"أي شيء إلا التعليم! هذه مهنة تقليدية لا تتناسب وروح العصر!" . كان هذا رد فعل"أمل"العفوي على اقتراح والدتها التخصص في مادة الرياضيات لتصبح عند تخرجها مدرّسة ثانوية."الهندسة هي مهنة العصر! سأثبت للجميع انني كفتاة استطيع أن أنجح في هذا الاختصاص الذي احتكره الشباب دائماً... سأكون مهندسة ميكانيكية!". ونجحت أمل في مباراة الدخول الى كلية الهندسة في الجامعة اللبنانية بتفوق. وبعد خمس سنوات من الدراسة الجدية، كانت تقف وسط أفراد دفعتها مرتدية زي التخرج بانتظار دورها للتقدم الى المنصة وتسلّم شهادتها من رئيس الجامعة. وكما نجحت في الدراسة، نجحت أيضاً في العمل ولم تتذمّر يوماً من طول الدوام لتجاوزه أحياناً العشر ساعات في اليوم. كان كل شيء يسير كما اشتهت، حتى دق الحب قلبها وتزوجت. وقبل أسابيع قليلة من ولادة طفلها الأول بدأت الأسئلة تتزاحم في رأسها: كيف ستوفّق بين رعاية طفلها وبين دوام عملها الطويل؟ صحيح انها ستستعين بوالدتها وبمساعدة آسيوية استقدمتها خصيصاً لكن هل هذا يكفي؟ ماذا سيكون دورها هي الأم في حياة طفلها؟ عشر ساعات من العمل وأكثر من ساعة للوصول الى العمل وللعودة الى المنزل. إن مهنتها أساسية جداً في حياتها مادياً ومعنوياً ولم تتصور يوماً أن ظروف ممارستها ستتعارض بقوة مع متطلبات الأمومة. لا مجال للحديث عن دوام نصفي! هذا نظام تخلّت عنه المؤسسات منذ استفحال العولمة ووفرة البدائل. أي تقصير من جانبها قد يتحوّل سبباً للاستغناء عنها. وتذكرت نصيحة أمها باختيار الرياضيات مجال تخصص لممارسة التعليم. وما لم تقتنع به يومها تجده منطقياً الآن! وما كانت تراه"مهنة تقليدية مضجرة"يبدو الآن استقراراً وانضباطاً في عدد ساعات العمل ودواماً معقولاً وإجازات اذا ما جمعت أيامها لوجدت انها تزيد على نصف أيام السنة! و"الزبائن"الصغار الذين سنتعامل معهم هم صورة عما سيصبح عليه طفلها. ووجدت نفسها تعدّل بمرونة في بوصلة اتجاهها المهني صوب التدريس مقتنعة بأنه الأنسب لدورها الجديد كأم! كما"أمل"كذلك فعلت الدكتورة وفاء التي وجدت نفسها أماً لطفل لا تراه إلا وهو نائم فآثرت استبدال العمل في المستشفى بالتدريس الجامعي في كلية الطب! هل هذا يعني تراجعاً في اندفاع الفتيات لاختيار حقول اختصاص غير تقليدية كانت لعقود طويلة حكراً على الرجال؟"طبعاً لا!"تطلقها بحزم إعلامية بارزة مارست التعليم في مرحلة ما من مراحل أمومتها. إذ ان هذه المهنة تشكل محطة اضطرارية موقتة للحفاظ على الاحساس بالالتزام المهني من دون الوقوع ضحية وخز الضمير عند حدوث أي تقصير تجاه الأولاد. حين يكبرون يمكن العودة الى المهنة الأصلية أو... تدريسها اذا تعقدت فرص ممارستها!". لكن هذا التدبير النسائي لا يعفي من ضرورة البحث عن حل في العمق. إن اعطاء الأم الدور الفضفاض في حياة الطفل وتحرير الأب أو تحرره من كثير من الالتزامات في هذا المجال يعوق حياة الأم ويحرمها من فرص كثيرة ويحدّ من تطورها. وكان لهذا الواقع أحياناً الأثر الكبير في تفضيل بعض الفتيات المهنة على الزواج والأمومة لأنهما يهددان بحرمانهن من نجاح بنينه بالجهد والسهر. ما حققته المرأة في السنوات الأخيرة من خطوات بارزة على صعيد العلم والعمل إذ ان أكثر من نصف طلاب الجامعات في معظم الاختصاصات حتى العلمية منها هم من الفتيات، وتبوؤها الكثير من المراكز العالية في المؤسسات العامة والخاصة، كل ذلك يفرض اعادة نظر جدية في قانون العمل وتضمينه بنوداً انسانية تحرص على مراعاة دور المرأة كأم ودورها كامرأة عاملة مهما كان نوع العمل الذي اختارته او توفر لها... لأن الخلل في هذا الأمر سينعكس سلباً على الواقع الاجتماعي ومستقبل الأسرة.