تسارعت الأحداث في منطقة الشرق الأوسط، عموماً وفي سورية خصوصاً في الأسابيع التي شهدت غياب الرئيس حافظ الأسد وانتقال مقاليد السلطة الى ابنه بشار الأسد، في خطوة رأى فيها معارضوها التفافاً على المبادئ الجمهورية بينما اعتبرها مؤيدوها نزولاً عند رغبة الشعب وممثليه واختياراً مثالياً لمواجهة تحديات المرحلة الانتقالية. وبعيداً من التقييمات المختلفة وعن اليومي والسريع في الحياة السياسية اختارت "الحياة" ان تحاور الدكتور فولكر بيرتس، أحد أبرز الخبراء السياسيين المتخصصين في الشؤون السورية ضمن الدول الناطقة بالألمانية وصاحب المؤلفات المهمة عن سورية والمنطقة العربية مثل "الدولة والمجتمع في سورية" و"لبنان بعد الحرب الأهلية" بالألمانية و"الاقتصاد السياسي في سورية في عهد الأسد" و"سيناريوهات لسورية: الاقتصاد الاجتماعي والخيارات السياسية" بالإنكليزية. "الحياة" قابلت فولكر بيرتس في مكتبه في "معهد العلاقات الدولية" على أطراف العاصمة الألمانية برلين، حيث يعمل كمستشار لشؤون الشرق الأوسط، وكان الحديث الآتي: بعد القيادة العامة للجيش والقوات المسلحة وبعد الأمانة العامة لحزب البعث العربي الاشتراكي، ها هو بشار الأسد يتسلم رئاسة الجمهورية رسمياً، برأيك أين سيبدأ الرئيس الجديد عهده؟ - سيبدأ بشار الأسد في غالب الأحوال على الجبهة الاقتصادية، وذلك بمتابعة عملية اصلاح القوانين الاقتصادية. ويمكنه هنا استصدار قوانين أكثر ليبرالية والغاء أخرى سارية حالياً، تعيق الاستيراد والتصدير والاستثمار، مثل القوانين التي تعاقب على الإتجار بالعملة الصعبة، إذ تم تخفيف العقوبات في الأشهر القليلة الماضية إلا أنها لم تُلغَ نهائياً. كما أن بإمكان بشار تنفيذ مشروع البورصة أو سوق الأوراق المالية في سورية الموضوع منذ فترة فوق رفوف الانتظار. وهذا مشروع لا يحتاج الى تحضيرات طويلة ويمكن انجازه في وقت قصير نسبياً، لتتحقق بذلك آمال جزء مهم من الشريحة الاقتصادية الليبرالية. كما يمكن للحكم الجديد بدايةً افساح المجال لمصارف خاصة، ولتكن المصارف لبنانية أو عربية أو خطوة أولى، لفتح فروع لها في دمشق. ثمة امكانات واسعة في هذا المجال لا تحمل معها مجازفات سياسية أو اقتصادية كبيرة، إلا أنه لا بد من الاشارة أيضاً الى آمال الشارع السوري العريض بأن يجلب الرئيس الجديد معه الرخاء، ربما من خلال رفع رواتب العاملين في القطاع العام. ما هي طبيعة التحالف الاجتماعي الذي يقف خلف بشار الأسد؟ - في الوقت الحالي يقف تحالف واسع خلف الرئيس الجديد، والسبب هو أن الاستقرار في سورية لا يمثل هدفاً لمراكز القوى وحدها فحسب، بل أيضاً لقطاعات واسعة من المجتمع السوري، فالبرجوازية السورية ورجال الدين في مختلف المدن يبحثون أيضاً عن الاستقرار في الدرجة الأولى، ولا أحد يرغب بشكل جدي في جر سورية الى حافة صراعات دموية. لذلك فإن هذا التحالف الواسع يضم قطاعات كثيرة وقوى سياسية واقتصادية ذات توجه ليبرالي تأمل بأن ينجح بشار في فتح النظام بطريقة اصلاحية تدريجية من دون ثورات أن انقلابات، كما يضم شباباً مهتمين بالمعلوماتية ونواباً مستقلين ومثقفين يأملون برؤية أسلوب حكم حديث في سورية. من يعني الباحث الأوروبي بالضبط عندما يتحدث عن البررجوازية السورية؟ - البرجوازية السورية يمكن مقارنتها بما نسميه في أوروبا الشريحة العليا للطبقة الوسطى، ويقصد بها الصناعيون والتجار، وهم في سورية دائرة صغيرة من المستثمرين الكبار النشطين على مستوى العالم، هذه الدائرة التي اتسعت في الآونة الأخيرة تعود في جذورها الى البرجوازية التقليدية في دمشق وحلب ومدن أخرى، وتربطها علاقات وثيقة بالبرجوازية التي تركت سورية في الخمسينات والستينات تحت وطأة الإجراءات الاشتراكية والتأميمات واستقرت في لبنان وأوروبا وأميركا الجنوبية. وتختزن هذه البرجوازية امكانات استثمارية ضخمة، على الأقل بالمقاييس السورية، كما يوجد اهتمام من جانب الحكم الجديد في دمشق في اجتذاب جزء على الأقل من هذه البرجوازية المهاجرة واستثماراتها عبر تحسين العلاقة مع البرجوازية المحلية، وهذا أمر حاوله الحكم السابق من دون تحقيق نجاح كبير. ذكرت في كتابك "الدولة والمجتمع في سورية" ان أركان الحكم في سورية الثمانينات أربعة: الحزب والجيش وقوى الأمن والجهاز البيروقراطي، هل تنطبق هذه الرؤية على عهد بشار الأسد؟ - هذه الأعمدة ستبقى موجودة وان اختلفت أهميتها، ورأينا كيف تم تنشيط الحزب كوسيلة تعبئة وكمصدر للشرعية في المؤتمر العام التاسع للحزب، بعد أن تضاءل دور الحزب في السنوات الأخيرة، وتجلى هذا التنشيط في ادخال الدماء الشابة لا الى الصفوف المتقدمة فحسب، بل أيضاً الى الكوادر الوسطى. لكن لا بد من القول، ان مركز الثقل كان وسيبقى، على الأقل في السنوات القليلة المقبلة، متمثلاً في قوى الجيش والأمن التي تمتلك الخبرة الأكبر في ادارة الأزمات داخل سورية وخارجها، خصوصاً ان الصراع مع اسرائيل لم ينتهِ بعد. أما الجهاز البيروقراطي فقد عانى كثيراً في السنوات الأخيرة من سياسة تحرير الاقتصاد، وأهميته آخذة في التضاؤل شيئاً فشيئاً. انعقد المؤتمر التاسع لحزب البعث العربي الاشتراكي قبل فترة وجيزة، هل ثمة دلائل على وجود توجهات جديدة في فكر الحزب؟ - التقارير التي قدمت الى المؤتمر لا تتناسب برأيي مع حجم التغيرات في العالم وحتى في السياسة السورية نفسها. وعلينا انتظار صدور المحاضر والتقارير الختامية، الأمر الذي يتم عادة بعد عام أو عامين من انتهاء المؤتمرات الحزبية، قبل أن نعرف ما إذا كان الحزب حقق قفزة عقائدية أم لا. ويمكن القول اجمالاً ان الاجتماعات التي جرت قبل المؤتمر على مستوى القاعدة والكوادر المتوسطة أظهرت بكل جلاء استيعاب أعضاء الحزب للتغيرات العاصفة التي أصابت العالم. فالاتحاد السوفياتي لم يعد موجوداً كما كان عليه الحال إبان المؤتمر الثامن عام 1985، والصراع مع اسرائيل لا يأخذ اليوم الشكل الذي كانه آنذاك، كما لم يعد هناك توجه الى توسيع القطاع العام أو المطالبة بشكل جدي بتطبيق نموذج اشتراكي في سورية. ولكن ليس بالإمكان بعد معرفة الى أي مدى سينعكس وعي العالم الجديد، عالم العولمة والعملية السلمية والليبرالية، على مسيرة الحزب عموماً. هل يشكل فكر الأحزاب الديموقراطية الاشتراكية الموجودة في أوروبا وفي بقع أخرى من العالم بديلاً عقائدياً معقولاً أو اضافة عقائدية معقولة لحزب بعث عربي اشتراكي في سورية، أكثر انفتاحاً وتعددية؟ - حزب البعث هو حزب قومي في الدرجة الأولى، والقومية العربية لا الاشتراكية هي حجر الزاوية في ايديولوجية هذا الحزب. وإذا كان من الواضح حتى لأعضاء الحزب أن الدولة القطرية ثبتت دعائمها وان الوحدة الاندماجية كما حلم بها القوميون العرب في الأيام الخوالي لم تعد واقعية اليوم، فإن ثمة ظواهر معاصرة في العالم العربي تتجاوز حدود الدولة القطرية، منها المناقشات حول القضايا الثقافية والسياسية العربية العامة، ومنها بعض وسائل الإعلام التي تُقرأ أو تُسمع أو تُشاهد من المحيط الى الخليج. وبهذا المعنى توجد اليوم تجليات معاصرة لفكرة الوحدة العربية، وهذه التجليات ثقافية الطابع أكثر منها سياسية، وإذا نجح حزب البعث في التعامل مع هذا الواقع الجديد وفي استيعاب امكانات هذا الشكل الجديد من التعاون الثقافي العربي، فسوف تكون للحزب جاذبيته مستقبلاً سواء في سورية أو في البلدان المجاورة، أما إذا لم ينجح الحزب في ذلك فسوف تقتصر جاذبيته على كونه الحزب الحاكم في هذا البلد أو ذاك. أما في ما يتعلق بتيارات ما يُعرف بالديموقراطية الاشتراكية فأفترض أن لهذه الاتجاهات مجالاً واسعاً على الخريطة السياسية السورية خصوصاً مع انخفاض مستوى المعيشة وتفاوت الدخل الكبير بين طبقات المجتمع وتراجع الخدمات، إلا أنني أعتقد أن حزب البعث هو الحزب الذي سيملأ هذا المجال. يعتبر كثير من المحللين الغربيين ان الشعارات والتوجهات القومية الوحدوية الطاغية على عقيدة حزب البعث تمثل عملية هروب نحو الأمام، ويشيرون في هذا الصدد الى التنوع الكبير في البنية الدينية والإثنية للمجتمع السوري الشبيه بالموزاييك، ما هو الشيء الذي سيوحد السوريين في المستقبل برأيك؟ هل هو الدستور؟ - لا أعتقد أن تعريف السوريين لبلادهم يقوم على أساس الدستور على الطريقة الفرنسية مثلاً، ذلك ان الدستور السوري تم تغييره من قِبل كل نظام سياسي وصل الى الحكم منذ الاستقلال حتى اليوم. ليس الدستور هو ما يجمع السوريين، بل ذلك الشعور بالانتماء الى بلد اسمه سورية له دور معين في محيطه الإقليمي، يتمثل حالياً في كونه جبهة الصدام الأقوى مع اسرائيل وفي دوره في لبنان مثلاً. هذا البلد - أي سورية - أثبت قدرته على الحياة بعدما قسّم المستعمرون المنطقة، وبهذا المعنى توجد رغبة في الحفاظ على هذا البلد حتى على حساب أفكار الوحدة العربية أو وحدة سورية الكبرى التي كانت أقوى زخماً في الستينات والسبعينات، وهذا ما يفسر في رأيي ذلك الميل عند السوريين لإعطاء أهمية كبيرة للدولة السورية وللفخر بالانتماء لهذا البلد ولاعتباره أكثر أهمية من باقي أجزاء سورية الكبرى. هذا الولاء للدولة الوطنية السورية والاعتزاز بانجازاتها هو ما يجمع السوريين، لكنه لا يحول في الوقت نفسه بينهم وبين التضامن مع الشعوب العربية الأخرى عموماً ومع اللبنانيين والفلسطينيين خصوصاً. تزداد الأصوات المطالبة بإصلاحات سياسية واقتصادية في سورية ارتفاعاً منذ مطلع التسعينات حتى داخل الجسم الحاكم، الى أين تتجه سورية على المديين المتوسط والبعيد؟ - يلاحظ المتابع للجدل السياسي الدائر حالياً داخل سورية أن هناك ميلاً لما يمكن تسميته بالنموذج التركي الذي يعطي الجيش أو مجلساً للأمن القومي صلاحيات واسعة كونه مركز القرار الأخير، إلا أنه يسمح في الوقت ذاته وتحت هذا السقف بانتخابات حرة وتبادل دوري للسلطة بين الأحزاب المختلفة على مستوى الحكومة. ولا تطمح القوى الواقعية في سورية التي تريد الحفاظ على الاستقرار من جهة والانفتاح تدريجاً من جهة أخرى الى أكثر من هذا النموذج حالياً، الذي يمثل في الحقيقة خطوة واسعة نحو الأمام بالنسبة لسورية في حال تطبيقه. وثمة نموذج آخر يمكن الحديث عنه أيضاً في هذا الإطار هو النموذج المصري الذي يمثل نسقاً ديموقراطياً داخل نظام قوي الاعتماد على المؤسسة الرئاسية، هذا النموذج يسمح بالتعددية الحزبية لكنه يحدد الحزب الحاكم والأحزاب المعارضة ويرتب الغالبية البرلمانية قبل الانتخابات عملياً، وبالتالي لا يذهب بعيداً كمثيله التركي ولا يحقق الآمال المعقودة على الحكم الجديد في سورية، وان كان يمثل خطوة أولى باتجاه التغيير. بعض المراقبين السياسيين يذكرون في هذا الصدد النموذج الصيني الذي يختصرونه عادة بالانفتاح الاقتصادي والانغلاق السياسي... - هذا النموذج يكثر الحديث عنه، لكنه لا يمثل امكانية حقيقية للمقارنة بسبب اختلاف طبيعة الاقتصاد السياسي في كل من الصين وسورية، فالصين بلد يستطيع الاعتماد بشكل أساسي على سوقه الداخلية، وهذا ما لا تستطيعه سورية التي يتوجب عليها الاندماج بشكل أكبر مما تفعل الآن في اقتصاد المنطقة وفي الاقتصاد العالمي إذا أرادت الوصول الى الرخاء الاقتصادي. هذا أمر له علاقة بحجم الاقتصاد وبالموقع الجيواقتصادي للبلد، وسورية كانت عبر التاريخ بلد تجارة ينتعش من خلال التبادل مع جيرانه ومع أوروبا، ولا يعني هذا ان تتوقف سورية عن تحديث زراعتها وصناعتها، ولكن الانفتاح على الجوار وعلى العالم كان وسيبقى عظيم الأهمية بالنسبة الى سورية.