كل يوم خميس يضع حازم على مكتبي عشرات من الرسائل البريدية التي تصل الى بريدي من كل صوب وحدب .. أغلبها يتعلق بالأعمال الادارية والتنظيمية لبعض الأنشطة والأعمال التي أشرف عليها .. وقليل جداً منها يتعلق بقضايا لها شأن بعملي الصحفي أو كتاباتي في الصحف أو ما أصدره من كتب .. والسبب الرئيسي في قلة الرسائل البريدية هو انتشار التكنولوجيا وسيطرتها على تفاصيل حياتنا اليومية .. وصرت أتلقى التعليقات على كتاباتي الصحفية إما من خلال التعليق المباشر على موقع الجريدة على الإنترنت مثلما هو وضع جريدة الرياض وكتاباتي كل يوم خميس .. أو من خلال رسائل البريد الإلكتروني التي أتلقاها عقب كل مقال. وسط تلك الرسائل البريدية كانت هناك رسالة مختلفة .. كان شكلها وتقسيمها بخلاف الرسائل الإدارية الأخرى .. كانت الرسالة عبارة عن ثلاث صفحات كتبت بخط اليد .. بقلم حبر أسود .. وخط متزن للغاية .. وكلمات منتقاة بدقة .. تقول صاحبة الرسالة: الحياة لم تعد على ما يرام .. لا تستغرب .. فأنا أكتب لك هذه الرسالة بخط اليد عكس ما صار دارجاً في أيامنا هذه بأن تكتب الرسائل بالكمبيوتر أو ترسل عبر البريد الإلكتروني .. يا عزيزي .. هذه رسالة خاصة لك حق في نشر ما تشاء منه مع وعد منك بعدم ذكر اسمي الحقيقي كما أضعه لك في هذه الرسالة .. لقد أصررت على أن أكتب لك هذه الرسالة بخط اليد مستخدمة قلماً من الحبر العتيق ورثته عن أبي الذي احتفظ به ذكرى من والده الراحل .. وكلاهما علامة من علامات الأدب العربي ورعاة الثقافة .. وإصراري أكثر على أن أرسلها لك مع ساعي البريد الذي فقد جزءا كبيراً من لذة عمله بنقل رسائل المودة والحب والغرام .. وصار لا ينقل سوى الخطابات الرسمية والقضايا والأزمات والمشاكل .. وصارت عواطفنا ومشاعرنا تنتشر عن طريق الشبكة العنكبوتية اللعينة .. التي لا تعبر بشكل حقيقي عن عمق المشاعر وحجم المودة .. عندما تكتب يا سيدي الفاضل رسالة حب ووله وعشق بخط اليد تنتقل مشاعرك وتسري من جسدك عبر حبر الأقلام ولا تجف على سطح الرسالة .. بل تنتقل إلى عين من يقرأها وتستقر في وجدانه .. فقدنا يا سيدي كل تلك المشاعر .. واستبدلناها برسائل الكترونية ومسجات هاتفية .. بلا روح أو إحساس. لم تنته الرسالة .. ولكنها بعد ذلك تطرقت الى حكاية شخصية للغاية .. أعتذر عن نشرها .. ولكنني أشارك القارئة الكريمة إحساسها وموقفها .. وأظننا بحاجة إلى عودة حقيقية لإحياء عادة الرسائل البريدية .. واستعادة ساعي البريد لدوره الحقيقي في نقل رسائل الحب والمودة والاشتياق. يرتبط ساعي البريد بذاكرتنا .. وبالتاريخ .. وبقصص العشاق .. وبقصائد الشعراء .. وبحكايات الأدباء .. انتهى زمن ساعي البريد .. وجاء زمن هوت ميل وجوجل وياهو والفيس بوك .. رحمك الله يا أبو رامي الذي كان يقول عنك والدي ( كنت في صيف القاهرة في منتصف الخمسينيات أحن إلى أهلي وأصحابي .. لا يطفئ الشوق إلا صوت أبو رامي وهو يصيح .. بريد .. بريد .. بريد) .. ودمتم سالمين.