنماذج التي يستعيدون عرضها مكويّة من عفن وتخلّف وجاهليّة الزمن القديم، والتي تناسبهم وحدهم لأنّنا قرّرنا الانتماء إلى عالم اليوم الكونيّ، الذي يُبَشِّر بأنّ الإنسان أهمّ من الأرض وأهمّ من النظام وأهمّ من الوطن، حتّى أنّ الله باعتقادنا تجسّد ليفتديه بصلبه. وهذا هو الفرح الذي وحده قمّة اتحاد الإيمان والكفر. وهكذا ينتمي إنساننا الجديد إلى قائمة أوّل الكافرين وأوّل المؤمنين التي كتب عنها الأب الدكتور جوزيف قزي في كتابه الجريء «تبرئة الله من الأديان».
إنّها التجربة التي تتحدّى شجاعة القيادة المسيحيّة أوّلاً وتتحدّى جميع الآخرين أيضاً ولعلّها التجربة الأخيرة... قبل أن يصبح الكيّ بالتقسيم أو الاقتتال بحثاً عن دولة أو خلافة أو ولاية هو آخر الدواء المفروض علينا من ثقافتنا القديمة وممارسة أوصيائنا وبرغبة من أعدائنا.
فإن كان الخروج اليوم بلبنان من واقع هيمنة الأكثريّة الطائفيّة الملتبسة والمصطنعة إلى حلم العلمنة الكاملة مستحيلاً، فإنّ الفيديراليّة هي الحلّ التوافقيّ الأوحد الباقي. وهذه الفرصة، التي تتوافق اليوم مع رياح «التغيير الديموقراطيّ» المدعوم دوليّاً، تستمدّ ربّما شرعيّتها من حرب التهجير ومن نظام الطائف الذي يصحّ فيه الاجتهاد للوصول إلى الحكم الذاتيّ (الفيديراليّ) في تطبيق نصّين: الأوّل: إعادة النظر في التقسيم الإداريّ السياسيّ (الانتخابيّ)، واحةً ومحطّة انتظار آنيّة للكيانات المغلقة وربّما فيما بعد معبراً للاتحاد أو التوحيد عندما تتحقّق شروطه الثقافيّة والاجتماعيّة.
الثاني: التطبيق الموسّع للامركزيّة الإداريّة والماليّة والسياسيّة.
وكما كانت حرب التهجير 1983 و1985 إعلاناً لسقوط التعايش وتعبيراً عن شعار لا نريد العيش معاً. وكما كان الطائف، على مرّ 15 سنة، معبراً لاحتلال لبنان وإخضاعه وإسقاط أوهام حكمه ومؤسّسات دولته ولموت جمهوريّته، فلماذا لا يتحوّل اليوم التهجير والطائف معبرين لحلّ لبنانيّ جريء وجذريّ ونموذجيّ؟! فيصبح مصيرنا «خياراً» وليس «قدراً» وتتصالح إراداتنا لإنشاء «محافظات موحّدة» ومتّصلة في نظام فيديراليّ ديموقراطيّ توافقيّ يسود دولة الحقّ والمؤسّسات، ويتحوّل لبنان: «جمهوريّة المحافظات اللبنانيّة المتحدة». دائماً، بدلاً من واقعه الحالي في جمهوريات مذهبية دينية عاجزة عن التعايش فعلاً ولو تفننت به قولاً وإعلاناً.
* كاتب وسياسي لبناني


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.