كانت التوجهات السورية نحو ما يسمى بالكفاية الذاتية موجودة دائماً في أذهان المسؤولين لأسباب عدة. وخلال الحرب العالمية الثانية، كانت التجارة عبر البحار معرضة للأخطار، كما ان التوجهات الاستهلاكية كانت محصورة الى حد بعيد بالحاجات الأساسية. والسوريون بطبعهم محافظون، يحفظون قرشهم الأبيض ليومهم الأسود. وهم خلال الحرب العالمية الثانية طوروا صناعات مهمة غذائية وكسائية أسهمت الى حد بعيد في وقاية سورية من الحاجة بل في دفعها نحو مركز متقدم بين دول المنطقة. معاناة سورية من التقهقر النسبي على صعيد الانجاز الاقتصادي بدأت بعد عام 1958 وبدء تنفيذ ما سمي ببرنامج الاصلاح الزراعي، فتحويل الأملاك الخاصة الى أملاك عامة تخصص لاستثمار المزارعين في مقابل لا شيء تقريباً. وهي سياسة فشلت على صعيد زيادة الانتاج من جهة، وتحديث وسائل العمل من جهة أخرى، وغادر الكثير من أصحاب الأراضي الواسعة سورية الى لبنان وأوروبا سعياً وراء مناخ اقتصادي وسياسي مختلف. حكم البعث كان ولا يزال في منطلقاته يستند الى الكفاية الذاتية. ولهذا السبب وغيره من الأسباب السياسية انفرط عقد البعث كحزب ما بين قياديي بلدين متاخمين هما العراق وسورية. ولا شك في أن القوى الغربية ساهمت بقوة في منع أي وحدة بين البلدين وفي الحيلولة دون تعاونهما على نطاق واسع. ان أي مراقب صاحب ثقافة اقتصادية يدرك ان التعاون المنفتح والمتوسع ما بين العراق وسورية، يمثل المدماك الأساس لقيام سوق عربية مشتركة بين بلدان المشرق العربي. وعام 1958 حينما شهد العراق ثورة عبدالكريم قاسم والاطاحة بالنظام الملكي وأهله، أنزلت بريطانيا قواتها في الأردن للحفاظ على نظام الملك حسين، الذي كان وضع أسس اتفاقية فيديرالية مع قريبه ملك العراق، كما حط الأميركيون في لبنان وأنهوا ما سمي بثورة 1958. ووجدت سورية نفسها على تواصل مع مصر عبدالناصر وأقبلت على اتفاقية الوحدة التي استمرت ثلاث سنوات فقط. خلال عهد الجمهورية العربية المتحدة ترسخت الأسس الاشتراكية للنظام، وأشرف المصريون على تسيير شؤون سورية. فكان هنالك تباعد ما بين نظرة الحاكم وواقع العلاقات على الأرض، مما أسهم في تعجيل الانفصال. بعد الانفصال استمرت سورية في تطبيق المبادئ الاشتراكية البعثية، التي كانت الى حد بعيد مرتبطة نظرة الاقليمية التي تقزمت نتيجة الخلافات في المواقف الى فطرة قطرية خاصة بكل بلد على حدة، أي بالعراق من جهة، وبسورية من جهة اخرى. وتأصلت مع هذه النظرة مساعي الكفاية الذاتية والتصنيع الغذائي والكسائي في المكان الأول، والتمسك بمنهجية الاحتماء وراء حواجز جمركية مرتفعة. ومنذ تولي الرئيس بشار الأسد مقاليد القيادة السورية، بدأت تلوح معالم تحرير السوق تدريجاً وتقبل مبادئ الأسواق الحرة وربما الانخراط في منهجية العولمة عن سبيل انجاز اتفاق موسع للتعاون التجاري والمالي والثقافي مع السوق الأوروبية. هذه التوجهات كانت قد بدأت منذ أواخر الثمانينات بإشراف وتوجيه الرئيس حافظ الأسد. وسورية تتمتع بمعطيات طبيعية مميزة كما ان الكادرات البشرية السورية بما فيها الشباب المهاجر والعامل في الولاياتالمتحدة وأوروبا والخليج العربي هي غنية ومتنوعة الكفايات وذات موارد مالية ملحوظة. لقد أراد الرئيس حافظ الأسد استقطاب السوريين الناجحين الى سورية للانخراط في إقامة المشاريع وإغناء البلد بالمبادرات والكفايات، لكن سرعة التغيير في بلد يسير من قبل قيادة حزب اشتراكي العقيدة ووطني الالتزام، كانت بطيئة وغير متناسبة مع التطورات العالمية خلال الثمانينات وبالتأكيد في التسعينات. خلال الثمانينات اكتمل عقد السوق الاوروبية وتحددت جغرافية السوق لتشمل بلدان الأطراف الجنوبية: اسبانيا واليونان والبرتغال، وأصبحت سورية بالنسبة الى اوروبا بلداً يقصد للسياحة من دون أن يكون مستهدفاً لإنجاز اتفاقات مشاركة وتعاون. فالتوجه الأوروبي نحو هكذا اتفاقات تركز في المكان الأول على بلدان شمالي افريقيا، الأقرب جغرافياً الى اوروبا والتي تربطها علاقات أوثق ان على صعيد العمالة أو التجارة مع أوروبا الغربية. سورية البعيدة عن أوروبا أرادها الرئيس حافظ الأسد أقرب الى البلدان الأوروبية، فبادر الى اتخاذ مبادرات لتحسين المناخ الاستثماري فيها كما الى تحسين العلاقات السياسية مع عدد من الدول الأوروبية خصوصاً فرنسا وألمانيا، كما انفتح الى حد بعيد على التعامل مع الولاياتالمتحدة وصدقية شخصيته طبعت رجالاً مؤثرين مثل كيسنجر أو رجالاً متميزين مثل كلينتون. لكن سورية بقيت على رغم هذه المساعي على مشارف دائرة التعاون الاقتصادي المتطور لا داخله. اليوم تواجه سورية ضغوطات من المجتمع الدولي، ولدى القيادة السورية خيار من اثنين: إما الانغلاق والاكتفاء الذاتي كما أكد نائب رئيس وزراء سورية بأنها قادرة على ذلك، وإما الانتساب الى اتفاقات التعاون الاقتصادي والتجاري والمالي والثقافي وتبني منهجية الانفتاح، وهذا ما دعا ويدعو اليه الرئيس بشار الأسد في تصريحاته ومقابلاته. ان كلاً من المنهجين مخالف للآخر، فلا مجال لاعتماد المنهجين معاً، والحكم في سورية عند اعتماده منهجاً معيناً يحتاج الى زمن ليس بقصير لتعديله. خطوات الانفتاح بدأت قبل نهاية الثمانينات وأخذت تعطي بعض النتائج في التسعينات. ومن ثم وسع الرئيس بشار الأسد فسحة التعاون الدولي لتشمل اتفاقية التعاون مع السوق الأوروبية، وربما الانتساب الى منظمة التجارة الدولية. وأي تراجع عن هذه التوجهات يضر بسورية ومستقبلها، فسورية لا تنقصها الموارد ولا يعوزها الموقع. وكل ما تحتاجه هو الاقتناع الدولي بأنها قررت الانفتاح فعلاً على مجاري التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي. وفي حال ترسخت هذه القناعة وتوسعت رقعة دولة القانون في سورية، أي توضح مدى حرية المبادرات الاقتصادية والسياسية من دون التعرض لعواقب انتقائية حزبية، يمكن أن نشهد فيها نمواً سريعاً ومتنوعاً. والعكس بالعكس. اذا شاءت سورية الانطواء تحت مظلة الكفاية الذاتية، لن يكون أمامها مجال للحاق بالمجتمع الدولي في العقود المقبلة. ومن المفيد التذكير بأن لا دولة في العالم تستطيع تحقيق الكفاية الذاتية. فهنالك تقنيات لا بد من استيرادها وأدوية وكفايات... الخ. ومن أبسط قواعد علم الاقتصاد ان فاعلية الانتاج والتبادل تستند الى المزايا التنافسية ما بين الدول. وهذه أصبحت تتحدد بالعلوم والاتصالات والتكنولوجيا واللغات في المقام الأول. فعسى أن لا تتقوقع سورية لأن في ذلك انتحاراً لا ازدهار. خبير اقتصادي.