في عام 1997 أخذني أحد أصدقائي إلى مقهى للإنترنت وقال: «سأفتحُ لك صندوقاً بريدياً يُدعى هوتميل» فقلتُ له إن والدي لديه صندوق بريدي وأستقبل كل المراسلات البريدية من خلاله، فضحك وقال لي بأن البريد الإلكتروني هو «العالم الجديد». كانت تلك مرحلة الانبهار العظيم بالنسبة لي؛ فلم أكن أعلم بأنني لم أكن أعلم بوجود عالم آخر اسمه الإنترنت، وكم كانت فرحتي عظيمة عندما بدأتُ أراسل الناس من عنوان أول بريد إلكتروني لي – ما زلتُ أحتفظ به إلى اليوم – الذي كلما أرسلتُ منه رسالة إلى شخص ما، أنتظر ردَّه بشوق ولهفة أمام الكمبيوتر لساعاتٍ طويلة. ولم تمضِ سنوات قليلة حتى حلّ البريد الإلكتروني محل البريد التقليدي تماماً، وصار الناس يملكون عدة عناوين في شركات مختلفة كياهو وغوغل. ولكن ما لم يتوقعه أحد هو أن ينتهي زمن البريد الإلكتروني الذي نعتبره أحد المسلمات الحياتية، كالسيارة والطائرة والكمبيوتر وغيرها. فقبل عام أطلق (تيري بروتون) رئيس شركة (أتوس) الفرنسية المتخصصة في تقنية المعلومات، مبادرة قال فيها إن شركته ستكون خالية من البريد الإلكتروني تماماً خلال ثلاث سنوات، وذلك لأن البريد الإلكتروني، حسب قوله، هو من أكثر الأشياء التي تضيع وقت الموظفين. وبسبب تطور التقنية، سيصبح ما يعرف اليوم ب»طوفان المعلومات» أحد أخطر التحديات التي تواجه الشركات في السنوات القادمة، وخصوصاً إذا علمنا بأن 30% من الرسائل البريدية التي نستلمها كل يوم تُصنّف كرسائل (مُزعِجة). الغريب في الأمر أن بروتون دعا موظفيه لاستخدام الشبكات الاجتماعية، كتويتر وفيسبوك، للتواصل عوضاً عن البريد الإلكتروني؛ ففي تلك الشبكات يكون عدد الرسائل التي يتلقاها أو يرسلها الموظف أقل بكثير عن البريد الإلكتروني. وقد يتساءل أحدنا: أليس في ذلك مضيعة لوقت الموظفين الذين قد يستخدمون هذه الشبكات لأغراض التسلية؟ نعم، ولكن التواصل على هذه الشبكات يدفع مستخدميها للاختصار في الكتابة، كما أنه يقلل إلى حد كبير من رسائل الدعايات والعروض التسويقية التي تشتت انتباه الموظف. وعلى رغم كثرة المعلومات التي يتلقاها المرء على هذه الشبكات، إلا أنه يمكن للمستخدم أن يحدّ من حجمها، بل ويختار نوعية المعلومات التي تهمه، وهو شيء غير متوفر في البريد الإلكتروني. لو قارن أحدنا بين الرسائل التي يرسلها بالبريد الإلكتروني والرسائل التي يرسلها من خلال شبكات التواصل الاجتماعي فسيجد بأن حجم الرسائل الأخيرة يقل بكثير عن الأولى، وهي كذلك مختصرة ومقتضبة. اسأل نفسك: متى كانت آخر مرة أرسلتَ فيها صورة أو مقطع فيديو إلى بريد أحدهم؟ وإلى أي مدى تعتمد على برامج التواصل الاجتماعي الموجودة في هاتفك، كبرنامج (الماسنجر) في البلاك بيري، أو (واتس آب) في الآي فون، في التواصل مع الناس مقارنة بالبريد الإلكتروني؟ ليس هذا فقط، ولكن عصر الأفلام الطويلة قد يشارف على الانتهاء أيضاً مع تسيّد يوتيوب ساحة الفيديو، فلقد بدأت ظاهرة الأفلام القصيرة؛ التي لا تتجاوز نصف ساعة كحد أقصى، تنتشر بسرعة على يوتيوب وفيميو، وحسب يوتيوب فإن أكثر مقاطع الفيديو مشاهدة هي التي لا تتجاوز مدتها أربع دقائق! أما بالنسبة للقراءة على الإنترنت فإن الناس تفضل قراءة المقاطع القصيرة جداً. ففي دراسة قام بها جيكوب نيلسون، المستشار في الدراسات المتخصصة في الإنترنت، وجد بأن الناس تقضي 4.4 ثانية لقراءة كل مئة كلمة. (وبما أن كلمات هذا المقال تبلغ 650 كلمة تقريبا فمن المفترض أن قارئه سيقضي 28 ثانية فقط لقراءته). ولقد قال لي باولو كويلو مرة بأن أغلب النصوص التي ينشرها على موقعه يمكن قراءتها في عشرين ثانية فقط؛ حيث إنه لم يعد لدى الناس جَلَدٌ على القراءة، وأذكر أنه قال: «الكتابة اليوم لقارئ الإنترنت تختلف عن الكتابة في الثمانينات لقارئ الروايات». كل هذه التغيرات تجعلني أتساءل: هل ندرك مدى تأثيرها على ثقافتنا وأفكارنا وهوياتنا؟ وهل حقاً نعلمُ بأننا صرنا نبحث عن السرعة، وعن الاختصار، وصرنا في عجلة من أمرنا دون أن نعلم لماذا؟ وهل نعلم إن كنا سعداء بهذا الوقْعِ السريع والمقتضب لحياتنا؟ أم أننا نمارسه لأننا أصبحنا جزءاً من المنظومة العالمية التي تهرع لشراء وجبة من ماكدونالدز لأنها تعلم بأنه لن يؤخر طلبها، وتسارع إلى شرب قهوة ستاربكس لأنها سريعة التحضير، وتدمن استخدام تويتر لأنه لا يعطي الآخرين فرصة «لإزعاجنا» بحكاياتهم الإنسانية البسيطة التي قد تمتد لساعات على شاطئ البحر؟ لا أملك إجابات لهذه التساؤلات، ولكنني أعلمُ بأن العالم لن يعود هادئاً ومشوقاً ومُبْهِراً كما كان عندما فتحتُ أول بريد إلكتروني لي.