أعادت حوادث تفجيرات طابا ونويبع في تشرين الأول أكتوبر الماضي أسفرت عن مصرع 14 اسرائيلياً وتسعة مصريين وايطاليتين وروسي وثمانية مجهولين واصابة 159 شخصاً طرح الأسئلة حول"بدو سيناء"وولائهم وطبيعة الأدوار التي لعبوها عبر التاريخ. إذ كان هؤلاء عرضة للكثير من الشك في وطنيتهم خلال الاحتلال الاسرائيلي لشبه جزيرة سيناء، وبعد التحرير لم تكن سوى أخبار عن تهريب مخدرات وزراعة آلاف الأفدنة في سيناء بنبات "البانغو"المخدر الموضة الأحدث بين المدمنين بواسطة البدو. ودائماً هم في السياق إذا ما دار حديث حول تهريب البضائع والأسلحة عبر الحدود، في وقت تزدهر الليالي السياحية الاسرائيلية التي يقيمها البدو في بقاع صحراوية سحرية من شبه الجزيرة. ولم تكن حوادث تفجيرات طابا ونويبع وضلوع بعضهم في تقديم مساعدات لوجستية للمنفذين سوى دعم جديد للتشويه الذي طاول البدو. وقبل يومين قُتل بدوي في اشتباك مع الشرطة في جنوبسيناء قالت الشرطة انه كان ضمن المجموعة التي نفذت تفجيرات طابا ونويبع. وأكد بيان رسمي لوزارة الداخلية انه كان ضمن منفذي الهجوم على مخيم البادية في منطقة نويبع على البحر الأحمر، واعتقل ثلاثة مواطنين من بدو سيناء قدموا الدعم بالمعدات والمتفجرات لمرتكبي الحادث. على رغم أنه انتقل إلى القاهرة قبل ستة أعوام ليدرس التجارة في جامعة القاهرة، إلا أن الشاب البدوي عبد الرحمن سليم 27 عاماً يشير إلى غير البدو مستخدماً كلمة"المصاروة". ولا يزال ولاؤه الكامل لقبيلته التي تعيش في صحراء سيناء، على رغم ذكريات الطفولة القاسية في الصحراء. وسليم هو نموذج لآلاف البدو الذين هجروا حياة القبائل بحثاً عن العمل أو التعليم أو الحياة المستقرة في وادي النيل. ويعد ملف البدو المصريين واحداً من أكثر الملفات المثيرة للجدل. فهم في نظر بعضهم جزء ذو طبيعة خاصة من التكوين المصري، فيما يراهم البعض الآخر طابوراً خامساً ومجموعة من مزدوجي الانتماء. لكن ما لا ينكره الجميع أن البدو يعانون إهمالاً كبيراً وظروفاً معيشية صعبة. يشكل البدو 75 في المئة من سكان سيناء. وينتشرون في المناطق الحدودية المصرية. ووفقاً لآخر الإحصاءات الرسمية، فإن عددهم في مصر يبلغ 300 ألف نسمة، فيما يقدرهم بعض التقارير بنصف مليون نسمة. وتراوح أعدادهم في تجمعاتهم القبلية بين ثلاثة وأربعة آلاف في المتوسط، طبقاً لأحد شيوخ القبائل. ويتشكل بدو سيناء من نحو عشر قبائل كبرى تتفرع منها عشرات التجمعات القبلية الصغيرة. ويعيش في محافظة جنوبسيناء وحدها أكثر من 80 تجمعاً قبلياً. وتتحدر غالبية القبائل من الجزيرة العربية، باستثناء قبيلة"الجبيلية"التي جاءت من شرق أوروبا لخدمة دير سانت كاترين في القرن السادس قبل الميلاد، قبل أن تتحول إلى الإسلام وتستمر في خدمة الدير، وهي أصغر القبائل 1500 نسمة. وتقابلها قبيلة"الميزينا"التي تعد أكبر قبائل سيناء وأوسعها نفوذاً. تليها قبيلتا"التياها"و"الترابين"ذاتي الأصل والامتداد الفلسطيني. ثم تأتي قبائل مثل الأحيوات والصوالحة والعبابدة والسواركة. وساهمت الأخيرة في تغطية انسحاب القوات المصرية من سيناء في العام 1967، كما قادت وقبيلة الجريرية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي خلال حرب الاستنزاف التي سبقت حرب تشرين الأول 1973. ويقيم أكثر من 65 في المئة من البدو في الخيام ويشكل العاملون في الزراعة غير المستقرة نحو 85 في المئة من السكان. ويعتمد البدو الرحل الذين يصل عددهم إلى 50 ألفاً على الرعي والزراعة المتنقلة وتقديم الخدمات للسائحين. وتخصص الحكومة المصرية مساعدات دورية لتوطين مجموعات من البدو كان آخرها بالاشتراك مع برنامج الأممالمتحدة العالمي للغذاء العام الماضي لتوطين 3500 أسرة بدوية في سيناء."لكن الوحدات السكنية التي أنشأتها القوات المسلحة لهذا الغرض بقيت خاوية"، بحسب عضو البرلمان عن شمال سيناء الكاشف محمد الكاشف. وتوفر إجادة غالبية البدو للغة العبرية وامتداداتهم القبلية داخل إسرائيل، إلى جانب معرفتهم الكاملة بالطرق والمسالك الجبلية الوعرة في سيناء وعلى طول الشريط الحدودي مع إسرائيل فرصاً للعمل في تهريب المخدرات والبشر والسلاح. وترتبط عصابات التهريب البدوية بمافيا التهريب داخل إسرائيل. وعثرت الشرطة وقوات حرس الحدود المصرية على معدات حديثة إسرائيلية الصنع أثناء مطارداتها عصابات التهريب البدوية. وتوفر المافيا الإسرائيلية لامتداداتها البدوية الأسلحة وأجهزة الاتصال والرؤية الليلية والسترات الواقية من الرصاص، لتأمين وتسهيل تحركاتهم في المناطق الحدودية الوعرة. وفي مقابل بدو صحراء مصر الغربية الذين أضرهم التوسع السياحي في ساحل مصر الشمالي الغربي في شكل بالغ، حقق بدو سيناء إفادة كبيرة من النشاط السياحي الذي تنامى في منطقتهم في أعقاب حرب تشرين الأول 1973 ووصل إلى ذروته في عقد التسعينات من القرن الماضي، على رغم أنه تسبب في مصادرة بعض أراضيهم. وعمل بعضهم في الأنشطة المكملة في القرى السياحية مثل النقل والخدمات والتجارة، وتولوا تنظيم رحلات سياحة"السفاري". ويتعاملون مع السائحين من الإسرائيليين وغيرهم في شكل طبيعي. "عمل البدو في قطاع السياحة غيّر من منظومة تقاليدهم، لكنه لم يؤثر في شكل كامل على نمط حياتهم القبلي"، كما يقول الباحث في الشؤون البدوية الأنثروبولوجي محمد العليمي. فرص العمل التي وفرتها السياحة للبدو اقتصرت على قبائل جنوبسيناء فقط، وتركت الباقين يعانون الفقر المدقع في مواسم الجفاف وغياب الأمطار. ودفع هذا 50 في المئة من البدو إلى الزحف في اتجاه وادي النيل بحثاً عن الاستقرار، بحسب الكاشف، وهو يرى أن هجرة البدو الداخلية"أكثر خطورة من وجود الاحتلال". ويتيح أحد بنود اتفاقية"كامب ديفيد"للسلام المبرمة بين مصر وإسرائيل في العام 1979 للإسرائيليين حرية التنقل في مناطق من سيناء من دون الحاجة إلى استصدار تأشيرات دخول من السلطات المصرية. ويرى الكاشف في هذا البند أحد أهم عيوب الاتفاقية، مشيراً إلى الاستفزاز الذي يشعر به البدو من الحركة الحرة للإسرائيليين وجنودهم"كأنهم في بلادهم". وهو ما يعتقد الكاشف أنه أوقد شعوراً بالغضب في نفوس منفذي تفجيرات طابا التي استهدفت سائحين إسرائيليين في المدينة الحدودية المصرية الصغيرة. وفي أعقاب التفجيرات، اتهمت مصر مجموعة من البدو، يقودها فلسطيني يقيم في مدينة العريش، بالمسؤولية عن هذه الهجمات. واعتقلت أجهزة الأمن المصرية آلاف البدو واحتجزت نساء وأطفال من هرب منهم كرهائن، ضماناً لعودتهم، بحسب ناشطين حقوقيين. وأثارت الإجراءات الأمنية المشددة والاعتقالات الواسعة ردود فعل غاضبة في أوساط البدو. واعتصم ممثلو منظمات حقوقية في شمال سيناء، مطالبين بإطلاق المعتقلين. "الاعتقالات العشوائية الواسعة في صفوف البدو أقامت حاجزاً نفسياً بينهم وبين وطنهم"بحسب ما يقول مسؤول مركز الفجر لحقوق الإنسان في شمال سيناء أشرف أيوب. ويحذر الكاشف أيضاً من استراتيجية"الخوف"التي يتبعها الأمن مع البدو. ويقول إنهم أصبحوا يعيشون في حال رعب حقيقي قد يفضي إلى ما لا تحمد عقباه. وينشط أيوب وحقوقيون آخرون في جمع توكيلات قانونية من عائلات المعتقلين من أجل اتخاذ الإجراءات القانونية للمطالبة بإطلاقهم. ويقول إن عدد المعتقلين في مدينتي العريش والشيخ زويد وصل إلى خمسة آلاف معتقل، رفض النائب العام مقابلة المحامين الذين أوكلت إليهم مهمة الدفاع عنهم، ما يعتبره أيوب"تعطيلاً للقانون". ويعتقد أن الاعتقالات تأتي في سياق ترتيبات أمنية مصرية، تمهيداً لمرحلة ما بعد الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. ويقول أستاذ الجغرافيا السياسية في جامعة عين شمس محمد الديب ان"العرف القبلي هو القانون الأعلى في المجتمع البدوي". ويضيف:"يحرص البدو على تسوية خلافاتهم داخل القبيلة من دون اللجوء إلى السلطات المختصة التابعة للدولة". وتمتد التسوية العرفية من المشاجرات إلى جرائم القتل. وعلى غرار نظام المحاكم الحديثة، تتوزع اختصاصات القضاء العرفي على القبائل التي تتصدى كل واحدة منها للفصل في نوع من النزاعات دون غيره. وتلتزم القبائل الأخرى بالاحتكام إليها في مجال الاختصاص وغالباً ما تسري عليها أحكام القضاة العرفيين. وفي حال عدم رضا أحد الأطراف المتنازعة بالحكم، ترفع الرايات السوداء، إيذاناً بهذا الرفض وإعلاناً من رافعها بأنه سيحصل على حقه بالقوة. وطوال الأعوام الماضية، اعتمدت أجهزة الأمن المصرية سياسة حذرة في التعامل مع خروج أبناء القبائل عن القانون. وأقنع بعضهم شيوخ القبائل بتشكيل محاكم عرفية، يحضرها ممثلو أجهزة الأمن، لمحاكمة من يثبت تورطه في تهريب البشر عبر الحدود مع إسرائيل. واعتبر تقرير الخارجية الأميركية الذي صدر مطلع السنة الجارية تحت عنوان"الاتجار بالبشر"مصر واحدة من أبرز البلدان التي تلعب دور الوساطة في تجارة البشر، بسبب الدور الذي تلعبه عصابات البدو في تهريب فتيات روسيا ودول شرق أوروبا إلى إسرائيل، تمهيداً لعملهن في الدعارة والملاهي الليلية داخل إسرائيل. وأصيب عدد من رجال الشرطة المصرية في تبادل لإطلاق النار مع عصابة بدوية كانت في طريقها لتهريب 13 أجنبياً، غالبيتهم فتيات من شرق أوروبا، إلى إسرائيل في أيلول سبتمبر الماضي. وفي أيار مايو الماضي، قطع مئات من البدو الطريق عند معبر"العوجة"الحدودي مع إسرائيل في وسط سيناء، وحاصروا بعض رجال الشرطة، احتجاجاً على اعتقال زعيم عصابة تهريب ضبطت الشرطة في سيارته أسلحة ومخدرات وأجهزة اتصال. وقبلها بثلاثة أشهر، أعلنت الشرطة المصرية إصابة 7 من رجالها وهروب 5 سجناء في هجوم شنته مجموعة من البدو على قافلة كانت تقل سجناء مرحلين. ويرفض الكاشف إلقاء اللائمة على البدو وحدهم في عمليات التهريب. ويقول إن البدوي هو الحلقة الأخيرة في مسلسل التهريب الذي يبدأ في القاهرة وامتدادات مافيا التهريب في الخارج. ويضيف:"تمكنت الاستخبارات الحربية أخيراً من تحجيم تجارة المخدرات في شكل كبير وحرقت غالبية زراعات مخدر البانغو في المنطقة". وعلى رغم أن كاميرات مراقبة الحدود أدت بعشرات المهربين من أبناء القبائل إلى داخل السجون الإسرائيلية، فإن محاولات التسلل الناجحة مستمرة في معدلات كبيرة. وتعد مناطق"البرث"و"وادي العمر"و"القسيمة"من أبرز نقاط التسلل. ويستغل جهاز الاستخبارات الإسرائيلي"موساد"محاولات المتسللين من البدو في تجنيد العملاء. وهو نجح في تجنيد عدد منهم من هذه الطريق، وأشهرهم عامر سليمان أرميلات الذي احتجز بتهمة السرقة داخل إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وعاد إلى سيناء ليمد الإسرائيليين بالمعلومات حول الانتشار العسكري المصري فيها ويشكل شبكة من الجواسيس إلى جانب تجارته في المخدرات طوال عشرين عاماً، قبل أن تعاقبه محكمة أمن الدولة المصرية في العام 2000 بالأشغال الشاقة المؤبدة. وفي العام 1999، نزح 600 بدوي ينتمون إلى قبيلة"العزازمة"إلى صحراء النقب الإسرائيلية، طالبين اللجوء"هرباً من إهمال الدولة المصرية وغياب سيادة القانون". وأعلنت إسرائيل المنطقة التي حطوا فيها"منطقة عسكرية مغلقة"، قبل ان تحيل ملفهم على المحكمة الإسرائيلية العليا التي قررت طردهم بسبب"دخولهم غير الشرعي". وطالب شيخ القبيلة، وهو الوحيد الذي يحمل الجنسية المصرية بحسب أيوب، بإبقائهم داخل إسرائيل في جوار امتدادهم القبلي داخل النقب وخوفاً من بطش القبائل الأخرى في سيناء. لكن إسرائيل رفضت طلبهم. وتسلمهم الجيش المصري الذي أقام مخيماً موقتاً عند معبر"نتزانيا"لتأمين عودتهم وضمان عدم تعرضهم لأعمال انتقامية. ويقول أيوب إن العزازمة"لجأوا إلى النقب هرباً من خصومة ثأرية ولأن امتدادهم داخلها أكبر من امتدادهم في سيناء".