على أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج اليها أثناء السير على الطرق الوعرة. في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية. عالياً، عالياً كان كُل شيء... عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة: يداً تحلب ثدي الغزالة، مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح. لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد. دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل، ودلتك عليّ سخرية مماثلة! ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من ايقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين. لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق. لم نبحث إلا عن الحاضر. ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة. ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، الى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة... ومشتقاتها. لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة. ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي الى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد. لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف الى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع الى هجائك المادح. ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر. لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها... فتركت ثعلباً منا بلا صاحب. لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت اضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع. ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ اعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال! هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف. فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب. كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية... لخداع أرامل الشهداء. وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية. الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد... أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، الى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر. كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم. وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر! ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر. لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار الى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية. كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك ان واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى اليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون. فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً الى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة! لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش... وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء... الا لينجبوا قتلى. يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه الى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق الى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد الى هذا الحد! لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، الى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت الى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم. ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا... لماذا؟ ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان، في احتفال اقيم مساء أمس في دمشق، بدعوة من وزارتي الإعلام والثقافة في سورية وعائلة الفقيد. وتحدّث في الاحتفال: الشعراء محمد الماغوط وأحمد عبدالمعطي حجازي ونزيه أبو عفش وعادل محمود، الناقدة عبلة الرويني، الصحافي طلال سلمان، المفكر صادق جلال العظم ووزير الثقافة السوري محمود السيد.