لعل القرار الذي صدر أخيراً عن رئيس اتحاد الكتاب العرب علي عقلة عرسان بمنع ظهور أعضاء الاتحاد على شاشة "الحرة" هو بحد ذاته ما يعطي مبرر وجود مثل هذه القناة التي تدعو إلى "قيم الحرية والانفتاح" بحسب ما تقول، إذ أن قرار المنع يخالف أبسط الحقوق، والحريات... ويؤكد أن ثمة قيوداً كثيرة تكبل العالم العربي، و"ما أحوج هذا العالم إلى الحرية" وهو المبررالحاجة إلى حرية التعبير الذي يقف خلف إنشاء هذه القناة. وثمة ملاحظة جديرة بالتذكير هنا أن القرار جاء في مؤتمر اتحاد الكتاب العرب السنوي. وكان توجه الصحافي رزوق الغاوي الذي يعمل مراسلاً لإحدى الصحف العربية إلى مقر المؤتمر، بصورة طبيعية، بقصد تغطية فعاليات المؤتمر لصحيفته، وعلى رغم أن المؤتمر لم يكن يناقش "الأسرار النووية"، فإن المراسل الجاسوس بتعابير عرسان تعرض للزجر، والتوبيخ، والاهانة بسبب اقتحامه للقلعة العسكرية المحصنة"، وطرد من المؤتمر بأوامر غاضبة من رئيس الاتحاد، وهي واقعة تسهل على المرء تفسير قرار عرسان الذي اتخذه بصورة "ديموقراطية" و"شفافة". قد نختلف مع قناة "الحرة" في توجهاتها وفي خطابها الإعلامي، وقد تكون القناة مضللة في بعض طروحاتها على رغم كونها أفصحت عن أهدافها لدى إنشائها قبل سنة وهي تحسين صورة أميركا من دون أن تخفي مصدر التمويل وزارة الخارجية الأميركية ما يبطل هنا مفعول "نظرية المؤامرة" العزيزة على قلب كثر منا، لكن ما لا يمكن الاختلاف في شأنه هو الإقرار بأن هذا القرار لا يمكن التعاطي معه إلا بصفته نوعاً من القمع، والإكراه الذي ما فتئ يمارسه منذ عقود خلال الرئاسة العتيدة للاتحاد، فلا نسمع بهذا الأديب إلا عند صدور قرار بفصل، أو بمنع كتاب... ناهيك بأن القرار الأخير الذي أصدره "العروبي العتيد" يبدو مضحكاً في عالم اليوم حيث الفضائيات والإنترنت تغزو البيوت ولا تترك شيئاً إلا وتعريه، فهل مثل هذا القرار، الذي أصرت وزيرة المغتربين السورية بثينة شعبان، صائبة، على وصفه ب"التوصية"، سيكون مجدياً ومفيداً للمسوغات أو للأهداف التي صدر القرار من أجلها. عقوبة مخالفة القرار الذي "سيعمم على بقية الاتحادات"، قد تصل إلى حد الفصل من الاتحاد، ولئن بدا هذا الفصل غير مهم لكثير من المنتسبين ذلك أن المثقفين البارزين لا ينضوون تحت لوائه مثل محمد الماغوط وزكريا تامر وخيري الذهبي، على سبيل المثال، كما لا نعتقد أن فصل أدونيس من الاتحاد، على خلفية مشاركته في التسعينات في مؤتمر في إسبانيا شارك فيه إسرائيليون، قلل من شأن الرجل ومن مكانته الشعرية والنقدية البارزة. إلا أن القرار وفي الوقت الذي يبرر فيه لهؤلاء "عقوقهم"، فإنه يظهر الاتحاد وكأنه حزب ثوري، أو ثكنه عسكرية يقودها "مشير" مع عدد من المساعدين تسهل معرفتهم ككتبة لا ككتاب. والمفارقة أن القرار يأتي في وقت تزداد فيه الدعوات الرسمية السورية إلى الحوار مع الولاياتالمتحدة وفتح قنوات للتفاهم معها، وهو ما يتعارض مع قرار عرسان من دون شعور بالحرج من أن هذه القناة التي يدعو إلى مقاطعتها استضافت في برنامج جوزيف عيساوي شخصيات أدبية وفنية بارزة مثل اسعد فضة وشوقي بغدادي ومنى واصف والطاهر بن جلون وأحمد فؤاد نجم وأسامة أنور عكاشة وسواهم. فهل هؤلاء خانوا القضية؟ أم أنهم طرحوا آراءهم وأفكارهم بمنتهى الحرية، في منبر يختلفون معه في الرأي من دون أن يكون هذا الاختلاف سبباً للتمنع عن الظهور فيه، بل كان دافعاً إلى الظهور؟ وثمة مفارقة أخرى تتمثل في أن عرسان، ومن يرون رأيه، لطالما اعترضوا على ظهور بعض المسؤولين الإسرائيليين على قناة الجزيرة، مثلاً، بحجة أن هذه المساحة الزمنية التي تعطى لهؤلاء تسمح لهم بالتعبير عن وجهات نظرهم المعادية، فإذا كان هذا التصور صحيحاً فلماذا لا يترك عرسان المجال للأدباء، والمثقفين بالظهور على شاشة الحرة "العدوة" للتعبير، بدورهم، عن آرائه؟ كيف يمكن فهم هذه الازدواجية؟ ولا شك في ان هذا القرار يفضي إلى استنتاج بأن عرسان يؤمن بقوة الصورة ويعي أن التلفزيون كفن بصري وسلاح مهم وفعال في معركة مسرحها الخيال، فالأجدر به، والحال كذلك، أن يدعو إلى إنشاء قناة فضائية عربية تقف في وجه "الغزو الأميركي" سيرضي هذا التعبير بالتأكيد "تفكيره النضالي" وتعمل على تشويه صورة أميركا وذلك في مقابل الحرة التي تسعى إلى تلميع هذه الصورة في المنطقة، بدلاً من الأموال التي تصرف على دوريات الاتحاد وكتبها التي لا يقرأها أحد غير الرقيب، والمنضد وربما صاحب المقال أو الكتاب. ولا حاجة بنا إلى القول إن منطق المنع والمصادرة والوصايا، لم يعد يجدي نفعاً "فلا جدوى، كما يقول عبدالله الغذامي في كتابه "الثقافة التلفزيونية"، من الوقوف في وجه طغيان الصورة بل ينبغي العمل على إنتاج صور مضادة تضاهي في تأثيرها تلك الصور التي نخشى تأثيرها. ويستنتج الغذامي صاحب النقد الشهير للأنساق الفحولية المضمرة في الثقافة العربية! أن مقولة الغزو الثقافي ليست سوى "مقولة واهمة هدفها المبالغة في تخويف الذات"، لا سيما أن عرسان يتوجس من "نيران صديقة" تطلق من أرض العدو. قد يليق القرار بتاريخ صاحبه، لكنه قرار يطرح الكثير من التساؤلات حول مدى صلاحيته رئيساً لاتحاد يفترض فيه أن يدافع عن أعضائه، ولِمَ يتربع منذ ربع قرن على عرش هذا المنصب من دون إنجازات تذكر! ورحم الله إدوارد سعيد الذي لطالما استشهد بمقطع للشاعر سيزار لدى أي حديث له ينتقد فيه الغلو والراديكالية:" ليس لعرق أن يحتكر الجمال أو الذكاء أو القوة، وثمة متسع للجميع في موعد النصر"، ترى ألم يحن الوقت لترك هذه العقلية والايمان بأن العالم أوسع وأكثر تنوعاً وتعدداً مما يتوهم الكثر عندنا؟