علاقة غريبة جداً تلك التي نشأت بين رامي ابراهيم 20 عاما الطالب في كلية الصيدلة في إحدى الجامعات المصرية الخاصة وكل ما يتعلق ب"التواصل الإلكتروني"، سواء في صورة بريد الكتروني عبر الشبكة العنكبوتية أو من خلال الرسائل القصيرة عبر الهواتف النقالة، أو الدردشة من خلال الغرف المخصصة لذلك في الانترنت ايضاً، أو حتى بإرسال الرسائل القصيرة التي تبث أسفل شاشات القنوات الفضائية، لا سيما الغنائية منها. أصحابه يطلقون عليه اسم"رامي تكنو"، وأشقاؤه يعتقدون بأنه أدمن المراسلة الالكترونية، وهو لا يرى انه مفرط في ما يعمل. أما والدته فعلى يقين من أن ابنها يعاني طرف جنون الكتروني. والحقيقة هي أن رامي يمضي قسماً كبيراً من ساعات النهار وجزءاً من الليل في"النقر"و"التكتكة"على كل ما له أزرار، وقادر على الإرسال. يقول إن البداية كانت على كومبيوتر في مدرسته الاعدادية. وقتها كانت علاقته بهذا الجهاز لا تتعدى مادة الكومبيوتر التي يحفظها ويبصمها ليعيد سكبها على ورقة الامتحان. لكنه لاحظ أن أحد معلميه في المرحلة الاعدادية، وهو بمثابة صديق له، كان يثابر على تشغيل جهاز الكومبيوتر في وقت محدد كل يوم، وبسؤاله قال له إن زوجته التي تعد رسالة الدكتوراه في ألمانيا كانت ترسل له رسالة الكترونية لتطمئنه عن احوالها في هذا الوقت يومياً. كانت هذه المرة الأولى التي يفهم فيها رامي المعنى الفعلي للبريد الالكتروني. صحيح أنه درسه في المدرسة، وأبلى بلاءً حسناً في اسئلة تعريفه وتوضيحه، لكنه لم يفكر قط في قيمته الاجتماعية. وتبرع المعلم لصديقه بمساعدته في فتح بريد الكتروني له هو الأول في حياة رامي الطالب في المرحلة الاعدادية، فكان السهل الممتنع [email protected]. ويتذكر رامي الرسالة الاولى التي أرسلها من هذا العنوان وكانت الى والده الذي يعمل في الخليج. ويقول:"طلبت من والدتي التي تعمل سكرتيرة تنفيذية في مكتب محاماة أن تعد لي صيغة الرسالة، فخطت لي على ورقة شيئاً أشبه بالخطة العسكرية المحبوكة. على أقصى اليسار كتبت اسم والدي، وتحته اسم الشركة التي يعمل فيها وعنوانها البريدي المفصل، ثم اسم المدينة، وأخيراً الدولة، وعلى أقصى اليمين التاريخ، ثم عودة الى أقصى اليسار كتبت بالانكليزية: عزيزي بابا، وأسفلها ما معناه تحية خالصة وبعد، ثم ثلاث نقط. وتركت لي فحوى الرسالة لأكتب ما أشاء، ولم تتركني إلا بعدما وعدتها بأن أذيل الرسالة باسمي في أقصى اليمين، على أن تسبقه عبارة مع خالص تحياتي أعلاها من دون ترك مسافة بينهما". ويستطرد رامي راوياً الكارثة التي شهدتها قاعة الكومبيوتر حين دخل حاملاً"خريطته التوضيحية"ليرسل رسالة إلى والده. وما إن وضعها الى يساره ليبدأ في الكتابة، حتى لمحها طالب في المرحلة الثانوية كان يجلس الى جانبه. وهنا بدأ الهرج والمرج، اختطفها الطالب ودعا زملاءه الى مشاركته ل"فك لوغاريتمات"ورقة رامي. وأمام حيرة رامي وارتباكه ازاء ما حصل، لا سيما أنه لم يفهم سبب سخريتهم وتهكمهم، قام أحدهم بتوضيح الموقف له قائلاً:"يا إبني البريد الالكتروني لا يحتاج الى هذا التعقيد. المسألة أيسر من ذلك بكثير. ما عليك سوى أن تلقي تحية سريعة ولتكن هاي، أو"هالو"أو حتى"السلام عليكم". ومن الممكن أن تستغني عن التحية تماماً، وتدخل في صميم الموضوع. ولا تشغل نفسك وتهدر وقتك بالمسافات، والنقاط، والفواصل. هذه هي الفكرة من البريد الالكتروني، كلمة السر هي"إيزي"easy". وإذعاناً منه لرغبات الكبار من طلاب الثانوي كتب رامي رسالته بالمقاييس ال"ايزي"والحقيقة أنها أعجبته. وحين عاد الى البيت حكى لوالدته ما حدث، فهاجت وماجت، وقالت إنها تكتب رسائل منذ نحو نصف قرن، وان هذا علم يخضع لمقاييس صارمة يجب ان تحترم، وإلا اختلط الحابل بالنابل. وألقت عليه خطبة عن أهمية التمسك بالقيم وترسيخ العادات الى آخر القائمة المعتادة في مثل هذه الحالات التي يخضع فيها الجيل الجديد للتوبيخ والتعنيف. لكن رامي استخدم"التكنيك"الشهير المعروف ب"ودن من طين والأخرى من عجين"، فالذي سمعه بالاذن اليمنى وضعه في"سلّة المهملات"ونقر"محو"delete وأخرجه من الاذن اليسرى. وفي اليوم التالي، ذهب رامي الى المدرسة وفتح بريده، ووجد ما لم يكن في الحسبان. رد عليه والده متبعاً الأسلوب ال"إيزي"، والأدهى من ذلك أن والده نصحه في نهاية رسالته بأن يغير عنوان بريده الالكتروني، ويختار عنواناً"أكثر روشنة ومناسبة لسنه". وفي دقائق، تحول ramyibrahim@yahoo إلىrambro@yahoo وكان رامي حينئذ مدمناً لأفلام"رامبو"الشهيرة. واستمرrambro فترة طويلة، وكان بمثابة انفتاحة رامي الحقيقية على عالم"التواصل الالكتروني". وحل موعد العطلة الصيفية، وأقيمت في هذه المناسبة حفلة كبيرة في المدرسة. فوجئ رامي بالجميع فتياناً وفتيات يتبادلون عناوين البريد الالكتروني حتى يتيسر لهم البقاء على اتصال in touch اثناء العطلة الطويلة. خرج رامي من الحفلة محملاً بعشرات العناوين التي حفظها بعناية شديدة في ملف خاص، لا سيما أنها كانت تحوي عدداً لا بأس به من عناوين الفتيات الحسان. وفي اليوم التالي توجه الى مقهى الانترنت القريب من بيته، وأرسل رسالة متقضبة كتب فيها أنه سيكون في"النادي الاهلي"يوم كذا الساعة كذا لمن يود قضاء بعض الوقت هناك للترفيه، وارسلها forward الى القائمة كلّها. وما هي إلا ساعات حتى عاد رامي الى مقهى الانترنت مرة أخرى وكله شوق وأمل في أن يجد ردوداً على رسالته. وكانت فرحته كبيرة حين وجد ان الغالبية ردت عليه، منهم من طلب تعديل الموعد ليتمكن من الحضور، وأرسل أحدهم له بنكتة، اقترح الثالث أن يلعبوا مباراة كرة قدم. ومنذ ذلك اليوم، انتهج رامي نهجاً جديداً في حياته، فبرنامجه اليومي صار يتمركز حول زيارتين محددتين يقوم بهما الى مقهى الانترنت لإرسال رسائل واستقبال ردود. وبدأت المدة التي يمضيها رامي في المقهى تطول تدريجاً، وهو ما تزامن وعلو النبرة الغاضبة في صوت والدته المعترضة على غيابه لفترات طويلة، والأموال التي تهدر في هذا الأمر. وجاءت النجدة مرة أخرى من الوالد الذي عاد في إجازة قصيرة حاملاً معه جهاز كومبيوتر مكافأة لابنائه على نجاحهم في مدارسهم. ويواصل رامي تأريخه لمشواره مع التواصل الالكتروني، ويشير الى مرحلة جذرية وهي لحظة تحوله من"رامبو"الى [email protected]. وتظهر علامات الحرج النسبي على وجهه وهو يتذكر وقائع"الحب الأول". تعرف رامي الى فتاة في النادي، وحين شعر بأن الموضوع سيتطور، سارع الى تغيير عنوان بريده الالكتروني ليتناسب وطبيعة المرسل إليه، ففكر في هذا الاسم الذي يجمع في رأيه بين القوة"سوبر"والرومانسية"روميو"فكان"سوبر روميو"الذي شهد تبادلاً كثيفاً للرسائل بينه وبين صديقته خلال أشهر عدة. وعلى رغم انتهاء هذه العلاقة منذ فترة طويلة، إلا أن رامي يحتفظ بهذا العنوان للطوارئ، ويقول:"في حال دلتني قرون الاستشعار أن إعجاباً ما على وشك أن يبدأ بيني وبين فتاة في الجامعة أو في النادي، أعطيها هذا العنوان، لكنني الآن احتفظ بعنوانين آخرين في موقعين مختلفين أحدهما خاص بالجامعة، وأتلقى فيه رسائل من أساتذتي وزملائي ومعظمها يتعلق بالدراسة أو الابحاث المطلوب تسليمها، أو ملاحظات يبديها الاستاذ على عملي، وأتلقى رسائل من مكتبة الجامعة عليه لتذكرني بموعد إعادة الكتب المستعارة، أو وجود كتاب كنت أبحث عنه وغير ذلك من الشؤون الدراسية، وشخصياً أطلق على هذا البريد البريد الإداري". أما العنوان الآخر فيصفه بأنه"طحن موت! فقد اخترت اسم"استيوبيد"واكتبه بالانكليزية estyobid وليس stupid. ولهذا الاسم قصة، كنت واصدقائي نقف في محل للوجبات السريعة، ودخلت فتاة ترتدي ملابس حمر صارخة مزينة بقطع حديد لامعة وضخمة، وتضع اطناناً من مستحضرات التجميل في وضح النهار، فقلت لها ساخراً: نهارنا ترتر. فنظرت الي وقالت"استيوبيد"، أضحكتني الكلمة وجعلتها عنواناً لبريدي". المشكلة التي يواجهها رامي الآن هي تشتت وقته بين متابعة بريده الالكتروني المتعدد العناوين، وتلقي الرسائل على هاتفه النقال والرد عليها، وهي العادة التي تطورت أخيراً لتمتد الى الفضائيات. يقول:"نعم إنني لا أهوى مشاهدة الاغاني والافلام والتلفزيون عموماً، لكنني ما ان أمر أمام التلفزيون وأرى شريط الرسائل القصيرة أسفل الشاشة، حتى أسارع لا شعورياً الى هاتفي النقال وأبدأ في ارسال رسائل، غالباً تكون سخيفة". لكنها ليست المشكلة الوحيدة لدى رامي، فهو أعلن أخيراً عن حاجته الماسة الى اقتناء كومبيوتر محمول معتبراً إياه"ضرورة قصوى". وعلى رغم أن السبب المعلن هو استثمار كل وقت ممكن في تصفح المعلومات الخاصة بالصيدلة وإعداد الأبحاث المطلوبة منه، إلا أن والدته واشقاءه على يقين بأن السبب الحقيقي هو إرسال أو استقبال الرسائل الالكترونية، لا سيما بعد ما لوحظت عودة الحياة مجدداً الى عنوان"سوبر روميو"البريدي الذي"يشيكه"بمعدل كل نصف ساعة. قد تكون"جولييت"أرسلت مشاعر الكترونية تستدعي الرد الفوري.