} "جدارية" قصيدة طويلة للشاعر محمود درويش كتبها عام 1999 وتصدر قريباً في كتاب عن دار رياض الريس للنشر. هنا مقطعان مجتزآن. خضراءُ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ، نهرٌ واحدٌ يكفي لأهمس للفراشة: آهِ، يا أُختي، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ الأساطير القديمة بالبقاء على جناح الصَّقْر، وَهْوَ يُبَدِّلُ الراياتِ والقممَ البعيدةَ، حيث أَنشأتِ الجيوشُ ممالِكَ النسيان لي. لا شَعْبَ أَصْغَرُ من قصيدته. ولكنَّ السلاحَ يُوَسِّعُ الكلمات للموتى وللأحياء فيها، والحُرُوفَ تُلَمِّعُ السيفَ المُعَلَّقَ في حزام الفجر، والصحراء تنقُضُ بالأغاني، أَو تزيدُ لا عُمْرَ يكفي كي أَشُدَّ نهايتي لبدايتي. أَخَذَ الرُّعَاةُ حكايتي وتَوَغَّلُوا في العشب فوق مفاتن الأنقاض، وانتصروا على النسيان بالأَبواق والسَّجَع المشاع، وأَورثوني بُحَّةَ الذكرى على حَجَرِ الوداع، ولم يعودوا... رَعَويَّةٌ أَيَّامنا رَعَويَّةٌ بين القبيلة والمدينة، لم أَجد لَيْلاً خُصُوصِيّاً لهودجِكِ المُكَلَّلِ بالسراب، وقلتِ لي: ما حاجتي لاسمي بدونكَ؟ نادني، فأنا خلقتُكَ عندما سَمَّيْتَني، وقتلتَني حين امتلكتَ الاسمَ... كيف قتلتَني؟ وأَنا غريبةُ كُلِّ هذا الليل، أَدْخِلْني إلى غابات شهوتك، احتضنِّي واعْتَصِرْني، واسفُك العَسَلَ الزفافيَّ النقيَّ على قفير النحل. بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولُمَّني. فالليل يُسْلِمُ روحَهُ لك يا غريبُ، ولن تراني نجمةٌ إلاّ وتعرف أَنَّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ، فهاتِني ليكونَ لي وأَنا أُحطِّمُ جَرَّتي بيديَّ حاضِريَ السعيدُ هل قُلْتَ لي شيئاً يُغَيِّر لي سبيلي؟ لم أَقُلْ. كانت حياتي خارجي أَنا مَنْ يُحَدِّثُ نفسَهُ: وَقَعَتْ مُعَلَّقتي الأَخيرةُ عن نخيلي وأَنا المُسَافِرُ داخلي وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ، لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها وبطائرِ الدوريِّ... لم أُولَدْ لأَعرفَ أَنني سأموتُ، بل لأُحبَّ محتوياتِ ظلِّ اللّهِ يأخُذُني الجمالُ إلى الجميلِ وأُحبُّ حُبَّك، هكذا متحرراً من ذاتِهِ وصفاتِهِ وأَنا بديلي... أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات، بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ في ليلٍ طويلِ... أَنا مَنْ يحدِّثُ نَفْسَهُ ويروِّضُ الذكرى... أَأَنتِ أَنا؟ وثالثُنا يرفرف بيننا "لا تَنْسَيَاني دائماً" يا مَوْتَنا! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا، فقد نتعلَّمُ الإشراق... لا شَمْسٌ ولا قَمَرٌ عليَّ تركتُ ظلِّي عالقاً بغصون عَوْسَجَةٍ فخفَّ بِيَ المكانُ وطار بي روحي الشَّرُودُ أَنا مَنْ يحدِّثُ نفسَهُ: يا بنتُ: ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ؟ إن الريح تصقُلُنا وتحملنا كرائحة الخريفِ، نضجتِ يا امرأتي على عُكّازَتيَّ، بوسعك الآن الذهابُ على "طريق دمشق" واثقةً من الرؤيا. مَلاَكٌ حارسٌ وحمامتان ترفرفان على بقيَّة عمرنا، والأرضُ عيدُ... ... ما قلتُ للطَّلَلِ: الوداع. فلم أَكُنْ ما كُنْتُ إلاّ مَرَّةً. ما كُنْتُ إلاّ مرَّةً تكفي لأَعرف كيف ينكسرُ الزمانُ كخيمة البدويِّ في ريح الشمال، وكيف يَنْفَطِرُ المكانُ ويرتدي الماضي نُثَارَ المعبد المهجور. يُشبهُني كثيراً كُلُّ ما حولي، ولم أُشْبِهْ هنا شيئاً. كأنَّ الأرض ضَيِّقَةٌ على المرضى الغنائيِّين، أحفادِ الشياطين المساكين المجانين الذي إذا رأوا حُلْماً جميلاً لقَّنُوا الببغاءَ شِعْر الحب، وانفتَحتْ أَمامَهُمُ الحُدُودُ... وأُريدُ أَن أَحيا... فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة. لا لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من دُوَارِ البحر، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ عن كَثَبٍ: وماذا بعد؟ ماذا يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة؟ هل يُعيدونَ الحكايةَ؟ ما البدايةُ؟ ما النهايةُ؟ لم يعد أَحَدٌ من الموتى ليخبرنا الحقيقة... أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض، انتظرني في بلادِكَ، ريثما أُنهي حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي قرب خيمتكَ، انتظِرْني ريثما أُنهي قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد. يُغْريني الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ حريةً، وعدالةً، ونبيذَ آلهةٍ... فيا مَوْتُ! انتظرني ريثما أُنهي تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ، حيث وُلدتُ، حيث سأمنع الخطباء من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه الزمان وجيشِهِ. سأقول: صُبُّوني بحرف النون، حيث تَعُبُّ روحي سورةُ الرحمن في القرآن. وامشوا صامتين معي على خطوات أَجدادي ووقع الناي في أَزلي. ولا تَضَعُوا على قبري البنفسجَ، فَهْوَ زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت الحُبِّ قبل أَوانِهِ. وَضَعُوا على التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ وُجِدَتْ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ وُجِدَتْ. وإلاّ، فاتركوا وَرْدَ الكنائس للكنائس والعرائِس أَيُّها الموت انتظر! حتى أُعِدَّ حقيبتي: فرشاةَ أسناني، وصابوني وماكنة الحلاقةِ، والكولونيا، والثيابَ. هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ؟ وهل تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء، أم تبقى كما هِي في الخريف وفي الشتاء؟ وهل كتابٌُ واحدٌ يكفي لِتَسْلِيَتِي مع اللاَّ وقتِ، أمْ أَحتاجُ مكتبةً؟ وما لُغَةُ الحديث هناك، دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ فُصْحى/ .. ويا مَوْتُ انتظرْ، يا موتُ، حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع وصحّتي، لتكون صيّاداً شريفاً لا يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع. فلتكنِ العلاقةُ بيننا وُدِّيَّةً وصريحةً: لَكَ أَنتَ ما لَكَ من حياتي حين أَملأها.. ولي منك التأمُّلُ في الكواكب: لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً. تلك أَرواحٌ تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها/ يا موت! يا ظلِّي الذي سيقودُني، يا ثالثَ الاثنين، يا لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ، يا دَمَ الطاووس، يا قَنَّاصَ قلب الذئب، يا مَرَض الخيال! اجلسْ على الكرسيّ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ تحت نافذتي. وعلِّقْ فوق باب البيت سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ! لا تُحَدِّقْ يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ الضعف الأَخيرةَ. أَنتَ أَقوى من نظام الطبّ. أَقوى من جهاز تَنَفُّسي. أَقوى من العَسَلِ القويّ، ولَسْتَ محتاجاً- لتقتلني - إلى مَرَضي. فكُنْ أَسْمَى من الحشرات. كُنْ مَنْ أَنتَ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب. كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر، ولا تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي الضرائبِ. لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في الشوارع. كن قويّاً، ناصعَ الفولاذ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ الثعالب. كُنْ فروسياً، بهياً، كامل الضربات. قُلْ ما شئْتَ: "من معنى الى معنى أَجيءُ. هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ، وأَنا أكثِّفُها، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني"../ ويا مَوْتُ انتظرْ، واجلس على الكرسيّ. خُذْ كأسَ النبيذ، ولا تفاوِضْني، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ إنسانٍ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ الغيبّ. استرح... فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا اليوم من حرب النجوم. فمن أَنا لتزورني؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار قصيدتي. لا. ليس هذا الشأنُ شأنَكَ. أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في البشريِّ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ/ هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها. هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد الرافدين. مِسَلَّةُ المصريّ، مقبرةُ الفراعنةِ، النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ وانتصرتْ، وأَفْلَتَ من كمائنك الخُلُودُ... فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريدُ وأَنا أُريدُ، أريدُ أَن أَحيا... فلي عَمَلٌ على جغرافيا البركان. من أَيام لوط إلى قيامة هيروشيما واليبابُ هو اليبابُ. كأنني أَحيا هنا أَبداً، وبي شَبَقٌ إلى ما لست أَعرف. قد يكونُ "الآن" أَبعَدَ. قد يكونُ الأمس أَقربَ. والغَدُ الماضي. ولكني أَشدُّ "الآن" من يَدِهِ ليعبُرَ قربيَ التاريخُ، لا الزَّمَنُ المُدَوَّرُ، مثل فوضى الماعز الجبليِّ. هل أَنجو غداً من سرعة الوقت الإلكترونيّ، أَم أَنجو غداً من بُطْء قافلتي على الصحراء؟ لي عَمَلٌ لآخرتي كأني لن أَعيش غداً. ولي عَمَلٌ ليومٍ حاضرٍ أَبداً. لذا أُصغي، على مَهَلٍ على مَهَل، لصوت النمل في قلبي: أَعينوني على جَلَدي. وأَسمع صَرْخَةَ الحَجَر الأسيرةَ: حَرِّروا جسدي. وأُبصرُ في الكمنجة هجرةَ الأشواق من بَلَدٍ تُرَابيّ إلى بَلَدٍ سماويّ. وأقبضُ في يد الأُنثى على أَبَدِي الأليفِ: خُلِقْتُ ثم عَشِقْتُ، ثم زهقت، ثم أَفقتُ في عُشبٍ على قبري يدلُّ عليَّ من حينٍ الى حينٍ. فما نَفْعُ الربيع السمح إن لم يُؤْنسِ الموتى ويُكْمِلْ بعدهُمْ فَرَحَ الحياةِ ونَضْرةَ النسيان؟ تلك طريقةٌ في فكِّ لغز الشعرِ، شعري العاطفيّ على الأَقلِّ. وما المنامُ سوى طريقنا الوحيدة في الكلام/ وأَيُّها الموتُ التَبِسْ واجلسْ على بلَّوْرِ أَيامي، كأنّكَ واحدٌ من أَصدقائي الدائمين، كأنَّكَ المنفيُّ بين الكائنات. ووحدك المنفيُّ. لا تحيا حياتَكَ. ما حياتُكَ غير موتي. لا تعيش ولا تموت. وتخطف الأطفالَ من عَطَشِ الحليب إلى الحليب. ولم تكن طفلاً تهزُّ له الحساسينُ السريرَ، ولم يداعِبْكَ الملائكةُ الصغارُ ولا قُرونُ الأيِّل الساهي، كما فَعَلَتْ لنا نحن الضيوفَ على الفراشة. وحدك المنفيُّ، يا مسكين، لا امرأةٌ تَضُمُّك بين نهديها، ولا امرأةٌ تقاسِمُك الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحيِّ المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ. ولم تَلِدْ وَلَداً يجيئك ضارعاً: أَبتي، أُحبُّكَ. وحدك المنفيُّ، يا مَلِكَ الملوك، ولا مديحَ لصولجانكَ. لا صُقُورَ على حصانك. لا لآلئَ حول تاجك. أَيُّها العاري من الرايات والبُوق المُقَدَّسِ! كيف تمشي هكذا من دون حُرَّاسٍ وجَوْقَةِ منشدين، كَمِشْيَة اللصِّ الجبان. وأَنتَ مَنْ أَنتَ، المُعَظَّمُ، عاهلُ الموتى، القويُّ، وقائدُ الجيش الأَشوريِّ العنيدُ فاصنع بنا، واصنع بنفسك ما تريدُ