نبرة تشاؤمية حادة، صفحات من الهجاء والنقد القاسي، انحياز واضح إلى تعرية الواقع والمجتمع، وفضح التناقضات في العلاقات المجتمعية، وإخضاع العادات والتقاليد والمواضيع الاجتماعية، للشك والمساءلة، ذلك ما يمكن ملاحظته في وضوح، على غالبية الإصدارات الروائية الجديدة في السعودية، خلال السنوات القليلة المنصرمة. روايات لا تهادن الواقع، تنتقده في قسوة بالغة وجارحة في أحايين كثيرة، وكأن ثمة ثأراً قديماً بين هؤلاء الروائيين الذين يقتحمون السرديات الروائية بحماسة شديدة، وبين الواقع الذي ظل لزمن طويل، بعيداً من الانتقاد في شبه حصانة منيعة ضد كل ما يمكن أن يمس عاداته وتقاليده. يمكن ذكر عدد من هذه الروايات التي تذهب في نقد الواقع، نقد يقترب من النقمة، مثل:"نباح"عبده خال،"كائن مؤجل"فهد العتيق،"القارورة"يوسف المحيميد،"جرف الخفايا"عبد الحفيظ الشمري،"المكتوب مرة أخرى"أحمد الدويحي، وسواها. وفي غالبية هذه الروايات أمور عدة، تشكل قاسماً مشتركاً، كموضوع الجهاد في أفغانستان في ثمانينات القرن المنصرم، وحرب الخليج الثانية، ومظاهرة النساء من أجل قيادة السيارة، أيضاً هناك اللعب على موضوعة الدين والجنس والمرأة، ووضعها الإشكالي في مجتمع محافظ. واللافت ما تشهده هذه الروايات من إقبال واسع من مختلف شرائح المجتمع، والشباب على وجه الخصوص. بل هناك من يطرح، أن هذا الإقبال من القارئ على الرواية، هو الذي يدفع الروائيين إلى كتابة روائية تمارس الهتك، هتك كل ما تطاوله أيديهم. فيمكن القول أن ذلك الهجاء وتلك التعرية، دفعت إلى اتساع مساحة القراءة لهذه الروايات، مثلما يصح القول أيضاً أن الكثافة القرائية التي تقابل بها هذه الروايات، هي وراء إزدهار الرواية التي تتخذ من هذا المنحى أسلوباً لها. وفي الآونة الأخيرة، صار هناك من الروائيين من يتحدث عن طبعات عدة لعمله، وعن عروض للترجمة، وعن قراء يترقبون جديده، في تذكير بكتب ال"بيست سيلر"، في معناها الذي يتوقف عند السلبي والشعبي أو الأكزوتيكي، والسعي إلى تكبيره حتى يحتل كامل الصورة. بحث القارئ عن مزيد من الفضح والهتك، من دون اكتراث للقالب أو الأسلوب الذي يقدم من خلاله، هو ما فطن إليه الروائيون، واحداً تلو الآخر، فأخذوا يقدمون لهذا القارئ ما يريده من مضمون روائي، مرة في صورة تقترب من الواقع، وإن كانت تنزاح عنها في شكل أو آخر، بحكم طبيعتها وتقنياتها التي تتيح حضور العالم والأشياء، على قماشة لا تستطيعها الفنون الأخرى. ومرة تقدم هذا المضمون في صورة تختلق واقعاً، تفبركه وفق وصفة خاصة، يتحمس لها قارئ ناقم بدوره في الداخل، ويجد فيها قارئ آخر - عربي ما يشبع فضوله، حيال مجتمع لا يعرف عنه سوى ما تتداوله وسائل الإعلام، من صورة نمطية. ومن هنا يمكن القول، وكما يردد المتابعون لهذه الموجة من الروايات، أن القارئ في السعودية أخذ يقترح شكل الرواية التي يريدها، لا كما ينبغي على الروائي أن يفعل بتقصد وتخطيط. والملاحظ أنه وعلى رغم انتشار هذه الروايات في أوساط القراء، إلا أنه لا يزال هناك من يتعامل معها كما لو كانت منشوراً سرياً، يطول الحديث حول الشخصيات فيها، وما تعكسه من أنماط فكرية ودينية واجتماعية موجودة في المجتمع، لا أحد يجرؤ على انتقادها. لكن وبعيداً من الرواية كفن وكأفق تعبيري مفتوح، هل يمكن طرح جملة من التساؤلات، حول علاقة الواقع بالرواية التي تحاول معالجته، أو إعادة انتاجه؟ تختلف المقاربات والآراء، حول ما يفعله الروائي السعودي بالواقع والمجتمع في روايته، فهناك من يتلمس لهؤلاء الحجج، في إشارة إلى ضرورة النقد والفضح، ولن تكون الرواية التي يكتبها هؤلاء رواية في المعنى الحديث، والبعض الآخر يرى في ذلك النقد، مجرد وسيلة لإبراز الذات، ونقمة شكلية لا تذهب عميقاً في تعرية الواقع، وغايتها البحث عن الإثارة من أجل جذب القراء ليس أكثر، حين يذهب في اختصار المجتمع إلى شخصيات نمطية تحيل إلى مستويات من التفكير وأنماط الوعي، حتى ولو أدى ذلك إلى خلل فاضح وإرباك في بنية الرواية، بسبب التناقضات والافتعال في الأحداث وفي بناء الشخصية. الناقد محمد العباس الذي قدم عدداً من الدراسات المعمقة في الرواية السعودية الجديدة لامست بعمق بعض الإشكالات التي وقع فيها الروائيون، يقول عن هذه القضية:"الروايات الصادرة أخيراً، تراهن على اختراق الثوابت الفنية والمضمونية، من خلال التجريب والرهان على التوغل في مكامن اجتماعية وعرة، ولكن من دون عدة سردية مقنعة، فالخلطة الكلاسيكية للرواية الناجحة جماهيرياً تقوم على توليد المتعة الجمالية من خلال التصادم مع قضايا الدين والسياسة والجنس، وهو أمر ينبغي ملاحظته بتأمل الذوات الروائية الجديدة والتي تنتمي في غالبيتها إلى ما أنتج في شكل سريع في حيز الطبقة الوسطى". ويمضي العباس قائلاً:"معظم الروائيين يخافون من تسمية مكامن التسلط، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالسلطة الدينية أو السياسية، وعليه يتوجه الخطاب الروائي إلى مظاهر اجتماعية، من دون قدرة على إثارة الوعي بمسبباتها، أو التجادل الفكري بشروط تولد تلك الاختلالات، اضافة إلى تواضع مستوى الوعي أو الخبرة الحسية والتجربة الحياتية عند بعض الروائيين". ويتطرق مؤلف"ضد الذاكرة"و"حداثة مؤجلة"إلى القارئ الذي يجد في الراوي صدى له،"ثمة أمر آخر على درجة من الخطورة، وهو وجود قارئ يتلذذ بسماع صوته من خلال الراوي وداخل الرواية، بل ويراهن على ذلك، فالمروي له والمسرود له، بالمعنى النقدي يساهمان في تصعيد تلك النقمة من دون التفات إلى كفاءة السرد، أو اشتراطات الفعل الروائي، مع وجود روائي تحت الطلب الجماهيري. فهناك تواطؤ صريح بين الروائي والقارئ نتيجة لعدم وجود منبر للتعبير عن الرأي، وهو ما يحيل الفعل الروائي إجمالاً إلى خطاب، بكل ما تعنيه الكلمة من تداعيات سياسية ودينية ونفسية واجتماعية". بينما يلاحظ الناقد علي الشدوي، من خلال متابعاته لما يصدر من روايات سعودية، أن الروائيين يكتبون الرواية،"ظناً منهم بأنهم يكشفون الأسرار الاجتماعية... وفي تصوري الخاص أن هذا لا يعد شيئاً، إلاّ من قبيل لفت القارئ، وبحث عن تأثير للرواية أكثر منه تعبيراً جوهرياً داخل الرواية". ويقول:"إن ارتفاع الصوت الناقم، لا يمكن له أن ينتج رواية ناضجة، فالنبرة الحادة هي نبرة جازمة وخادعة وتهدف إلى ذر الرماد في العيون، كما أنها من جانب آخر سيطرة كلية للراوي على الرواية، ولا يمكن للرواية أن تكون بمفهومها الحقيقي، طالما أن الراوي يصنع فيها ما يشاء". ويطرح أن ذلك يؤدي إلى مأزق،"حيث يحول الرواية إلى منشور فضائحي، وهذا لا يمت الى الفن بصلة". بينما يقول الروائي عبده خال:"لا أكتفي بالمقولة الشهيرة"انظر إلى خلفك بغضب"، ولكن أضيف قائلاً:"انظر إلى كل الاتجاهات بغضب"ولا أقصد القطيعة مع كل شيء، ولكن لأن الأوضاع كافة التي تعيشها الأمة العربية في ترد مستمر". ويسأل:"هل الكتابة بهذه الصورة هي حال طبيعية لدى الكاتب، أي أن يرى كل ما حوله في هذه الصورة الناقمة، أم أن المسألة لا تتعدى لفت الانتباه بأنه غاضب؟". ويطرح أنه لا يمكن الحديث عن الفضح والتعرية والنقمة على المجتمع، من دون تحديد نماذج،"ومع ذلك هناك أناس يكتبون لافتعال الحال، ولكي يكتسب تعاطف القراء في داخل السعودية وفي الوطن العربي، بصفته صوتاً يقف مع العدالة والجمال وهو بخلاف ذلك. وسينتهي ذلك الصوت بمجرد خروج العمل من المطبعة، لأن كاتبه أصلاً رجل مخترق ومزور... أما عندما ينطلق الكاتب من واقع يؤمن به، فالمسألة تختلف هنا. وقد تتهم بأنك سوداوي، لكن القارئ لا يحاول مصادرة ملمحك السوداوي هذا... أما من يفتعل تلك النقمة، فتجد مفارقات وتناقضات مهولة في كتاباته، لأن انفعالاته لا تستمر طيلة عمل روائي مثلاً. لأنه يكتب بنفس مزيف أصلاً، وبالتالي لا تجد له صورة محددة لدى القارئ". انتصار لقيم الرواية الحديثة الروائي عواض العصيمي، الذي أصدر رواية"أو... على مرمى صحراء... في الخلف"، ورواية أخرى جديدة، صدرت أخيراً عن دار"شرقيات"، يرى أن المشهد الروائي،"يعيش حالياً مرحلة الالتفات إلى الداخل بذهنية تفكر فيه وتتأمله، وبأدوات تعبيرية أكثر وعياً وتنبهاً من ذي قبل... فقد استطاعت رواية اليوم تدريجاً أن تؤكد حضورها الفني المتنوع، واهتمامها المقصود بانتقاء مواضيعها، التي لها علاقة بإنسان الداخل، ومجتمع شبه الجزيرة، بعد أن أكدت تجاوزها الملحوظ لربكة البدايات وسطوة الإبداع الآتي إليها من دول الجوار. وهي عندما تلتفت اليوم إلى الداخل وتنتقده، أو تحلله بأدوات حديثة لفضح عيوبه، ونبش مواطن الضعف في يقيناته، وإقلاق راحة بؤر الفساد فيه، فإنما تنتصر في الواقع إلى دور الرواية الحديثة في تعرية كل هذه الأشياء وما يماثلها من انحرافات كثيرة ترتكب بأسماء متعددة وتحت عناوين مضللة".