عام 1973، وبعد شن مصر هجوماً على القوات الاسرائيلية المنتشرة على الضفة الشرقية من قناة السويس، وتقدم القوات السورية في الجولان، تسارعت الأحداث وألقت الولاياتالمتحدة بثقلها الى جانب اسرائيل، فاستعملت مخزونها من السلاح في أوروبا لمساندة الاسرائيليين، وقد ساعدتهم على قلب المعادلة. فبعد ان اندحروا في وجه الهجومين المفاجئين يوم الغفران في 6 تشرين الأول اكتوبر من ذلك العام، استطاعوا تجاوز قناة السويس الى الضفة الغربية منها ورد الهجوم السوري بنسبة 90 - 95 في المئة. إثر هذه التطورات، أقرت الدول العربية المنتجة والمصدرة للنفط برنامجاً لخفض تسليمات النفط. وقد دعم هذه المبادرة المرحوم الملك فيصل بن عبدالعزيز الذي كان يعتبر صديقاً للغرب. لكن صبره نفد حيال السياسات الأميركية المنحازة لمصلحة اسرائيل، فشجع للمرة الأولى في تاريخ حكمه على استعمال النفط كسلاح سياسي، الأمر الذي أدى الى ارتفاع سعر البرميل من حدود 2.2 دولار الى 11.7 دولار أي تجاوز الارتفاع نسبة أربعة أضعاف. خلال السنوات المنقضية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم، تطور العالم الصناعي بصورة هائلة، تنظيمياً وتقنياً، وكان المطلوب ان يجاري العالم العربي هذا التطور. لكن البلد القيادي العربي الذي كان مرشحاً لتقديم دور المثال على التطور الايجابي كان العراق. لكن قيادته أفسدت مستقبله كما ألقت بأثقال كبيرة على موارد العالم العربي شغلت بلدان الخليج لعقدين على الأقل عن التطور، فأصبح العالم العربي متأخراً الى حد بعيد عما حدث في العالم، وسنعرض الخطوط العريضة لهذه المأساة. أوائل السبعينات كان العراق البلد العربي الواعد، فالثروة النفطية فيه هي الأوفر في منطقة الشرق الأوسط، والثروات الطبيعية فيه موجودة بكثرة منها الكبريت والمساحات الزراعية والمياه المتدفقة. وأهم من كل ذلك مجموعة كبيرة من أصحاب الكفايات من العراقيين المتخصصين في أفضل جامعات العالم. فالعراق كان يتمتع بعدد كبير من علماء الجيولوجيا والعلوم الحسابية والفيزياء والعلوم الاقتصادية والمصرفية والسياسية، وكانت له مؤسسات ذات امتداد عربي. فرض الحكم البعثي، خصوصاً بعد تركيزه في أيدي صدام حسين، الانتساب السياسي الى فريقه إذا أراد الفرد المتعلم ان يلعب الدور الذي استعد له علمياً لسنوات. وقد نفر آلاف الاختصاصيين من واجب الانتساب الى أهواء السلطة للمحافظة على الموقع، فهاجروا ومنهم آلاف انخرطوا في العمل في الكويت ودولة الإمارات، أو حلوا في لبنان وبريطانيا وبلدان أبعد كأستراليا. هجرة الأدمغة هذه كانت مسؤولية التوجه السياسي لصدام حسين وفرضه خيار فلسفة بعثه هو أو التهميش ان لم نقل التهشيم، فغادر هؤلاء قبل تدهور الأمور. في المقابل، كانت خطوات التعاون والانفتاح تتعزز في الدول الصناعية، خصوصاً بين الدول الأوروبية التي كانت قد وقعت اتفاقية لإنشاء سوق مشتركة. عام 1976 كانت الفترة المنقضية على توقيع اتفاقية السوق عشرين سنة، وكان تحرير التجارة ما بين بلدان السوق قد تحقق بنسبة كبيرة وبقيت هناك خطوات أساسية لاكتمالها مثل انضمام اسبانيا واليونان والبرتغال. وقد تحقق جميع هذه الخطوات في السنوات اللاحقة وتبعها مع بداية القرن الواحد والعشرين توحيد العملة الأوروبية. دفع توسع وتطور تكامل السوق المشتركة بلدان مناطق أخرى للتمثل بهذا التوجه، وساعدت تطورات التكنولوجيا الى حد بعيد على تحقيق خطوات التكامل الاقتصادي. فالثورة التكنولوجية تمثلت بالمنتجات الالكترونية التي وفرت قدرات هائلة على الاحتساب والتحكم بجودة الانتاج والتحقق من الالتزام بالمقاييس الخ. ومن ثم تسببت التطورات التقنية والأقمار الاصطناعية في افساح مجال الفضاء للإعلام الآتي عن مختلف التطورات السياسية منها عبر محطات التلفزة أو الاقتصادية عبر البث الاختصاصي المستمر مثل وكالة"رويترز"وپ"بلومبرغ"وغيرهما، فأصبح العالم المتطور بمثابة قرية كونية. وهذه الخصائص كانت بارزة مع انبلاج عقد التسعينات عندما كانت العقيدة الشيوعية قد انهارت تحت الحجارة المتساقطة من جدار برلين، الذي بدأ بهدمه أهل ألمانياالشرقية ومن ثم ساعدهم بحماسة أهل ألمانيا الغربية، فتهاوى الجدار الفاصل بين حضارات متناقضة بل مناهج سياسية متضاربة. خلال فترى تسارع نمو الأسواق المشتركة - عقدي الثمانينات والتسعينات - في أوروبا وأميركا الشمالية وجنوبي آسيا وأميركا الجنوبية وحتى في أوروبا الشرقية، كانت الدول العربية منشغلة بحروب العراق. صيف 1980 بدأ صدام حسين حربه على إيران وقد برر هذه الخطوة الحمقاء بالقول انه يحمي دول الخليج من التوجه الإيراني لفرض حكم ديني بقيادة الإمام الخميني، الذي تولي قيادة إيران منذ شباط فبراير 1979 حينما ترك الشاه ملكه وغادر إيران ليبحث عن مكان يقيم فيه. واستمرت حرب العراق - إيران ثماني سنوات ولحق دمار واسع بجنوبي العراق وغربي إيران وخسائر بشرية كبيرة، كما استنفد العراق احتياطاته النقدية وقسماً كبيراً من موارد جيرانه خصوصاً الكويت والسعودية والإمارات. وانتهت الحرب من دون رابح أو خاسر على صعيد الأرض سوى شعوب البلدين حيث كان العناء كبيراً، وخسر كل من العراقوإيران طاقات شبابية وكادرات علمية إما بسبب إصابات الحرب أو الهجرة. وما كادت النفوس تهدأ حتى أقدم صدام حسين في أول آب أغسطس 1990 على احتلال الكويت معتبراً انها كانت جزءاً إدارياً سلخ عن العراق. ولو استمر هذا الاحتلال لأعطي صدام حسين تحكماً بأعلى نسبة من الثروات النفطية تقع في أيدي سلطة واحدة في العالم. كما انه لو وافق المجتمع الدولي صدام على خطوته هذه، لكان حاز احتياطاً مالياً ملحوظاً تجمع للكويت، نتيجة اتباعها خطة وضعها أصلاً عراقي متميز هو الدكتور فخري شهاب لإنشاء صندوق احتياطي للأجيال المقبلة. عبثية وعنجهية صدام حسين في احتلال الكويت حفزت العالم الغربي على التدخل بقوة لطرد قواته من الكويت، فكانت الولاياتالمتحدة الدولة التي جمعت حولها قوات دولية لتحرير الكويت، وشاركت سورية بقرار من الرئيس حافظ الأسد وبعدد ملحوظ في هذه القوات، وتحققت عملية طرد القوات العراقية من الكويت قبل نهاية شباط فبراير 1991. لكن هذه الحرب العبثية التي نتج عنها احتلال الكويت على مدى سبعة أشهر وقتال لمدة لا تتجاوز الأسبوع في شباط 1991، تجاوزت أكلافها المباشرة وغير المباشرة 150 بليون دولار. بعد حرب الخليج الثانية أصبح الوجود العسكري الاميركي مكرساً بإرادة ورغبة غالبية بلدان الخليج، وخطوات التكامل الاقتصادي الخليجي لم تشمل العراق، البلد الأكثر سكاناً والأوفر فرصاً بسبب المخاوف من توجهات قادته. وبالتالي بقيت بلدان الخليج خلال الثمانينات والتسعينات بعيدة من مجاراة التطورات الدولية ومتأخرة عن ركب العولمة الجديدة. * خبير اقتصادي.